توما الأكويني: الفرق بين النسختين

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لا يوجد ملخص تحرير
لا ملخص تعديل
 
لا ملخص تعديل
 
سطر 1: سطر 1:
{{مراجعة الزملاء|7 أكتوبر 2023}}
{{معلومات فيلسوف
{{معلومات فيلسوف
|سابقة تشريفية  = [[ملفان|الملفان]]
|سابقة تشريفية  = [[ملفان|الملفان]]
سطر 8: سطر 7:
|الاسم          = توما الأكويني
|الاسم          = توما الأكويني
|الميلاد        = [[1225]]م / [[622 هـ]]
|الميلاد        = [[1225]]م / [[622 هـ]]
|مكان الولادة    = قلعة [[روكاسيكا]]، قرب أكوين، [[صقلية]]، [[ملف:Flag of the Kingdom of Sicily (Hohenstaufen).svg|25بك]] [[مملكة صقلية]]
|مكان الولادة    = قلعة [[روكاسيكا]]، قرب أكوين، [[لاتسيو|لَتسِيَّة]]، [[ملف:Flag of the Kingdom of Sicily (Hohenstaufen).svg|25بك]] [[مملكة صقلية]]
|الوفاة        = [[7 مارس]] [[1274]]م / [[673 هـ]]، دير فوسانوفا، [[لاتسيو]]، [[شبه الجزيرة الإيطالية|إيطاليا]]، [[ملف:C o a Gregorio X.svg|25بك]] [[الدولة البابوية]]
|الوفاة        = [[7 مارس]] [[1274]]م / [[673 هـ]]، دير فوسانوفا، [[لاتسيو|لَتسِيَّة]]، [[شبه الجزيرة الإيطالية|إيطاليا]]، [[ملف:C o a Gregorio X.svg|25بك]] [[الدولة البابوية]]
|المدرسة_التقليد= [[مدرسية (فلسفة)|المدرسية]]، مؤسس المذهب الفلسفي "[[توماوية|التوماوية]]"
|المدرسة_التقليد= [[مدرسية (فلسفة)|المدرسية]]، مؤسس المذهب الفلسفي "[[توماوية|التوماوية]]"
|اهتمامات_رئيسية= [[فوق طبيعي|الميتافيزيقيا]] (من ضمنها: [[علم اللاهوت المسيحي|اللاهوت]])، [[المنطق]]، [[عقل|العقل]]، [[أخلاق|الأخلاق]]، [[معرفة|المعرفة]]، [[فلسفة سياسية|السياسة]]
|اهتمامات_رئيسية= [[فوق طبيعي|الميتافيزيقيا]] (من ضمنها: [[علم اللاهوت المسيحي|اللاهوت]])، [[المنطق]]، [[عقل|العقل]]، [[أخلاق|الأخلاق]]، [[معرفة|المعرفة]]، [[فلسفة سياسية|السياسة]]
سطر 15: سطر 14:
|تأثرات بـ      = [[أرسطو]]، [[ألبرتوس ماغنوس]]، [[ابن سينا]]، [[ابن رشد]]، [[الكندي|يعقوب بن إسحاق الكندي]]، [[أبو حامد الغزالي]]، [[بولس الطرسوسي|بولس الرسول]]، [[أوغسطينوس|القديس أوغسطين]]، [[يوحنا الدمشقي]]، [[موسى بن ميمون]]
|تأثرات بـ      = [[أرسطو]]، [[ألبرتوس ماغنوس]]، [[ابن سينا]]، [[ابن رشد]]، [[الكندي|يعقوب بن إسحاق الكندي]]، [[أبو حامد الغزالي]]، [[بولس الطرسوسي|بولس الرسول]]، [[أوغسطينوس|القديس أوغسطين]]، [[يوحنا الدمشقي]]، [[موسى بن ميمون]]
|تأثيرات بـ    = [[غايلز الرومي]]، [[غودفري الفونتايي]]، [[جون لوك]]، [[دانتي أليغييري|دانتي]]، [[غوتفريد لايبنتس|ليبنتز]]، [[جاك مارتين]]، [[إتيان غليسون]]، [[جي. إي. إم أنسكومب]]، [[ميستير إكهارت]]، [[جي. كي. تشسترتون]]، [[جيمس جويس]]، [[أنتوني كيني]]، [[البابا بيوس الثاني عشر]]، [[أولافو دي كارفالو]]
|تأثيرات بـ    = [[غايلز الرومي]]، [[غودفري الفونتايي]]، [[جون لوك]]، [[دانتي أليغييري|دانتي]]، [[غوتفريد لايبنتس|ليبنتز]]، [[جاك مارتين]]، [[إتيان غليسون]]، [[جي. إي. إم أنسكومب]]، [[ميستير إكهارت]]، [[جي. كي. تشسترتون]]، [[جيمس جويس]]، [[أنتوني كيني]]، [[البابا بيوس الثاني عشر]]، [[أولافو دي كارفالو]]
|المهنة = عالم عقيدة وأستاذ جامعي وفيلسوف وكاتب وراهب  
|المهنة         = لاهوتي وأستاذ جامعي وفيلسوف وكاتب وراهب  
}}
}}
{{شريط جانبي مسيحية}}
'''[[قديس|القديس]] توما الأكويني''' أو '''توما الإكويني''' أو '''توماس إكواينيس''' (تُلفظ /əˈkwaɪnəs/)<ref group="إيط">TOMMASO d'AQUINO</ref><ref group="لات">THOMA E AQVINATIS</ref> أو -كما عُرف بالعربية أحياناً- '''توماس أكويناس''' (622هـ-673هـ) (ولد عام [[1225]] (وفي بعض المصادر [[1226]])<ref name="م1" group="عر"/>، وتوفي في السابع من مارس/آذار [[1274]]) راهبٌ دومينيكانيٌّ، و[[فيلسوف]]، وكاهنٌ [[كاثوليكية|كاثوليكيٌّ]]، ومَلفانٌ في [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|الكنيسة الكاثوليكية]].<ref group="هامش">المَلفان (بالسريانية: ܣܘܪܝܝܐ مَلفونو) وتعني المعلم، أو في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية "طبيب الكنيسة"</ref><ref group="إنج">Doctor of the Church</ref>، ويُشار له أيضاً باسم طبيب الكنيسة العالمية<ref group="لات">Doctor Ecclesiae Universalis</ref>، وهو لقبٌ تمنحه [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|الكنيسة الكاثوليكية]] لمن تعترف لهم بأنهم قدموا إسهاماً كبيراً في مجال اللاهوت أو العقيدة أو الإيمان المسيحي بعامةٍ من خلال دراساتهم أو كتاباتهم أو تعاليمهم.<ref group="هامش">سمّتِ الكنيسة الكاثوليكية -بدءاً من العام [[2020]]- ستةً وثلاثين مَلفاناً لها. سبعة عشر منهم ماتوا قبل [[الانشقاق العظيم]] في العام [[1054]] بين الكنيستين الغربية والشرقية، فهم يحظَوْنَ بتقديرٍ كذلك في [[الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية]] التي لا تستخدم اللقب الرسمي الغربي "دكتور الكنيسة". سبّب هذا اللقب "دكتور الكنيسة" لَبْساً عند بعض المترجمين فاعتبرَ الأكويني طبيباً، لكنه ليس بطبيب. (لقب دكتور {{إنج|''Doctor''}} ذي أصلٍ لاتيني تبنّته الكنيسة الغربية لتعني به صاحب تخصصٍ عالٍ في العقيدة {{إنج|''Doctrine''}})<br/>
{{الديمقراطية المسيحية}}
 
'''[[قديس|القديس]] توما الأكويني''' أو '''توما الإكويني''' أو '''توماس إكواينيس''' (تلفظ /əˈkwaɪnəs/)<ref group="إيط">TOMMASO d'AQUINO</ref><ref group="لات">THOMA E AQVINATIS</ref> أو -كما عُرف بالعربية أحياناً- '''توماس أكويناس''' (622هـ-673هـ) (ولد عام [[1225]] (وفي بعض المصادر [[1226]])<ref name="م1" group="عر"/>، وتوفي في السابع من مارس/آذار [[1274]]) راهبٌ دومينيكانيٌّ، و[[فيلسوف]]، وكاهنٌ [[كاثوليكية|كاثوليكيٌّ]]، ومَلفانٌ في [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|الكنيسة الكاثوليكية]].<ref group="هامش">المَلفان (بالسريانية: ܣܘܪܝܝܐ مَلفونو) وتعني المعلم، أو في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية "طبيب الكنيسة"</ref><ref group="إنج">Doctor of the Church</ref>، ويُشار له أيضاً باسم طبيب الكنيسة العالمية<ref group="لات">Doctor Ecclesiae Universalis</ref>، وهو لقبٌ تمنحه [[الكنيسة الكاثوليكية]] لمن تعترف لهم بأنهم قدموا إسهاماً كبيراً في مجال اللاهوت أو العقيدة أو الإيمان المسيحي بعامةٍ من خلال دراساتهم أو كتاباتهم أو تعاليمهم.<ref group="هامش">سمّتِ الكنيسة الكاثوليكية -بدءاً من العام [[2020]]- ستةً وثلاثين مَلفاناً لها. سبعة عشر منهم ماتوا قبل [[الانشقاق العظيم]] في العام [[1054]] بين الكنيستين الغربية والشرقية، فهم يحظَوْنَ بتقديرٍ كذلك في [[الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية]] التي لا تستخدم اللقب الرسمي الغربي "دكتور الكنيسة". سبّب هذا اللقب "دكتور الكنيسة" لَبْساً عند بعض المترجمين فاعتبرَ الأكويني طبيباً، لكنه ليس بطبيب.
 
ينقسم هؤلاء إلى سبعةٍ وعشرين من الغرب، وتسعةٍ من الشرق. ومنهم أربعة نسوةٍ وثمانيةَ عشرَ أسقفاً، واثنا عشر كاهناً، وشماسٌ واحدٌ، وثلاث راهباتٍ، وعذراءٌ مقدسة. ستة وعشرون من أوروبا (أحدهم [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت الكبير]] أستاذ توما الأكويني)، وثلاثة من إفريقيا، وسبعة من آسيا. عاش اثنا عشر منهم في القرن الرابع وحده. ويُشار عادةً إلى من عاشوا في القرون الثلاثة الأولى على أنهم آباء ما قبل [[مجمع نيقية|نيقية]]. أطول مدةٍ لملفانٍ ما بين وفاته ورسمه هي لـ[[أفرام السرياني]] (306-373)م، وبلغت نحو خمسة عشر قرناً ونصفَ قرنٍ (رُسم سنة 1920).
ينقسم هؤلاء إلى سبعةٍ وعشرين من الغرب، وتسعةٍ من الشرق. ومنهم أربعة نسوةٍ وثمانيةَ عشرَ أسقفاً، واثنا عشر كاهناً، وشماسٌ واحدٌ، وثلاث راهباتٍ، وعذراءٌ مقدسة. ستة وعشرون من أوروبا (أحدهم [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت الكبير]] أستاذ توما الأكويني)، وثلاثة من إفريقيا، وسبعة من آسيا. عاش اثنا عشر منهم في القرن الرابع وحده. ويُشار عادةً إلى من عاشوا في القرون الثلاثة الأولى على أنهم آباء ما قبل [[مجمع نيقية|نيقية]]. أطول مدةٍ لملفانٍ ما بين وفاته ورسمه هي لـ[[أفرام السرياني]] (306-373)م، وبلغت نحو خمسة عشر قرناً ونصفَ قرنٍ (رُسم سنة 1920).
<br/>ولبعض الكنائس الأخرى فئات مماثلة بأسماءٍ مختلفةٍ غير "دكتور الكنيسة" مثل ملفان في الكنائس السريانية (في السريانية ملفونو).</ref>
<br/>ولبعض الكنائس الأخرى فئات مماثلة بأسماءٍ مختلفةٍ غير "دكتور الكنيسة" مثل ملفان في الكنائس السريانية (في السريانية ملفونو).</ref>


فهو [[علم اللاهوت المسيحي|عالم لاهوتٍ]]، وفقيه مؤثر للغاية في تقليد [[مدرسية (فلسفة)|الفلسفة المدرسية]]، ويُعرف أيضاً بلقب العالِم الملائكي<ref group="لات">Doctor Angelicus</ref>، والعالم المشترك<ref group="لات">Doctor Communis</ref>، والعالم الكوني.<ref group="لات">Doctor Universalis</ref><ref group="هامش">انظر بيوس الحادي عشر (حبريته 22-1939م)، Studiorum Ducem 11 (29 يونيو/حزيران 1923)، AAS، XV {{لات|non-modo Angelicum، sed etiam Communem seu Universalem Ecclesiae Doctorem}} حيث دعاه بالعالم الكوني. ويرجع لقب الدكتور الملائكي {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Doctor Angelicus''}}}} إلى القرن الخامس عشر. انظر: Walz، Xenia Thomistica، III، p. 164. Note 4.
فهو [[علم اللاهوت المسيحي|عالم لاهوتٍ]]، وفقيه مؤثر للغاية في تقليد [[مدرسية (فلسفة)|الفلسفة المدرسية]]، ويُعرف أيضاً بلقب العالِم الملائكي<ref group="لات">Doctor Angelicus</ref>، والعالم المشترك<ref group="لات">Doctor Communis</ref>، والعالم الكوني.<ref group="لات">Doctor Universalis</ref><ref group="هامش">انظر بيوس الحادي عشر (حبريته 22-1939م)، Studiorum Ducem 11 (29 يونيو/حزيران 1923)، AAS، XV {{لات|non-modo Angelicum، sed etiam Communem seu Universalem Ecclesiae Doctorem}} حيث دعاه بالعالم الكوني. ويرجع لقب الدكتور الملائكي {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Doctor Angelicus''}}}} إلى القرن الخامس عشر. انظر: Walz، Xenia Thomistica، III، p. 164. Note 4.
<br/>أما أقدم إشارةٍ للقب "العالم المشترك" فتعود إلى القرن الرابع عشر، فقد كتب تولوميو دا لوكا في "التاريخ الكنسي" {{لات|Historia Ecclesiastica}} في العام (1317م): {{اقتباس مضمن|هذا الرجل هو الأسمى من بين معلمي الفلسفة واللاهوت المعاصرين، وفي الواقع في كل مادة. هذا هو الشعور والرأي العام، وحتى الآن في الجامعة في پاريس يسمونه '''العالم الكوميوني''' بسبب الوضوح الفائق لتعاليمه}}. (التاريخ الكنسي. الثالث والعشرون، ج. 9).</ref> يحدد الاسم الأكويني أصول أجداده من منطقة أكوينو في [[لاتسيو]] الحالية في إيطاليا. ومن بين الشؤون الأخرى أنه كان مؤيداً بارزاً لعلم اللاهوت الطبيعي، ومؤسساً لمدرسةٍ فكريةٍ تُعرف باسم «التوماوية».<ref group="إنج">Thomism</ref> جادل بأن الله هو مصدر كلٍّ من نور العقل الطبيعي ونور الإيمان، وكان تأثيره على الفلسفة الغربية كبيراً فقد عملتِ [[فلسفة حديثة|الفلسفة الحديثة]] على الكثير من أفكاره تطويراً وتنقيحاً، كما عارضتِ الكثيرَ منها لا سيما في مجالات الأخلاق، والحق الطبيعي، وما وراء الطبيعة، والنظرية السياسية.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
<br/>أما أقدم إشارةٍ للقب "العالم المشترك" فتعود إلى القرن الرابع عشر، فقد كتب تولوميو دا لوكا في "التاريخ الكنسي" {{لات|Historia Ecclesiastica}} في العام (1317م): {{اقتباس مضمن|هذا الرجل هو الأسمى من بين معلمي الفلسفة واللاهوت المعاصرين، وفي الواقع في كل مادة. هذا هو الشعور والرأي العام، وحتى الآن في الجامعة في پاريس يسمونه '''العالم الكوميوني''' بسبب الوضوح الفائق لتعاليمه}}. (التاريخ الكنسي. الثالث والعشرون، ج. 9).</ref> يحدد الاسم الأكويني أصول أجداده من منطقة أكوينو في [[لتسية|لاتسيو]] الحالية في إيطاليا. ومن بين الشؤون الأخرى أنه كان مؤيداً بارزاً لعلم اللاهوت الطبيعي، ومؤسساً لمدرسةٍ فكريةٍ تُعرف باسم «التوماوية».<ref group="إنج">Thomism</ref> جادل بأن الله هو مصدر كلٍّ من نور العقل الطبيعي ونور الإيمان، وكان تأثيره على الفلسفة الغربية كبيراً فقد عملتِ [[فلسفة حديثة|الفلسفة الحديثة]] على الكثير من أفكاره تطويراً وتنقيحاً، كما عارضتِ الكثيرَ منها لا سيما في مجالات الأخلاق، والحق الطبيعي، وما وراء الطبيعة، والنظرية السياسية.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
|عنوان = Super Boethium De Trinitate
|عنوان = Super Boethium De Trinitate
|مؤلف = Thomas Aquinas
|مؤلف = Thomas Aquinas
سطر 37: سطر 32:
}}</ref>
}}</ref>


تبنى الإكويني الأفكار التي طرحها [[أرسطو]] -الذي دعاه «الفيلسوف»– وحاول المزاوجة ببن فلسفته والعقيدة الكاثوليكية -على عكس العديد من التيارات في الكنيسة الكاثوليكية ذاكَ الوقت-<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
تبنى الإكويني الأفكار التي طرحها [[أرسطو]] -الذي دعاه «الفيلسوف»– وحاول المزاوجة ببن فلسفته والعقيدة الكاثوليكية -على عكس العديد من التيارات في الكنيسة الكاثوليكية وقتذاك-<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
|مؤلف1= Ralph McInerny
|مؤلف1= Ralph McInerny
|مؤلف2= John O'Callaghan
|مؤلف2= John O'Callaghan
سطر 58: سطر 53:
| تاريخ الوصول = 18-12-2012}}</ref>
| تاريخ الوصول = 18-12-2012}}</ref>


أشهر أعماله «أسئلة متنازَع عليها حول الحقيقة» <ref group="لات">SummaDisputed Questions on Truth</ref> وقد كُتب بين 1256-1259م، و«خلاصة ضد الوثنيين»<ref group="لات">Summa contra Gentiles</ref> وكتب ما يين 1259-1265م، و«[[الخلاصة اللاهوتية]]» بين 1265-1274م،<ref group="لات">Summa Theologica</ref> غير المكتمل ولكن المؤثر تأثيراً بعيد الغور. تشكل تعليقاته على [[الكتاب المقدس]] وعلى أرسطو أيضاً جزءاً مهماً من مجموعة أعماله، وهو يتميز -علاوةً على ذلك- بترانيمه الإفخارستية التي تشكل جزءاً من شعائر القداس الإلهي للكنيسة الكاثوليكية.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
أشهر أعماله «أسئلة متنازَع عليها حول الحقيقة» <ref group="لات">SummaDisputed Questions on Truth</ref> وقد كُتب بين 1256-1259م، و«خلاصة ضد الوثنيين»<ref group="لات">Summa contra Gentiles</ref> وكتب يين 1259-1265م، و«[[الخلاصة اللاهوتية]]» بين 1265-1274م،<ref group="لات">Summa Theologica</ref> غير المكتمل ولكن المؤثر تأثيراً بعيد الغور. تشكل تعليقاته على [[الكتاب المقدس]] وعلى أرسطو أيضاً جزءاً مهماً من مجموعة أعماله، وهو يتميز -علاوةً على ذلك- بترانيمه الإفخارستية التي تشكل جزءاً من شعائر القداس الإلهي للكنيسة الكاثوليكية.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
|تاريخ = 20-07-1998
|تاريخ = 20-07-1998
|مؤلف = Marie-Dominique Chenu
|مؤلف = Marie-Dominique Chenu
سطر 69: سطر 64:
|تاريخ أرشيف= 17-08-2021}}</ref>
|تاريخ أرشيف= 17-08-2021}}</ref>


توما الأكويني أحدَ أعظمِ اللاهوتيين والفلاسفة في [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|الكنيسة الكاثوليكية]]، وهي تُكرّمه بصفته قديساً وتعتبره المعلم النموذجي لمن يدرسون اللاهوت، كما يحظى باحترامٍ لدى الكنائس [[البروتستانتية]] كذلك. ويعتقد بعضهم أنه كان أعلى تعبيرٍ عن كلٍّ من العقل الطبيعي واللاهوت التأملي. استُخدمت دراسة أعماله في العصر الحديث -بفعل التوجيهات البابوية- ومنذ فترةٍ طويلةٍ كأساسٍ لبرنامج الدراسة المطلوب للساعين إلى الرسامة في سلك الكهنوت.<ref name="م5" group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
يعد توما الأكويني أحدَ أعظمِ اللاهوتيين والفلاسفة في [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|الكنيسة الكاثوليكية]]، وهي تُكرّمه بصفته قديساً وتعتبره المعلم النموذجي لمن يدرسون اللاهوت، كما يحظى باحترامٍ لدى الكنائس [[بروتستانتية|البروتستانتية]] كذلك. ويعتقد بعضهم أنه كان أعلى تعبيرٍ عن كلٍّ من العقل الطبيعي واللاهوت التأملي. استُخدمت دراسة أعماله في العصر الحديث -بفعل التوجيهات البابوية- ومنذ فترةٍ طويلةٍ كأساسٍ لبرنامج الدراسة المطلوب للساعين إلى الرسامة في سلك الكهنوت.<ref name="م5" group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
| مسار = https://www.vatican.va/archive/ENG1104/__PW.HTM
| مسار = https://www.vatican.va/archive/ENG1104/__PW.HTM
| عنوان = Code of Canon Law
| عنوان = Code of Canon Law
سطر 78: سطر 73:
| تاريخ الوصول =16-10-2023
| تاريخ الوصول =16-10-2023
| حالة المسار = dead
| حالة المسار = dead
}}</ref> وكذلك لمن هم في طور التكوين الديني، وللطلبة الآخرين في التخصصات اللاهوتية (مثل الفلسفة، واللاهوت الكاثوليكي، وتاريخ [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية]]، والشعائر الدينية الكاثوليكية<ref group="إنج">liturgy</ref>، والقانون الكنسي الكاثوليكي.<ref name="م5" group="وب-إنج"/>
}}</ref> وكذلك لمن هم في طور التكوين الديني، وللطلبة الآخرين في التخصصات اللاهوتية (مثل الفلسفة، واللاهوت الكاثوليكي، وتاريخ [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية]]، والشعائر الدينية الكاثوليكية<ref group="إنج">liturgy</ref>، والقانون الكنسي الكاثوليكي.<ref name="م5" group="وب-إنج"/> ويَعتبر الفيلسوفُ الإنجليزي «[[أنتوني كيني|أنطوني كيني]]» الأكويني {{اقتباس مضمن|واحداً من أعظم عشرة فلاسفةٍ في العالم الغربي}}،<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1993|ص=XI|لغة=en}}</ref> بينما لم يرَ [[بيرتراند راسل|برتراند رسل]] فيه {{اقتباس مضمن|من الجدارة ما يستحق به أن يوضع على قدم المساواة مع خيرة الفلاسفةِ سواءً في ذلك اليونان والمحدثون}}.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ص=243}}</ref>
ويَعتبر الفيلسوفُ الإنجليزي «[[أنتوني كيني|أنطوني كيني]]» الأكويني {{اقتباس مضمن|واحداً من أعظم عشرة فلاسفةٍ في العالم الغربي}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1993|ص=XI|لغة=en}}</ref> فيما لم يرَ [[برتراند رسل]] فيه {{اقتباس مضمن|من الجدارة ما يستحق به أن يوضع على قدم المساواة مع خيرة الفلاسفةِ سواءً في ذلك اليونان والمحدثون}}.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ص=243}}</ref>


== المناخ العام ==
== المناخ العام ==
سطر 85: سطر 79:
[[ملف:Ms.Thott.290.2º 150v.jpg|تصغير|يمين|صفحة من [[مخطوطة|مخطوطةٍ]] ألمانيةٍ من العام [[1459]] تشرح كيفية استخدام الشكل العربي ذي الخانات لنظام العدِّ العشري بواسطة [[أرقام عربية|الأرقام العربية]] بدلاً من الشكل الروماني القديم غير العملي.]]
[[ملف:Ms.Thott.290.2º 150v.jpg|تصغير|يمين|صفحة من [[مخطوطة|مخطوطةٍ]] ألمانيةٍ من العام [[1459]] تشرح كيفية استخدام الشكل العربي ذي الخانات لنظام العدِّ العشري بواسطة [[أرقام عربية|الأرقام العربية]] بدلاً من الشكل الروماني القديم غير العملي.]]
[[ملف:Gentile da Fabriano 015.jpg|تصغير|زخارف خطية من النمط شبيه الكوفي في الهالة التي تحيط برسم السيدة [[مريم]] في لوحةٍ بريشة «جينتايل دي فابريانو» ترقى إلى العام [[1423]]م. (فلورنسا-إيطاليا).]]
[[ملف:Gentile da Fabriano 015.jpg|تصغير|زخارف خطية من النمط شبيه الكوفي في الهالة التي تحيط برسم السيدة [[مريم]] في لوحةٍ بريشة «جينتايل دي فابريانو» ترقى إلى العام [[1423]]م. (فلورنسا-إيطاليا).]]
[[ملف:Arabo-NormanArchitecture.JPG|تصغير|لوحة تعود إلى [[القرن التاسع عشر|القرن التاسعَ عشرَ]] لقلعة زيسا في [[باليرمو|بلرم]] تظهر فيها [[الثقافة النورمانية العربية البيزنطية|التأثيرات الإسلامية في فن العمارة]]. تلاحَظ الزخارف التي تزدان بها الجدران وتيجان الأعمدة، والقبوات المتقاطعة في السقف، [[مقرنص|والمقرنصات]] والمقبوسة من [[فن إسلامي|فن العمارة الإسلامي]] و[[خط عربي|الخط العربي]]]]
[[ملف:Arabo-NormanArchitecture.JPG|تصغير|لوحة تعود إلى [[القرن 19|القرن التاسعَ عشرَ]] لقلعة زيسا في [[باليرمو|بلرم]] تظهر فيها [[الثقافة النورمانية العربية البيزنطية|التأثيرات الإسلامية في فن العمارة]]. تلاحَظ الزخارف التي تزدان بها الجدران وتيجان الأعمدة، والقبوات المتقاطعة في السقف، [[مقرنص|والمقرنصات]] والمقبوسة من [[فن إسلامي|فن العمارة الإسلامي]] و[[خط عربي|الخط العربي]]]]
[[ملف:Monreale BW 2012-10-09 10-05-10.JPG|تصغير|يمين|كاتدرائية بلدة [[مونريالي]] الشهيرة (بلرم - صقلية). يعود المبنى للقرن 12م، ويبدو جلياً نمط العمارة الأندلسية-شمال الإفريقية المبكرة.]]
[[ملف:Monreale BW 2012-10-09 10-05-10.JPG|تصغير|يمين|كاتدرائية بلدة [[مونريالي]] الشهيرة (بلرم - صقلية). يعود المبنى للقرن 12م، ويبدو جلياً نمط العمارة الأندلسية-شمال الإفريقية المبكرة.]]


جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ أطلق [[أوربان الثاني]] نداءَه لتحرير بيت المقدس. مع مطلع القرن الثالثَ عشرَ وعت أوروبا الغربية أن الانتصار العسكري في الشرق أعقد من مجرد حملاتٍ عسكريةٍ وحسب مهما كانت شاقةً ناهيك عن الانتصار السياسي، وكان الناس بُسطاءَ سُذّجاً يعتقدون أن المنتصر مؤيَّد من السماء ما أوجد عندهم شعوراً بالتناقض؛ كيف لنا أن نُهزم ونحن أصحاب العقيدة الحقة؟! {{اقتباس مضمن|فالمغزى الرئيسي إذن للحركة الصليبية هو أن أوروبا الغربية اكتشفت روحها من خلال هذه الحركة، وقد جَبّتْ [أي قطعت] هذه النتيجة الإيجابية بمراحلَ آثار الفشل السياسي والحربي الذي صادفته... وبهذا نجد أن الحروبَ الصليبيةَ قد أسفرت عن عكس الهدف المعلن في بدايتها تماماً}}،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=79}}</ref> وبرز دور «قومونات المدن» (في شمال إيطاليا بدءاً من القرن الحادي عشر) التي توسعت، ومافتئت تكافح -في مثابَرةٍ- لتحوز حريتها شيئاً فشيئاً من السادة الإقطاعيين، ثم أقامتِ الأحلافَ لترسيخ أقدامِها أو لتوسيع تجارتِها في أوروبا أو مع الشرق مثل رابطة الراين (حوالي [[1254]]م)، و[[الرابطة الهانزية]]<ref group="إنج">Henseatic League</ref> شماليَّ [[جبال الألب|الألب]] منذ 1252م<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ديورانت|1988||ج=15|ص=8}}</ref> التي ناهز عددها ثمانين مدينةً في [[القرن الرابع عشر الميلادي|القرن الرابع عشر]]،<ref group="هامش">الاسم الرسمي للرابطة الهانزية (أو عصبة المدن الهانزية) هو ''General Company of German Merchants'' أي الشركة العامة للتجار الألمان، ولما توسعَ نفوذُها واشتدَّ ضيّقت عليها شيئاً فشيئاً السلطات الملكية في جميع الدول حتى انقضت تقريباً في القرن الخامس عشر (انظر: فشر: تاريخ أوربا-العصور الوسطى (القسم الأول)، ص. 229).</ref> وبلغت قومونات المدن في شمال إيطاليا من الثراءِ حدّاً جعل -مثلاً- الفلورين<ref group="هامش">عملة ذهبية من إصدار مدينة [[فلورنسا]] اعتبرت أول عملةٍ أوروبيةٍ موحدةٍ في التاريخ.</ref> عملةً مقبولةً في جميع أنحاء أوروبا الغربية في العام 1252م، ومكّن [[البندقية]] من تمويل جزءٍ كبيرٍ من [[الحملة الصليبية الرابعة|الصليبية الرابعة]] (02-1204) على [[القسطنطينية]]، وبلغت واردات البندقية السنوية من الدولة المملوكية وحدها مليون دوكة في القرن الثالث عشر،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|1988|ج=2|ص=98}}</ref> وصاحب ذلك الازدهارَ بناءُ القصور والكاتدرائيات المدينية الضخمة على «[[العمارة القوطية|النمط القوطي]]» ذي الاستعاراتِ الواضحةِ من العمارة الإسلامية مثل القبوات ذات الأقواس المتقاطعة والزجاج المُعشّق، وتوسعت شبكةُ الطرق وجرى تحسينُها، وانتشرتِ النُّزُلُ البسيطة على الطرقاتِ للمبيت، وكان الزجّالون والشعراء الغنائيون الجوّالة (أو شعراء الفروسية الغزلون) الذين يُسمَّوْنَ [[تروبادور|التروبادور]]<ref group="هامش">من العربية طَرَب دَوْر.</ref> يرتحلون عبر الأرجاء يشدون قريضَهُمُ الرومانسي الذي استُقيت مواضيعه من الشعر والموشحات العربية، كالغزل والحب العذري والهُجران والتغني بالطبيعة والحماسة مما كان دخيلاً على الأدب الأوروبي المُقتصر على المواضيع الدينية في ذاك الأوان المبكر،<ref group="هامش">حسب ول ديورانت كان وليام العاشر (1080-1127) دوق أكيتان (أقطانية) (وقاعدتها [[بواتييه]]) أول من عُرف من الشعراء الغزلين، وكانت ذروة مجد شعراء الفروسية الغزلين الفرنسيين ما بين 1150 و1250. (انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة (الكتاب الخامس، ج 15)، ص.ص 3-4)، ويعود السبب في انقراضهم إلى الحملة الصليبية الألبجنسية.</ref> وكان الرهبان الفقراء ينتقلون من صَقعٍ إلى صقعٍ يبشرون بكلمة الرب مترسّمِينَ خُطا المسيح.<ref group="هامش">تنظيمات أخوياتِ الرهبان الفقراء (يُطلق عليهم أيضاً الرهبان المتسولون) {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Mendicant Orders''}}}} هي -في المقام الأول- بعض جماعات الرهبان الكاثوليك التي تبنت أسلوبَ حياةٍ من الفقر والترحال والعيش في المناطق الحضرية لأغراض الوعظ والتبشير والخدمة، وخاصةً للفقراء. في تأسيسها رفضت هذه الأنظمة النموذجَ الرهبانيَّ المعمولَ به الذي يفرض العيشَ في مجمعٍ واحدٍ مستقرٍ ومعزولٍ ([[دير|الأديرة]]) حيث يعملُ الأعضاء معاً في تجارةٍ ما، ويمتلكون ممتلكاتٍ مشتركةٍ، بما في ذلك الأراضي والمباني وغيرها من الحيازات، وهو ما أدى إلى تراكم ثرواتٍ طائلةٍ لدى الأديرة. على النقيض من ذلك تحاشى المتسولون حيازة عقاراتٍ على الإطلاق، ولم يعملوا في تجارةٍ ما، واعتنقوا أسلوب حياةٍ من الفقر والتجوال في كثيرٍ من الأحيان، واعتمدوا في عيشهم على حسن نية الناس -الذين بشّروا لهم- في دعمهم بمقوّمات البقاء الزهيدة التي يحتاجون، وقد كانوا -في ذلك الوقت- يتعرضون للهجوم من قبل بعض رجال الدين المتنفذين حتى إن الأكويني دافع عنهم، وكذلك المصلح اللاهوتي الإنجليزي "[[جون ويكليف|جون وايكليف]]" (28-1384) {{إنج|{{اقتباس مضمن|''John Wycliffe''}}}}.</ref> وسافر العديد من البحاثة إلى صِقليّة والأندلس والعالم العربيّ، وترجموا أعمالاً في الفلك والرّياضيّات، بما في ذلك التّرجمة الكاملة الأولى لـ"عناصر [[إقليدس]]".<ref>{{استشهاد مختصر|Clagett|1953|ص=16–42|لغة=en}}</ref> واستقدم ملوكُ صقلية النورمانُ أربابَ المعرفة من إيطاليا والعالم الإسلامي وغيرهما واستضافوهم في مجالسهم كنوعٍ من التقدير، أو لزيادة سمو مجالسهم.<ref>{{استشهاد مختصر|Lindberg|1978|ص=70-72|لغة=en}}</ref> في وقتٍ فشا فيه الجهل والأمية في المجتمع الغربي فشوّاً عظيماً.<ref group="هامش">يذكر غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" أن مكتبة الحكم المستنصر الخليفة الأموي (حكم 960-976م) في قرطبة ضمت ثلاثمئة ألف كتابٍ منها أربعة وأربعون مجلداً لفهارس قوائم الكتب، بينما بلغت مكتبة شارل الخامس (حكم 64-1380) الملك الفرنسي تسعمئة كتاب.</ref>
جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ أطلق [[أوربان الثاني]] نداءَه لتحرير بيت المقدس. مع مطلع القرن الثالثَ عشرَ وعت أوروبا الغربية أن الانتصار العسكري في الشرق أعقد من مجرد حملاتٍ عسكريةٍ وحسب مهما كانت شاقةً ناهيك عن الانتصار السياسي، وكان الناس بُسطاءَ سُذّجاً يعتقدون أن المنتصر مؤيَّد من السماء ما أوجد عندهم شعوراً بالتناقض؛ كيف لنا أن نُهزم ونحن أصحاب العقيدة الحقة؟! {{اقتباس مضمن|فالمغزى الرئيسي إذن للحركة الصليبية هو أن أوروبا الغربية اكتشفت روحها من خلال هذه الحركة، وقد جَبّتْ [أي قطعت] هذه النتيجة الإيجابية بمراحلَ آثار الفشل السياسي والحربي الذي صادفته... وبهذا نجد أن الحروبَ الصليبيةَ قد أسفرت عن عكس الهدف المعلن في بدايتها تماماً}}،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=79}}</ref> وبرز دور «قومونات المدن» (في شمال إيطاليا بدءاً من القرن الحادي عشر) التي توسعت، وما فتئت تكافح -في مثابَرةٍ- لتحوز حريتها شيئاً فشيئاً من السادة الإقطاعيين، ثم أقامتِ الأحلافَ لترسيخ أقدامِها أو لتوسيع تجارتِها في أوروبا أو مع الشرق مثل رابطة الراين (حوالي [[1254]]م)، و[[الرابطة الهانزية]]<ref group="إنج">Henseatic League</ref> شماليَّ [[الألب]] منذ 1252م<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ديورانت|1988||ج=15|ص=8}}</ref> التي ناهز عددها ثمانين مدينةً في [[القرن 14|القرن الرابع عشر]]،<ref group="هامش">الاسم الرسمي للرابطة الهانزية (أو عصبة المدن الهانزية) هو ''General Company of German Merchants'' أي الشركة العامة للتجار الألمان، ولما توسعَ نفوذُها واشتدَّ ضيّقت عليها شيئاً فشيئاً السلطات الملكية في جميع الدول حتى انقضت تقريباً في القرن الخامس عشر (انظر: فشر: تاريخ أوربا-العصور الوسطى (القسم الأول)، ص. 229).</ref> وبلغت قومونات المدن في شمال إيطاليا من الثراءِ حدّاً جعل -مثلاً- الفلورين<ref group="هامش">عملة ذهبية من إصدار مدينة [[فلورنسا]] اعتبرت أول عملةٍ أوروبيةٍ موحدةٍ في التاريخ.</ref> عملةً مقبولةً في جميع أنحاء أوروبا الغربية في العام 1252م، ومكّن [[البندقية]] من تمويل جزءٍ كبيرٍ من [[الحملة الصليبية الرابعة|الصليبية الرابعة]] (02-1204) على [[القسطنطينية]]، وبلغت واردات البندقية السنوية من الدولة المملوكية وحدها مليون دوكة في القرن الثالث عشر،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|1988|ج=2|ص=98}}</ref> وصاحب ذلك الازدهارَ بناءُ القصور والكاتدرائيات المدينية الضخمة على «[[عمارة قوطية|النمط القوطي]]» ذي الاستعاراتِ الواضحةِ من العمارة الإسلامية مثل القبوات ذات الأقواس المتقاطعة والزجاج المُعشّق، وتوسعت شبكةُ الطرق وجرى تحسينُها، وانتشرتِ النُّزُلُ البسيطة على الطرقاتِ للمبيت، وكان الزجّالون والشعراء الغنائيون الجوّالة (أو شعراء الفروسية الغزلون) الذين يُسمَّوْنَ [[تروبادور|التروبادور]]<ref group="هامش">من العربية طَرَب دَوْر.</ref> يرتحلون عبر الأرجاء يشدون قريضَهُمُ الرومانسي الذي استُقيت مواضيعه من الشعر والموشحات العربية، كالغزل والحب العذري والهُجران والتغني بالطبيعة والحماسة مما كان دخيلاً على الأدب الأوروبي المُقتصر على المواضيع الدينية في ذاك الأوان المبكر،<ref group="هامش">حسب ول ديورانت كان وليام العاشر (1080-1127) دوق أكيتان (أقطانية) (وقاعدتها [[بواتييه]]) أول من عُرف من الشعراء الغزلين، وكانت ذروة مجد شعراء الفروسية الغزلين الفرنسيين ما بين 1150 و1250. (انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة (الكتاب الخامس، ج 15)، ص.ص 3-4)، ويعود السبب في انقراضهم إلى الحملة الصليبية الألبجنسية.</ref> وكان الرهبان الفقراء ينتقلون من صَقعٍ إلى صقعٍ يبشرون بكلمة الرب مترسّمِينَ خُطا المسيح.<ref group="هامش">تنظيمات أخوياتِ الرهبان الفقراء (يُطلق عليهم أيضاً الرهبان المتسولون) {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Mendicant Orders''}}}} هي -في المقام الأول- بعض جماعات الرهبان الكاثوليك التي تبنت أسلوبَ حياةٍ من الفقر والترحال والعيش في المناطق الحضرية لأغراض الوعظ والتبشير والخدمة، وخاصةً للفقراء. في تأسيسها رفضت هذه الأنظمة النموذجَ الرهبانيَّ المعمولَ به الذي يفرض العيشَ في مجمعٍ واحدٍ مستقرٍ ومعزولٍ ([[دير|الأديرة]]) حيث يعملُ الأعضاء معاً في تجارةٍ ما، ويمتلكون ممتلكاتٍ مشتركةٍ، بما في ذلك الأراضي والمباني وغيرها من الحيازات، وهو ما أدى إلى تراكم ثرواتٍ طائلةٍ لدى الأديرة. على النقيض من ذلك تحاشى الرهبان المتسولون حيازة عقاراتٍ على الإطلاق، ولم يعملوا في تجارةٍ ما، واعتنقوا أسلوب حياةٍ من الفقر والتجوال في كثيرٍ من الأحيان، واعتمدوا في عيشهم على حسن نية الناس -الذين بشّروا لهم- في دعمهم بمقوّمات البقاء الزهيدة التي يحتاجون، وقد كانوا -في ذلك الوقت- يتعرضون للهجوم من قبل بعض رجال الدين المتنفذين حتى إن الأكويني دافع عنهم، وكذلك المصلح اللاهوتي الإنجليزي "[[جون ويكليف|جون وايكليف]]" (28-1384) {{إنج|{{اقتباس مضمن|''John Wycliffe''}}}}.</ref> وسافر العديد من البحاثة إلى صِقليّة والأندلس والعالم العربيّ، وترجموا أعمالاً في الفلك والرّياضيّات، بما في ذلك التّرجمة الكاملة الأولى لـ"عناصر [[إقليدس]]".<ref>{{استشهاد مختصر|Clagett|1953|ص=16–42|لغة=en}}</ref> واستقدم ملوكُ صقلية النورمانُ أربابَ المعرفة من العالم الإسلامي واستضافوهم في مجالسهم كنوعٍ من التقدير، أو لزيادة سمو مجالسهم.<ref>{{استشهاد مختصر|Lindberg|1978|ص=70-72|لغة=en}}</ref> في وقتٍ فشا فيه الجهل والأمية في المجتمع الغربي فُشُوّاً عظيماً.<ref group="هامش">يذكر غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" أن مكتبة الحكم المستنصر الخليفة الأموي (حكم 960-976م) في قرطبة ضمت ثلاثمئة ألف كتابٍ منها أربعة وأربعون مجلداً لفهارس قوائم الكتب، بينما بلغت مكتبة شارل الخامس (حكم 64-1380) الملك الفرنسي تسعمئة كتاب.</ref>


وماينبغي أن يُخالَ من هذا التطور أن الحياة كانت رخيّةً سخيّةً.<ref name="م4" group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=50-51}}</ref> لقد أحصيتْ في عهد [[فيليب الثاني أغسطس|فيليب أغسطس]] الملك الفرنسي (حكم 1180-1223) إحدى عشرة سنةً من المجاعات أكل فيها أقنان الأرض الجذورَ ولحاءَ الشجر والحيواناتِ النافقةَ قبلما يقضوا جوعاً، ولشدَ ما قضتِ الأوبئةُ والأمراضُ -بسبب الجهلِ والعنايةِ الصحيةِ المزريةِ- والحرائقُ على سكان المدن وقد كان جُلّها مشيداً من الخشب،<ref name="م4" group="عر"/> وفي كتاب «الاعتبار» [[أسامة بن منقذ|لأسامة بن منقذ الكناني]] رواياتٌ فاجعةٌ عن الطب عند الإفرنج ومبلغ تضلعهم منه في تلك الأزمان.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ابن منقذ|2003|ص=220-221}}</ref><ref group="هامش">مما أورده ابن منقذ في مذكراته التي دعاها "الاعتبار" ما يلي: {{اقتباس|ومن عجيب طِبِّهم أن صاحبَ المُنيْطِرَةِ [حصن قرب [[طرابلس]] شمال [[لبنان]]] كتبَ إلى عمي يطلب منه إنفاذ طبيبٍ يداوي مرضىً من أصحابه، فأرسل إليه طبيباً نصرانياً يقال له ثابت، فما غاب عشرة أيامٍ حتى عاد! فقلنا له: «ما أسرع ما داويتَ المرضى!»، قال: أحضروا عندي فارساً قد طلعتْ في رِجله دُمَّلةٌ، وامرأةٌ قد لحقها نُشافٌ [نوعٌ من جنونٍ يستدعي حميةً وخاصةً عن الأطعمة الحرّيفة]، فعملتُ للفارس لَبْخةً ففُتحتِ الدُمّلة وصَلَحت، وحَمَيْتُ المرأة ورطّبتُ مِزاجَها، فجاءهم طبيبٌ إفرنجيٌّ، فقال لهم: «هذا ما يعرف شيء يداويهم»، وقال للفارس: «أيُّما أحبُّ إليك؛ تعيش برجلٍ واحدةٍ، أو تموت برجلين؟»، قال: «أعيش برجلٍ واحدةٍ»، قال: «أحضروا لي فارساً قوياً، وفأساً قاطعاً»، فحضر الفارس والفأس، وأنا حاضر، فحطَّ ساقَه على قُرْمةِ خشبٍ، وقال للفارس: «اضرب رجله بالفأس ضربةً واحدةً اقطعها!»، فضربه -وأنا أراه- ضربةً واحدةً ما انقطعت، ضربه ضربةً ثانيةً فسال مخُّ الساقِ، ومات من ساعته!
وما ينبغي أن يُخالَ من هذا التطور أن الحياة كانت رخيّةً سخيّةً.<ref name="م4" group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=50-51}}</ref> لقد أحصيتْ في عهد [[فيليب الثاني أغسطس|فيليب أغسطس]] الملك الفرنسي (حكم 1180-1223) إحدى عشرة سنةً من المجاعات أكل فيها أقنان الأرض الجذورَ ولحاءَ الشجر والحيواناتِ النافقةَ قبلما يقضوا جوعاً، ولشدَ ما قضتِ الأوبئةُ والأمراضُ -بسبب الجهلِ والعنايةِ الصحيةِ المزريةِ- والحرائقُ على سكان المدن وقد كان جُلّها مشيداً من الخشب،<ref name="م4" group="عر"/> وفي كتاب «الاعتبار» [[أسامة بن منقذ|لأسامة بن منقذ الكناني]] رواياتٌ فاجعةٌ عن الطب عند الإفرنج ومبلغ تضلعهم منه في تلك الأزمان.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ابن منقذ|2003|ص=220-221}}</ref><ref group="هامش">مما أورده ابن منقذ في مذكراته التي دعاها "الاعتبار" ما يلي: {{اقتباس|ومن عجيب طِبِّهم أن صاحبَ المُنيْطِرَةِ [حصن قرب [[طرابلس]] شمال [[لبنان]]] كتبَ إلى عمي يطلب منه إنفاذ طبيبٍ يداوي مرضىً من أصحابه، فأرسل إليه طبيباً نصرانياً يقال له ثابت، فما غاب عشرة أيامٍ حتى عاد! فقلنا له: «ما أسرع ما داويتَ المرضى!»، قال: أحضروا عندي فارساً قد طلعتْ في رِجله دُمَّلةٌ، وامرأةٌ قد لحقها نُشافٌ [نوعٌ من جنونٍ يستدعي حميةً وخاصةً عن الأطعمة الحرّيفة]، فعملتُ للفارس لَبْخةً ففُتحتِ الدُمّلة وصَلَحت، وحَمَيْتُ المرأة ورطّبتُ مِزاجَها، فجاءهم طبيبٌ إفرنجيٌّ، فقال لهم: «هذا ما يعرف شيء يداويهم»، وقال للفارس: «أيُّما أحبُّ إليك؛ تعيش برجلٍ واحدةٍ، أو تموت برجلين؟»، قال: «أعيش برجلٍ واحدةٍ»، قال: «أحضروا لي فارساً قوياً، وفأساً قاطعاً»، فحضر الفارس والفأس، وأنا حاضر، فحطَّ ساقَه على قُرْمةِ خشبٍ، وقال للفارس: «اضرب رجله بالفأس ضربةً واحدةً اقطعها!»، فضربه -وأنا أراه- ضربةً واحدةً ما انقطعت، ضربه ضربةً ثانيةً فسال مخُّ الساقِ، ومات من ساعته!


وأبصر المرأة، فقال: «هذه امرأةٌ في رأسها شيطانٌ قد عشقها، احلقوا شعرها!»، فحلقوه! وعادت تأكل من مآكلهم؛ الثوم والخرْدل، فزاد بها النُّشاف، فقال: «الشيطان قد دخل في رأسها!»، فأخذ الموسى وشق رأسها صليباً وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس! وحكّه بالملح، فماتت في وقتها.
وأبصر المرأة، فقال: «هذه امرأةٌ في رأسها شيطانٌ قد عشقها، احلقوا شعرها!»، فحلقوه! وعادت تأكل من مآكلهم؛ الثوم والخرْدل، فزاد بها النُّشاف، فقال: «الشيطان قد دخل في رأسها!»، فأخذ الموسى وشق رأسها صليباً وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس! وحكّه بالملح، فماتت في وقتها.


فقلت لهم: «بقي لكم إليَّ حاجة؟»، قالوا: «لا»، فجئت، وقد تعلمت من طِبّهم ما لم أكن أعرفه.}}</ref> ويذكر [[وليام مونتغمري واط|مونتجُمري واط]] أنه إلى مطلعِ القرنِ الثالثَ عشرَ حتى عرفتْ [[أوروبا|أوروپا]] المشافيَ المختصُةَ باستقبالِ المرضى فقط وإنْ تكُ من دونِ أجنحةٍ مستقلةٍ للأمراضِ المعديةِ.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=93}}</ref> وكان العنف سائداً لدرجة أن مَجْمَعاً كنسيّاً في العام 989م حرّم مهاجمة القساوسة والكنائس وممتلكات الفلاحين ما عُرف باسم «سلام الرب»، ثم أضيفَ له في مناسباتٍ أخرَ التجارُ [الباعة الجوّالة]، والناسُ في طريقهم إلى الكنيسة، والطواحينُ، ومعاصرُ النبيذ، وسنة 1017 فُرضتِ اللعنة على كافة أشكال العنف من العاشرة من يوم السبت حتى فجر الاثنين ما عُرف باسم «هدنة الرب»، ثم جُعل بَدْؤها من مساء الأربعاء، ووُسّعت لتشملَ أيامَ الصوم الكبير كافةً، والآحادَ الأربعة قبل عيد الميلاد. وسنة 1094م قرر مجمع كنسي أن {{اقتباس مضمن|أي مسيحيٍّ بقتل مسيحيّاً آخرَ فإنه بذلك يُريق دمَ المسيح}}.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=80}}</ref>
فقلت لهم: «بقي لكم إليَّ حاجة؟»، قالوا: «لا»، فجئت، وقد تعلمت من طِبّهم ما لم أكن أعرفه.}}</ref> ويذكر [[وليام مونتغمري واط|مونتجُمري واط]] أنه إلى مطلعِ القرنِ الثالثَ عشرَ حتى عرفت [[أوروبا]] المشافيَ المختصّةَ باستقبالِ المرضى فقط، وإنْ تكُ من دونِ أجنحةٍ مستقلةٍ للأمراضِ المعديةِ.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=93}}</ref> وكان العنف سائداً لدرجة أن مَجْمَعاً كنسيّاً في العام 989م حرّم مهاجمة القساوسة والكنائس وممتلكات الفلاحين ما عُرف باسم «سلام الرب»، ثم أضيفَ له في مناسباتٍ أخرَ التجارُ [الباعة الجوّالة]، والناسُ في طريقهم إلى الكنيسة، والطواحينُ، ومعاصرُ النبيذ، وسنة 1017 فُرضتِ اللعنة على كافة أشكال العنف من العاشرة من يوم السبت حتى فجر الاثنين ما عُرف باسم «هدنة الرب»، ثم جُعل بَدْؤها من مساء الأربعاء، ووُسّعت لتشملَ أيامَ الصوم الكبير كافةً، والآحادَ الأربعة قبل عيد الميلاد. وسنة 1094م قرر مجمع كنسي أن {{اقتباس مضمن|أي مسيحيٍّ بقتل مسيحيّاً آخرَ فإنه بذلك يُريق دمَ المسيح}}.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=80}}</ref>


=== ملوك مستعربون وملوك متشددون ===
=== ملوك مستعربون وملوك متشددون ===


[[ملف:Kingdom of Sicily 1154-ar.svg|تصغير|'''مملكة صقلية وعاصمتها بلرم ([[باليرمو]]) سنة 1154م''' عشيّة وفاة الملك [[روجر الثاني ملك صقلية|روجر الثاني]] النورماني (حكم 30-1154م).]]
[[ملف:Kingdom of Sicily 1154-ar.svg|تصغير|'''مملكة صِقِلِيّة وعاصمتها [[باليرمو|بلرم]] سنة 1154م''' عشيّة وفاة الملك [[روجر الثاني ملك صقلية|روجر الثاني]] النورماني (حكم 30-1154م).]]


عاش البلاط الملكي في [[باليرمو|بلرم]] بعد زوال الحكم الإسلامي أزهى عهوده في ظل الملك النورماندي [[روجر الثاني ملك صقلية|روجر الثاني]] وحفيده [[فريدريك الثاني]] (ملك صقلية 1198-1250، [[الإمبراطورية الرومانية المقدسة|الإمبراطور الروماني المقدس]] 20-1250)، فقد أشبه بلاطاتِ [[قرطبة]] و[[إشبيلية]] و[[طليطلة]] و[[سرقسطة]] وسائر ملوك الطوائف في [[الأندلس]] حتى قُدِّر عدد سكان بلوم في القرن الثاني عشر بنصف مليونٍ،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=92}}</ref>
عاش البلاط الملكي في [[باليرمو|بلرم]] بعد زوال الحكم الإسلامي أزهى عهوده في ظل الملك النورماندي [[روجر الثاني ملك صقلية|روجر الثاني]] وحفيده [[فريدريك الثاني]] (ملك صقلية 1198-1250، [[الإمبراطورية الرومانية المقدسة|الإمبراطور الروماني المقدس]] 20-1250)، فقد أشبه بلاطاتِ [[قرطبة]] و[[إشبيلية]] و[[طليطلة]] و[[سرقسطة]] وسائر ملوك الطوائف في [[الأندلس]] حتى قُدِّر عدد سكان بلوم في القرن الثاني عشر بنصف مليونٍ،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=92}}</ref>
<ref group="هامش">فيما عدا القسطنطينية وكبريات المدن الأندلسية يُعدّ هذا الرقم ضخماً واستثنائياً في أورُبا وقتئذٍ، فإلى القرن اللاحق حتى بلغت [[فلورنسا]] مئة ألفٍ، ونافت [[البندقية]] و[[باريس]] و[[ميلان]] قليلاً عن مئة ألفٍ (انظر: عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ج 2، ص. 103)، ويدل على شأوٍ عظيمٍ بلغته صقلية بمقاييس ذاك الزمن.</ref> ومثلهم استقدما الفلاسفة والعلماء المسلمين ك[[الشريف الإدريسي]] (1100-1166) -الذي أهدى راعيه روجر الثاني كتابَه «[[نزهة المشتاق في اختراق الآفاق]]»-، وتزيّا بالزي العربي، وقرّبا المغنين الجوالين ([[تروبادور|التروبادور]]) لدرجة أنْ لُقّب كل منهما [إيماءً إلى نظام حكمه المستعرب] بـ«سلطان صقلية المُعمَّد».<ref group="عر" name="مولد تلقائيا1">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=107-108}}</ref> وكان معظم مستشاريهما وموظفي دواوينهما من المسلمين، ولقد ورثا عن الحكم الإسلامي مؤسسة «لا ديوانا» (الديوان) المشرفة على تنظيم مالية الدولة والضرائب،<ref group="هامش">وهي التي قبسها النورمان في إنجلترا، وأرسَوا ثمّة بواسطة مثيلٍ لها تنظيماً مالياً للدولة متطوراً مقايَسةً بعصره.</ref>
<ref group="هامش">فيما عدا القسطنطينية وكبريات المدن الأندلسية يُعدّ هذا الرقم ضخماً واستثنائياً في أورُبا وقتئذٍ، فإلى القرن اللاحق حتى بلغت [[فلورنسا]] مئة ألفٍ، ونافت [[البندقية]] و[[باريس]] و[[ميلان]] قليلاً عن مئة ألفٍ (انظر: عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ج 2، ص. 103)، ويدل على شأوٍ عظيمٍ بلغته صقلية بمقاييس ذاك الزمن.</ref> ومثلهم استقدما الفلاسفة والعلماء المسلمين [[الإدريسي|كالشريف الإدريسي]] (1100-1166) -الذي أهدى راعيه روجر الثاني كتابَه «[[نزهة المشتاق في اختراق الآفاق]]»-، وتزيّا بالزي العربي، وقرّبا المغنين الجوالين ([[تروبادور|التروبادور]]) لدرجة أنْ لُقّب كل منهما [إيماءً إلى نظام حكمه المستعرب] بـ«سلطان صقلية المُعمَّد».<ref group="عر" name="مولد تلقائيا1">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=107-108}}</ref> وكان معظم مستشاريهما وموظفي دواوينهما من المسلمين، ولقد ورثا عن الحكم الإسلامي مؤسسة «لا ديوانا» (الديوان) المشرفة على تنظيم مالية الدولة والضرائب،<ref group="هامش">وهي التي قبسها النورمان في إنجلترا، وأرسَوا ثمّة بواسطة مثيلٍ لها تنظيماً مالياً للدولة متطوراً مقايَسةً بعصره.</ref>
<ref group="هامش">وكان فريدريك الثاني واحدةً من أعاجيب عصره، حتى لُقّب بحقٍّ "أعحوبة العالم" {{لاتينية|''Struper Mundi''}}، أتقن ستَّ لغاتٍ كانتِ العربية واليونانية واللاتينية بعضاً منها، وفضّل أن يقضيَ معظم وقته في بلرم كملكٍ صقليٍّ متنوّرٍ بدلاً من العيش في بلاطه الثاني "الكئيب" في فيينا كإمبراطورٍ جرمانيٍّ مقدسٍ، وشجع المناقشات الفلسفية والعلمية في بلاطه، وكان يحلو له أن يسأل العلماء المسلمين أسئلةً معقدةً بمقياس زمانه مثل: لماذا يبدو القضيب المعدني منكسراً وهو في الماء؟ وهل هناك خلود للروح؟ وهل وجود العالم لا نهائي؟ وكم عدد الجهنمات؟ ما يدل على فضولٍ فكري طاغٍ ربما حتى السفسطة، ولا أدلَّ على ذلك من رسالته التي وجهها إلى السلطان الموحدي [[عبد الواحد الرشيد]] (32-1242م) وتضمنت أسئلةً فلسفيةً أربعةً رئيسةً وكلّفَ السلطانُ الفيلسوفَ المتصوفَ [[ابن سبعين|عبد الحق اين سبعين]] للإجابة عنها، فألّف رسالةَ «الكلام على المسائل الصقلية» جواباً عليها، واشتهرت اختصاراً بـ''[[المسائل الصقلية]].<br />وكان إلى جانب ثقافتِه واسعةِ الاطلاعِ شاعراً مشبوبَ العاطفةِ ألفى شعراءُ التروبادور الفارين من جحيم الصليبية الألبجنسية في بلاطه ملجاً رفيقاً ما جعل من حركتهم إرهاصاً للنهضة الأدبية الإيطالية، وسياسياً محنَّكاً نَذَر النذر الصليبي عام 1215م واعداً بخوض صليبيةٍ {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Crusade''}}}} كملكٍ تقيٍّ، (انظر: ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 315) وظل يماطل حتى قامت بدونه ([[الحملة الصليبية الخامسة|الصليبية الخامسة]]، 18-1221)، فلمّا حرمه الكرسي الرسولي (1227م) ذهب في حملةٍ رمزيةٍ من بضعة آلافٍ ([[الحملة الصليبية السادسة|الصليبية السادسة]]، 1228م) مصطحباً كتيبةً من المسلمين ومسلماً مختصاً بالمنطق والجدل، وتوسّل بشتى السبل -حتى الاستعطاف- لإقناع [[الكامل ناصر الدين محمد|الكامل الأيوبي]] بعقد معاهدة عدم اعتداءٍ لعشر سنينَ (من إحدى رسائله للكامل يقول له: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خايباً انكسرت حرمتي بينهم"). سمحتِ المعاهدة بزيارة الحجيج الفرنج إلى [[القدس]]، ومُنحَ الصليبيون الإشرافَ على المقدسات المسيحية فيها وعلى [[بيت لحم]] وشريطٍ ساحليٍّ ضيقٍ مقابلَ عدم اشتراكه في حربٍ على المسلمين وإعلامهم بأية خططٍ عدوانيةٍ من جهة الفرنج، وبذا حقق ما أخفق فيه أعتى ملوك أوروبا لأربعين سنةً منذ [[معركة حطين|تحريرها]] عام 1187م، وفي [[كنيسة القيامة]] توّج نفسه بنفسه لينسبَ فضل تتويجه لجهده الخاص -على نحو ما سيفعل [[نابليون]] بعده بستة قرونٍ- فيما تعلّلتِ الكنيسة بالقول: من ذا الأسقف الذي يجرؤ على تتويج إمبراطورٍ حرمه البابا؟! (بمعنى لم يكن له من خيارٍ آخرَ)، وبعدما هزم عام 1230 قوات [[غريغوري التاسع]] (حبريته 27-1241م) أقرَ الأخير بمعاهدته مع المسلمين وألغى حرمانه (صلح «سان جرمانو»)، لكن فريدريك بقي على الإرث الإمبراطوري في مناوأته البابوية حتى تسبب هذا بالحرمان الثاني له (38-1239). وأرسل للصالح أيوب يخطره بنية [[لويس التاسع]] غزو مصر ([[الحملة الصليبية السابعة|الصليبية السابعة]]، 1250م).<br />لربما قُرن فريدريك الثاني بنابليون لشدة اختلاف الناس فيه حتى اعتبره بعض الفرنسيسكان (طائفة الفراتشيلّي) بطلاً داعيةً إلى المسيحية متناسين عيشته الباذخة، وأنه كان ظنيناً في الدين، ومنجّماً يقرّب العرافين ويصغي إليهم، بينما رأى فيه المتشددون "المسيخ الدجال"، وجعله [[دانتي]] في "[[الكوميديا الإلهية|ملهاته]]" في الدَّرْك الأسفل من الجحيم، ويكاد الإجماع ينعقد على أن [[الإمبراطورية الرومانية المقدسة]] طُويت بموته، وإن تكُ دامت اسمياً إلى العام [[1806]]م عندما أنهاها الإمبراطور فرانتز الثاني معلناً تأسيس "إمبراطورية النمسا والمجر" مكانها.<br />
<ref group="هامش">وكان فريدريك الثاني واحدةً من أعاجيب عصره، حتى لُقّب بحقٍّ "أعحوبة العالم" {{لاتينية|''Struper Mundi''}}، أتقن ستَّ لغاتٍ كانتِ العربية واليونانية واللاتينية بعضاً منها، وفضّل أن يقضيَ معظم وقته في بلرم كملكٍ صقليٍّ متنوّرٍ بدلاً من العيش في بلاطه الثاني "الكئيب" في فيينا كإمبراطورٍ جرمانيٍّ مقدسٍ، وشجع المناقشات الفلسفية والعلمية في بلاطه، وكان يحلو له أن يسأل العلماء المسلمين أسئلةً معقدةً بمقياس زمانه مثل: لماذا يبدو القضيب المعدني منكسراً وهو في الماء؟ وهل هناك خلود للروح؟ وهل وجود العالم لا نهائي؟ وكم عدد الجهنمات؟ ما يدل على فضولٍ فكري طاغٍ ربما حتى السفسطة، ولا أدلَّ على ذلك من رسالته التي وجهها إلى السلطان الموحدي [[عبد الواحد الرشيد]] (32-1242م) وتضمنت أسئلةً فلسفيةً أربعةً رئيسةً وكلّفَ السلطانُ الفيلسوفَ المتصوفَ [[ابن سبعين|عبد الحق اين سبعين]] للإجابة عنها، فألّف رسالةَ «الكلام على المسائل الصقلية» جواباً عليها، واشتهرت اختصاراً بـ''[[المسائل الصقلية]].<br />وكان إلى جانب ثقافتِه واسعةِ الاطلاعِ شاعراً مشبوبَ العاطفةِ ألفى شعراءُ التروبادور الفارين من جحيم الصليبية الألبجنسية في بلاطه ملجاً رفيقاً ما جعل من حركتهم إرهاصاً للنهضة الأدبية الإيطالية، وسياسياً محنَّكاً نَذَر النذر الصليبي عام 1215م واعداً بخوض صليبيةٍ {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Crusade''}}}} كملكٍ تقيٍّ، (انظر: ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 315) وظل يماطل حتى قامت بدونه ([[الحملة الصليبية الخامسة|الصليبية الخامسة]]، 18-1221)، فلمّا حرمه الكرسي الرسولي (1227م) ذهب في حملةٍ رمزيةٍ من بضعة آلافٍ ([[الحملة الصليبية السادسة|الصليبية السادسة]]، 1228م) مصطحباً كتيبةً من المسلمين ومسلماً مختصاً بالمنطق والجدل، وتوسّل بشتى السبل -بما فيها التذلل والاستعطاف- لإقناع [[الكامل ناصر الدين محمد|الكامل الأيوبي]] بعقد معاهدة عدم اعتداءٍ لعشر سنينَ (من إحدى رسائله للكامل يقول له: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خايباً انكسرت حرمتي بينهم"). سمحتِ المعاهدة بزيارة الحجيج الفرنج إلى [[القدس]]، ومُنحَ الصليبيون الإشرافَ على المقدسات المسيحية فيها وعلى [[بيت لحم]] وشريطٍ ساحليٍّ ضيقٍ مقابلَ عدم اشتراكه في حربٍ على المسلمين وإعلامهم بأية خططٍ عدوانيةٍ من جهة الفرنج، وبذا حقق ما أخفق فيه أعتى ملوك أوروبا لأربعين سنةً منذ [[معركة حطين|تحريرها]] عام 1187م، وفي [[كنيسة القيامة]] توّج نفسه بنفسه لينسبَ فضل تتويجه لجهده الخاص -على نحو ما سيفعل [[نابليون]] بعده بستة قرونٍ- فيما تعلّلتِ الكنيسة بالقول: من ذا الأسقف الذي يجرؤ على تتويج إمبراطورٍ حرمه البابا؟! (بمعنى لم يكن له من خيارٍ آخرَ)، وبعدما هزم عام 1230 قوات [[غريغوري التاسع]] (حبريته 27-1241م) أقرَ الأخير بمعاهدته مع المسلمين وألغى حرمانه (صلح «سان جرمانو»)، لكن فريدريك بقي على الإرث الإمبراطوري في مناوأته البابوية حتى تسبب هذا بالحرمان الثاني له (38-1239). وأرسل للصالح أيوب يخطره بنية [[لويس التاسع]] غزو مصر ([[الحملة الصليبية السابعة|الصليبية السابعة]]، 1250م).<br />ولربما قُرن فريدريك الثاني بنابليون لشدة اختلاف الناس فيه حتى اعتبره بعض الفرنسيسكان (طائفة الفراتشيلّي) بطلاً داعيةً إلى المسيحية متناسين عيشته الباذخة، وأنه كان ظنيناً في الدين، وتقريبه العرافين وإصغائه إليهم، بينما رأى فيه المتشددون "المسيخ الدجال"، وجعله [[دانتي]] في "[[الكوميديا الإلهية|ملهاته]]" في الدَّرْك الأسفل من الجحيم، ويكاد الإجماع ينعقد على أن [[الإمبراطورية الرومانية المقدسة]] طُويت بموته، وإن تكُ دامت اسمياً إلى العام [[1806]]م عندما أنهاها الإمبراطور فرانتز الثاني معلناً تأسيس "إمبراطورية النمسا والمجر" مكانها.<br />
(انظر: عاشور: أوروبا العصور الوسطى، ج. 1، ص.ص. 379-390،<br />بيشوب: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص.ص. 75-78،<br />قشر: تاريخ أوربا - العصور الوسطى (القسم الأول)، ص.ص. 251-255).</ref> هذا الانفتاح وما ولّده من نهضةٍ -والتي لم يكن روجر الثاني وفريدريك الثاني سوى نموذجين لها وشاهدين عليها- جاء نتيجة التغلغل الحضاري الإسلامي في المجتمع الغربي، وهو سيولد ردة فعلٍ لن تلبثَ أن تَعتبر كل ما ورد ويرد من المجتمع الإسلامي شراً مستطيراً وعيباً محضاً.<ref group="هامش">"يتوجَّبُ عليَّ القول -وبكُلِّ ثقةٍ- إنَّ ما حثَّ العالم المسيحيّ على النُهوض من كابوسه القُروسطي أتى من الحضارة الرائعة التي صاغها العرب والفُرس الليبراليّون في ذلك الوقت في كُلٍّ من إسپانيا، وصقلية، والمشرق. ما كان للنورمان أن يتحضروا بهذه السُرعة لولا أنَّهم استقرّوا في صقلية، وما كان للكاثار أهالي فرنسا الجنوبيَّة أن يبلغوا مبلغاً كبيراً من الرُقي والتقدَّم لولا أنهم جاوروا العرب في إسپانيا. إنَّ الحقيقة الكاملة حول صحوة أوروپَّا على هذا المسرح الإسلاميّ إنَّما هي حقيقةٌ ماحقةٌ لما أُشيع عن الإبداعات المسيحيَّة، والتي لم يجرؤِ التاريخ على البوح بها حتَّى الآن. (جوزف مكَّاب: السجل الاجتماعي للمسيحيَّة (1935) (بِتصرُّف)، بوك تري، 2000، ص. 61.</ref>
(انظر: عاشور: أوروبا العصور الوسطى، ج. 1، ص.ص. 379-390،<br />بيشوب: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص.ص. 75-78،<br />فشر: تاريخ أوربا - العصور الوسطى (القسم الأول)، ص.ص. 251-255).</ref> هذا الانفتاح وما ولّده من نهضةٍ -والتي لم يكن روجر الثاني وفريدريك الثاني سوى نموذجين لها وشاهدين عليها- جاء نتيجة التغلغل الحضاري الإسلامي في المجتمع الغربي، وهو سيولد ردة فعلٍ لن تلبثَ أن تَعتبر كل ما ورد ويرد من المجتمع الإسلامي عيباً محضاً وشراً مستطيراً.<ref group="هامش">"يتوجَّبُ عليَّ القول -وبكُلِّ ثقةٍ- إنَّ ما حثَّ العالم المسيحيّ على النُهوض من كابوسه القُروسطي أتى من الحضارة الرائعة التي صاغها العرب والفُرس الليبراليّون في ذلك الوقت في كُلٍّ من إسپانيا، وصقلية، والمشرق. ما كان للنورمان أن يتحضروا بهذه السُرعة لولا أنَّهم استقرّوا في صقلية، وما كان للكاثار أهالي فرنسا الجنوبيَّة أن يبلغوا مبلغاً كبيراً من الرُقي والتقدَّم لولا أنهم جاوروا العرب في إسپانيا. إنَّ الحقيقة الكاملة حول صحوة أوروپَّا على هذا المسرح الإسلاميّ إنَّما هي حقيقةٌ ماحقةٌ لما أُشيع عن الإبداعات المسيحيَّة، والتي لم يجرؤِ التاريخ على البوح بها حتَّى الآن. (جوزف مكَّاب: السجل الاجتماعي للمسيحيَّة (1935) (بِتصرُّف)، بوك تري، 2000، ص. 61.</ref>


وكان [[لويس التاسع]] (حكم 26-1270م) صاحب فرنسا أبرز من يمثل رد الفعل ذاك. خطط وقاد صليبيتين على الشرق وهما [[الحملة الصليبية السابعة|السابعة]] على مصر (1250) أُسر فيها، وأمضى بعدها أربع سنين في فلسطين يستحث نبلاءه عبثاً لخوض حملةٍ أخرى، [[الحملة الصليبية الثامنة|والثامنة]] على تونس (1270) قضى فيها نحبه.
وكان [[لويس التاسع]] (حكم 26-1270م) صاحب فرنسا أبرز من يمثل رد الفعل ذاك. خطط وقاد صليبيتين على الشرق وهما [[الحملة الصليبية السابعة|الصليبية السابعة]] على مصر (1250) أُسر فيها، وأمضى بعدها أربع سنين في فلسطين يستحث نبلاءه عبثاً لخوض حملةٍ أخرى، [[الحملة الصليبية الثامنة|والصليبية الثامنة]] على تونس (1270) التي قضى فيها نحبه.


=== البابوية، الحملة الصليبية الألبجنسية ===
=== البابوية، الحملة الصليبية الألبجنسية ===
سطر 111: سطر 105:
[[ملف:Worms Lutherdenkmal Petrus Waldus 2012-02-21-18-24-52.jpg|يسار|تصغير|'''نصب بطرس والدو''' في مدينة [[فورمس|فرميزة]] الألمانية، يعود للعام 1868.]]
[[ملف:Worms Lutherdenkmal Petrus Waldus 2012-02-21-18-24-52.jpg|يسار|تصغير|'''نصب بطرس والدو''' في مدينة [[فورمس|فرميزة]] الألمانية، يعود للعام 1868.]]
[[ملف:Languedoc1 province-ar.png|تصغير|مقاطعة لانغدوك وأهم مدنها التاريخية.]]
[[ملف:Languedoc1 province-ar.png|تصغير|مقاطعة لانغدوك وأهم مدنها التاريخية.]]
[[ملف:Berruguete ordeal.jpg|تصغير|يسار|لوحة "بدرو بيروجويتي" العائدة إلى [[القرن الخامس عشر الميلادي|القرن الخامس عشر]] تصور إحدى المرويات عن [[دومينيك دو غوزمان|القديس دومينيك]] في تحديه للألبجنسيين، فقد ألقيت نصوص كلٍّ منهم في النار، لكن كتاب القديس دومينيك كان عصيّاً على ألسنة اللهب، ولم يحترق.]]
[[ملف:Berruguete ordeal.jpg|تصغير|يسار|لوحة "بدرو بيروجويتي" العائدة إلى [[القرن 15|القرن الخامس عشر]] تصور إحدى المرويات عن [[دومينيك دو غوزمان|القديس دومينيك]] في تحديه للألبجنسيين، فقد ألقيت نصوص كلٍّ منهم في النار، لكن كتاب القديس دومينيك كان عصيّاً على ألسنة اللهب، ولم يحترق.]]


كان لتأثيرات الحضارة العربية الإسلامية عبر مداخلها المختلفة إلى المجتمع الغربي ([[الأندلس]]، [[صقلية]]، [[الحملات الصليبية|الحملات الإفرنجية]]، فضلاً عن الطرق الأقلَّ أهميةً كالتجارة) والممتدة سحابةَ قرونٍ من أن تختمر وتثمر نهايةَ المطاف. كانت علاقات جنوب فرنسا (يطلق عليها منطقة «ميدي») وثيقة الوشائج مع شمال [[إيبيريا]] أكثر مما هي مع فرنسا الشمالية. إن اللهجاتِ المحليةَ لجنوب أوروبا الغربية تطورت ضمن عائلة [[اللغات الرومانسية]] في فرعٍ خاصٍّ بها وكان منها [[اللغة الكتالونية|القطالونية]] شمال شرقي إسبانيا، [[بروفنسالية فرنسية|والبروڤنسالية]] جنوبيَّ فرنسا، [[اللغة البيدمونتية|والبييدمونتية]] شمال غربي إيطاليا، في حين تعتبر الفرنسية الشمالية (الحالية) أكثرَ نأياً رغم انتمائها إلى عائلة اللغات الرومانسية نفسها.<ref group="هامش">إبّان العصور الوسطى العليا وتحديداٌ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كان سكان منطقة [[جنوب فرنسا]] ("ميدي") ومقاطعة "أقطانية" (أكيتان) {{فرن|{{اقتباس مضمن|''Aquitaine''}}}} -وعاصمتها [[بواتييه]]، والبالغة خمسة أضعاف حجم إقطاعية ملك فرنسا- يتكلمون لغةً تدعى "الأكيتانية"، أما سكان شمال فرنسا فكانوا يتحدثون بلغة "أويل". كلتا اللغتين تعودان بأصولهما إلى اللاتينية. وقد تسببتِ [[الحملة الصليبية على الكثار|الصليبية الألبجنسية]] في فناء لغة أكيتان الجنوبية لصالح طغيان اللغة الشمالية التي تطورت إلى الفرنسية الحالية.</ref> ومما تميزت به بعض طوائف ذلك العهدِ الإيمانُ بأنه لا يوجد وسيط بين الله والعبد قاصرين دور الكنيسة على الوعظ والإرشاد، كحالة أتباع «بطرس والدو» أو [[ولدينيسية|«فقراء ليون»]] الذين بشروا باللهجة المحلية. كان والدو تاجراً ثرياً وهب ثروته للفقراء (قرابة 1170)، ورعى ترجمة [[العهد الجديد]] إلى اللغة المحلية ليتمكن من الاستشهاد به للعامة، وبدأ التبشير، وعندما رفض طلبَ البابا الخضوعَ للنظام الكنسي معتبراً أنَّ واجبه أن يطيع الرب أكثر من طاعة البشر حرمَه وجماعتَه البابا، فخرجوا ملتجئين إلى شعاب جبال الألب في [[منطقة سافوا]] [[بييمونتي|وبييدمونت]]<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=198-199}}</ref> وفي [[لانغيدوك|لانجدوك]]، وشُهِروا بالتواضع والعمل المستقيم والعفة والمحبة، حتى كتب عنهم أحد المؤرخين: {{اقتباس مضمن|إن ألدَّ الأعداءِ لا يمكنهم أن يجدوا علةً واحدةً في بطرس والدو ومسيحيي الألب الكتابيين من حيث الآداب والسلوك}}. صادفتِ الوالدنسية انتشاراً في أرياف شمال [[جبال الألب]] -حيث مات والدو طريداً في [[بوهيميا]] في العام 1179م- وجاءت إرهاصاً للحركة [[البروتستانتية]] بعد ثلاثة قرون.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=328}}</ref>
كان لتأثيرات الحضارة العربية الإسلامية عبر مداخلها المختلفة إلى المجتمع الغربي ([[الأندلس]]، [[صقلية]]، [[حملات صليبية|الحملات الإفرنجية]]، فضلاً عن الطرق الأقلَّ أهميةً كالتجارة) والممتدة سحابةَ قرونٍ من أن تختمر وتثمر نهايةَ المطاف. كانت علاقات جنوب فرنسا (يطلق عليها منطقة «ميدي») وثيقة الوشائج مع شمال [[شبه الجزيرة الإيبيرية|إيبيريا]] أكثر مما هي مع فرنسا الشمالية. إن اللهجاتِ المحليةَ لجنوب أوروبا الغربية تطورت ضمن عائلة [[لغات رومانسية|اللغات الرومانسية]] في فرعٍ خاصٍّ بها وكان منها [[اللغة الكتالونية|القطالونية]] شمال شرقي إسبانيا، [[بروفنسالية فرنسية|والبروڤنسالية]] جنوبيَّ فرنسا، [[اللغة البيدمونتية|والبييدمونتية]] شمال غربي إيطاليا، في حين تعد الفرنسية الشمالية (الحالية) أكثرَ نأياً رغم انتمائها إلى عائلة اللغات الرومانسية نفسها.<ref group="هامش">إبّان العصور الوسطى العليا وتحديداٌ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كان سكان منطقة [[جنوب فرنسا]] ("ميدي") ومقاطعة "أقطانية" (أكيتان) {{فرن|{{اقتباس مضمن|''Aquitaine''}}}} -وعاصمتها [[بواتييه]]، والبالغة خمسة أضعاف حجم إقطاعية ملك فرنسا- يتكلمون لغةً تدعى "الأكيتانية"، أما سكان شمال فرنسا فكانوا يتحدثون بلغة "أويل". كلتا اللغتين تعودان بأصولهما إلى اللاتينية. وقد تسببتِ [[الحملة الصليبية على الكثار|الصليبية الألبجنسية]] في فناء لغة أكيتان الجنوبية لصالح طغيان اللغة الشمالية التي تطورت إلى الفرنسية الحالية.</ref> ومما تميزت به بعض طوائف ذلك العهدِ الإيمانُ بأنه لا وسيطَ بين الله والعبد قاصرين دور الكنيسة على الوعظ والإرشاد، كحالة أتباع «بطرس والدو» أو [[ولدينيسية|«فقراء ليون»]] الذين بشروا باللهجة المحلية. كان والدو تاجراً ثرياً وهب ثروته للفقراء (قرابة 1170)، ورعى ترجمة [[العهد الجديد]] إلى اللغة المحلية ليتمكن من الاستشهاد به للعامة، وبدأ التبشير، وعندما رفض طلبَ البابا الخضوعَ للنظام الكنسي معتبراً أنَّ واجبه أن يطيع الرب أكثر من طاعة البشر حرمَه وجماعتَه البابا، فخرجوا ملتجئين إلى شعاب جبال الألب في [[منطقة سافوا]] [[بيمنتة|وبييدمونت]]<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=198-199}}</ref> وفي [[لانغيدوك|لانجدوك]]، وشُهِروا بالتواضع والعمل المستقيم والعفة والمحبة، حتى كتب عنهم أحد المؤرخين: {{اقتباس مضمن|إن ألدَّ الأعداءِ لا يمكنهم أن يجدوا علةً واحدةً في بطرس والدو ومسيحيي الألب الكتابيين من حيث الآداب والسلوك}}. صادفتِ الوالدنسية انتشاراً في أرياف شمال [[الألب|جبال الألب]] -حيث مات والدو طريداً في [[بوهيميا]] في العام 1179م- وجاءت إرهاصاً للحركة [[بروتستانتية|البروتستانتية]] بعد ثلاثة قرون.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=328}}</ref>


كان الشعور العام أن القاعدة الرئيسة للتيار المخالف للكنيسة يتركز في [[بييمونتي|بييدمونت]] و[[جنوب فرنسا]] و[[أراغون]]،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=329}}</ref> وهي مناطق المانويين الذين كوّنوا فرقتين [[كاثار|الكاثار]] ({{إنج|{{اقتباس مضمن|''Cathari''}}}} أي "الأطهار" باليونانية) والألبيجنسيين {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Albigensians''}}}}.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=406}}</ref> اعتنقتِ الفرقتان الثنويةَ [[ماني|المانوية]] الوافدةَ مع التأثيرات الشرقية ممزوجةً مع [[الغنوصية]] ومذهب العرفان المسيحي وربما شيء من التقمص، واعتقدوا بالصراع الأزلي بين الخير (الروح) ويمثله المسيح، والشر (المادة والجسد) ويمثله الشيطان وسلاحه الرغبة الجنسية، وأنكروا المَطْهر، والنار، والبعث، ورأوا أن روح المرء التقي ستتحد بجسده فيما ستتقمصُ الروحُ الشريرةُ الحيواناتِ، وكانوا مُسالمين يرَوْن القتل أمراً شائناً أكان على يد قاتلٍ أم بحكم قاضٍ.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=199}}</ref><ref group="هامش">يشير القس أندرو ميلر في مختصره الضخم عن تاريخ الكنيسة إلى أن بعض الكتّاب ينكرون إيمان الألبجنسيين بوصمهم بالمانوية، لكنّ آخرين كانوا يرونهم مع الوالدنسيين على مبدأٍ واحدٍ أنقياء الإيمان فيما يخص العقيدة، على الرغم من إنكارهم لعدة أسرارٍ خاصةٍ بالعقيدة الكاثوليكية. (انظر: ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 327)، في حين يذكر موريس بيشوب: {{اقتباس مضمن|ولقد كان أتباع والدو من المسيحيين الإنجيليين [أي إرهاصاً للأنجليكان البروتستانت من حيث العقيدة]، أما معاصروهم من الكاثاري أو المتطهرين فقد كانوا من الهراطقة بشكلٍ واضحٍ}}. (انظر: بيشوب: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص. 199)، يذكر أن الاختلافات بين الفرقتين طفيفة حتى إن كثيراً من المؤرخين يعدون الفرق بينهما أن كاثاريّي جنوب فرنسا دعوا بالألبجنسيين، والحق إن جميع الأدبيات الباقية عنهم -على ندرتها- كتبت بيد معارضيهم مما يثير شكوكاً حولها لا سيما في ظروف المجتمع الأوروبي القروسطي آنئذٍ.</ref> وساعد الشعراء (التروبادور) والتجار الجوالة في سياحتهم على نشر أفكار الألبيجنس،<ref group="هامش">توفر لعقيدة الألبيجنس وأفكارهم من الذيوع بحيث انتشروا في الكثير من المدن الهامة مثل [[قرقشونة]] (كاركاسون)، و[[ناربون|أُربونة]]، و[[مونبلييه]]، و[[تولوز|طلوشة]]، و[[بوردو]]، و[[بواتييه]]، و[[أورليان]]، و[[سواسون]]، و[[أراس]]، و[[ريمس]]، لكن تبقى مقاطعتا [[لانغيدوك|لانجدوك]] و[[بروفانس|بروڤانس]] جنوبي فرنسا مناطقهم الرئيسة.</ref> ومما زاد من انتشارهم دعوتُهم لحرية الرأي والعقيدة، إذ ساد مجتمعاتِهم تسامح كبير حتى مع اليهود في مقابل تصلب الكنيسة وفساد رجال الإكليروس الذين اشتهروا ببيع المناصب الدينية والتسرّي،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=79}}</ref><ref group="هامش">مع أن المجمع اللاتراني الثاني (1139م) حتّم العزوبة على رجال الدين إلا أن العلاقاتِ غيرُ الشرعيةِ كانت ذائعةً جداً حتى ليُروى أنه كان لأحد أساقفة [[لييج]] في القرن الثالث عشر واحد وستون طفلاً منهم أربعون وُلدوا خلال اثنين وعشرين شهراً، وكانتٍ "السيمونية" أي شراء المناصب عادةً ساريةً في الأوساط الكنسية بسبب غناها الفاحش. (انظر: بيشوب، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص. 79). هذه المثالب ستكون أساساً في مطالب الإصلاح [[البروتستانتية|البروتستانتي]] بعد ثلاثة قرون.</ref> وفي بعض المناطق حَدَبَ الأمراء والسادة الإقطاعيون عليهم مثل ريموند السادس قُمُّص (كونت) [[تولوز|طلّوشة]] عاصمة مقاطعة [[لانغيدوك|لانجِدوك]] {{فرن|{{اقتباس مضمن|''Languedoc''}}}} الذي كان العديد من موظفي بلاطه منهم، وقاموا بالدعوة علناً تحت حكمه، حتى إنهم دُعوا بالألبيجنس {{فرن|{{اقتباس مضمن|''Albigeois''}}}} نسبةً إلى مدينة «ألبي» التابعة له في مقاطعة [[لانغيدوك|لانجِدوك]] جنوب غربي فرنسا، والتي اعتبرت مركزهم،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=200}}</ref> وقد وافق ريموند السادس على محاولة هدايتهم بالإقناع، لكنه رفض تنفيذ المرسوم البابوي باستئصال شأفتهم،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=330}}</ref> ما أدى إلى حرمانه كنسياً مرتين، كما رفض بعضُ رجالِ الكنيسةِ استخدام العنف ضدهم كأسقف [[ناربون|أُربونة]]، وأسقف [[بيزييه|بَزَارِش]]، ولما أعيت [[إينوسنت الثالث|إنوسنتَ الثالثَ]] (حبريته 1198-1216م) الحيلةُ أعلن عن [[الحملة الصليبية على الكثار|حملةٍ صليبيةٍ على الزنادقة]] واعداً بأن تكون أراضيهم ومدنهم وممتلكاتهم مستباحةً لكل من يشترك فيها، وبسبب القرب الجغرافي كان أمرها أيسرَ جداً من الحملات الإفرنجية {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Crusades''}}}} المتجهة إلى المشرق، فضلاً عن أن مناطق الألبجنس كانت مغريةً بسبب ثرائها وازدهارها، وسرعان ما تقاطرَ المتطوعون، وكان أبرزهم -وبالطبع أكبرهم مغنماً- الملك الفرنسي الذي استولى على مناطقَ شاسعةٍ ضمها في النهاية إلى أملاكه الخاصة، وإقطاعيّتُه وقتئذٍ من الصغر لا تعدو بالكاد ما بين [[باريس]] و[[أورليان]]،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=72}}</ref><ref group="هامش">بنتيجة هذه الحملة الصليبية صار لفرنسا لأول مرةٍ ساحل على البحر الأبيض المتوسط.</ref> بل إن كثيراً من السادة الإقطاعيين من أتباعه كانوا أثرى -وبناءً عليه أقوى- منه بكثيرٍ. دامتِ الحملة عشرين عاماً، وصاحبتها وحشيةٌ بالغة العنف والقسوة حتى بالمعايير الأوروبية القروسطية،<ref group="هامش">في الهجوم على بيزييه (بزارش) سنة 1209م وبعدما رفض المدافعون عن المدينة الاستسلام، يذكر القس أندرو ميلر:<br/>
كان الشعور العام أن القاعدة الرئيسة للتيار المخالف للكنيسة يتركز في [[بيمنتة|بييدمونت]] و[[جنوب فرنسا]] [[منطقة أرغون|وأرغون]]،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=329}}</ref> وهي مناطق المانويين الذين كوّنوا فرقتين [[كاثار|الكاثار]] ({{إنج|{{اقتباس مضمن|''Cathari''}}}} أي "الأطهار" باليونانية) والألبيجنسيين {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Albigensians''}}}}.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=406}}</ref>
<ref group="هامش">إن الاختلافات بين الفرقتين طفيفة جداً حتى إن كثيراً من المؤرخين يعدون الفرق بينهما جغرافياً فقط؛ أي إن الكاثاري في جنوب فرنسا دُعُوا بالألبجنسيين، فيما كان الكاثاري منتشرين في أرجاء أوربا الغربية (بالأخص جنوبيها)، بل إن بعض المؤرخين اعتبر الفرقتين من الموحدين المؤمنين بنبوة المسيح تأثراً يالحضارة الإسلامية. والحق إن جميع الأدبيات الباقية عن الألبجنسيين -على ندرتها- كتبت بيد معارضيهم مما يثير شكوكاً حولها لا سيما في ظروف المجتمع الأوروبي القروسطي آنئذٍ.</ref> اعتنقتِ الفرقتان الثنويةَ [[ماني|المانوية]] الوافدةَ مع التأثيرات الشرقية ممزوجةً مع [[غنوصية|الغنوصية]] ومذهب العرفان المسيحي وربما شيء من التقمص، واعتقدوا بالصراع الأزلي بين الخير (الروح) ويمثله المسيح، والشر (المادة والجسد) ويمثله الشيطان وسلاحه الرغبة الجنسية، وأنكروا المَطْهر، والنار، والبعث، ورأوا أن روح المرء التقي ستتحد بجسده فيما ستتقمصُ الروحُ الشريرةُ الحيواناتِ، وكانوا يُجلّون العفة الجنسية ويُحلّونها مكانةً ساميةً من معتقداتهم، وهم مُسالمون يرَوْن القتل أمراً شائناً أكان على يد قاتلٍ أم بحكم قاضٍ.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=199}}</ref><ref group="هامش">يشير القس أندرو ميلر في مختصره الضخم عن تاريخ الكنيسة إلى أن بعض الكتّاب ينكرون إيمان الألبجنسيين بوصمهم بالمانوية، لكنّ آخرين كانوا يرونهم مع الوالدنسيين على مبدأٍ واحدٍ أنقياء الإيمان فيما يخص العقيدة، على الرغم من إنكارهم لعدة أسرارٍ خاصةٍ بالعقيدة الكاثوليكية. (انظر: ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 327)، في حين يذكر موريس بيشوب: {{اقتباس مضمن|ولقد كان أتباع والدو من المسيحيين الإنجيليين [أي إرهاصاً للأنجليكان البروتستانت من حيث العقيدة]، أما معاصروهم من الكاثاري أو المتطهرين فقد كانوا من الهراطقة بشكلٍ واضحٍ}}. (انظر: بيشوب: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص. 199).</ref> وساعد الشعراء (التروبادور) والتجار الجوالة في سياحتهم على نشر أفكار الألبيجنس،<ref group="هامش">توفر لعقيدة الألبيجنس وأفكارهم من الذيوع بحيث انتشروا في الكثير من المدن الهامة مثل [[قرقشونة]] (كاركاسون)، و[[ناربون|أُربونة]]، و[[مونبلييه]]، و[[تولوز|طلوشة]]، و[[بوردو]]، و[[بواتييه]]، و[[أورليان]]، و[[سواسون]]، و[[أراس]]، و[[ريمس]]، لكن تبقى مقاطعتا [[لانغيدوك|لانجدوك]] و[[بروفانس|بروڤانس]] جنوبي فرنسا مناطقهم الرئيسة.</ref> ومما زاد من انتشارهم دعوتُهم لحرية الرأي والعقيدة، إذ ساد مجتمعاتِهم تسامح كبير حتى مع اليهود في مقابل تصلب الكنيسة وفساد رجال الإكليروس الذين اشتهروا ببيع المناصب الدينية والتسرّي،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=79}}</ref><ref group="هامش">مع أن المجمع اللاتراني الثاني (1139م) حتّم العزوبة على رجال الدين إلا أن العلاقاتِ غيرُ الشرعيةِ كانت ذائعةً جداً حتى عند البابوات، ويُروى أنه كان لأحد أساقفة [[لييج]] في القرن الثالث عشر واحد وستون طفلاً منهم أربعون وُلدوا خلال اثنين وعشرين شهراً، وكانتٍ "السيمونية" أي شراء المناصب عادةً ساريةً في الأوساط الكنسية بسبب الدخل الفاحش لهذه المناصب. (انظر: بيشوب، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص. 79). هذه المثالب ستكون أساساً في مطالب الإصلاح [[البروتستانتية|البروتستانتي]] بعد ثلاثة قرون.</ref> وفي بعض المناطق حَدَبَ الأمراء والسادة الإقطاعيون عليهم مثل ريموند السادس قُمُّص (كونت) [[تولوز|طلّوشة]] عاصمة مقاطعة [[لانغيدوك|لانجِدوك]] {{فرن|{{اقتباس مضمن|''Languedoc''}}}} الذي كان العديد من موظفي بلاطه منهم، وقاموا بالدعوة علناً تحت حكمه، حتى إنهم دُعوا بالألبيجنس {{فرن|{{اقتباس مضمن|''Albigeois''}}}} نسبةً إلى مدينة «ألبي» التابعة له في مقاطعة [[لانغيدوك|لانجِدوك]] جنوب غربي فرنسا، والتي اعتبرت مركزهم،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=200}}</ref> وقد وافق ريموند السادس على محاولة هدايتهم بالإقناع، لكنه رفض تنفيذ المرسوم البابوي باستئصال شأفتهم،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=330}}</ref> ما أدى إلى حرمانه كنسياً مرتين، كما رفض بعضُ رجالِ الكنيسةِ استخدام العنف ضدهم كأسقف [[ناربون|أُربونة]]، وأسقف [[بيزييه|بَزَارِش]]، ولما أعيت [[إينوسنت الثالث|إنوسنتَ الثالثَ]] (حبريته 1198-1216م) الحيلةُ أعلن عن [[الحملة الصليبية على الكثار|حملةٍ صليبيةٍ على الزنادقة]] واعداً بأن تكون أراضيهم ومدنهم وممتلكاتهم مستباحةً لكل من يشترك فيها، وبسبب القرب الجغرافي كان أمرها أيسرَ جداً من الحملات الإفرنجية {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Crusades''}}}} المتجهة إلى المشرق، فضلاً عن أن مناطق الألبجنس كانت مغريةً بسبب ثرائها وازدهارها، وسرعان ما تقاطرَ المتطوعون، وكان أبرزهم -وبالطبع أكبرهم مغنماً- الملك الفرنسي الذي استولى على مناطقَ شاسعةٍ ضمها في النهاية إلى أملاكه الخاصة، وإقطاعيّتُه وقتئذٍ من الصغر لا تعدو بالكاد ما بين [[باريس]] و[[أورليان]]،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=72}}</ref><ref group="هامش">بنتيجة هذه الحملة الصليبية صار لفرنسا لأول مرةٍ ساحل على البحر الأبيض المتوسط، وطغت اللفة الشمالية واندثرت اللفة الرومانسية الجنوبية في فرنسا، وتأخرت فرنسا عن الدخول في عصر النهضة لقرنين، فيما آثر بقية الكاثار في أوربا الغربية التخفي وانكفؤوا قروناً عديدةً مستترين.</ref> بل إن كثيراً من السادة الإقطاعيين من أتباعه كانوا أثرى -وبناءً عليه أقوى- منه بكثيرٍ. دامتِ الحملة عشرين عاماً، وصاحبتها وحشيةٌ بالغة العنف والقسوة حتى بالمعايير الأوروبية القروسطية،<ref group="هامش">في الهجوم على بيزييه (بزارش) سنة 1209م وبعدما رفض المدافعون عن المدينة الاستسلام، يذكر القس أندرو ميلر:<br/>
"عندئذٍ صاح أرنولد: إذاً لن يُترك حجر على حجر، ولْيكنِ الرجال والنساء والأطفال فريسة السيف والنار، وسرعان ما سقطتِ المدينة في أيدي المحاصرين، ونُفّذَ الأمر بكل قسوةٍ وفظاعةٍ، ووقف القادة عند الأبواب وسألوا رئيس الدير: كيف يمكن للجنود أن يميزوا الكاثوليك من الهراطقة؟ فقال لهم: اذبحوهم جميعاً، يعلم الرب الذين هم له.<br/>
"عندئذٍ صاح أرنولد: إذاً لن يُترك حجر على حجر، ولْيكنِ الرجال والنساء والأطفال فريسة السيف والنار، وسرعان ما سقطتِ المدينة في أيدي المحاصرين، ونُفّذَ الأمر بكل قسوةٍ وفظاعةٍ، ووقف القادة عند الأبواب وسألوا رئيس الدير: كيف يمكن للجنود أن يميزوا الكاثوليك من الهراطقة؟ فقال لهم: اذبحوهم جميعاً، يعلم الرب الذين هم له.<br/>
عندئذٍ ابتدأتِ المذبحة، فكان السيف يحصد الرجال والنساء والأطفال بلا تمييزٍ، ونواقيس الكاتدرائية تقرع حتى انتهتِ المجزرة، وهُرعتِ الجماهير المرتعدة إلى الكنائس لعلها تجد ملجأً داخل الجدران المقدسة إلا أن هذا لم يُغنِها فتيلاً، ولم يفلت من السيف مخلوق بشري واحد، فأصبح سكان بيزير [بيزييه] جميعاً أكواماً من الجثث الآدمية مكدسةً بعضها فوق بعضٍ بعد أن كانوا بالأمس يملؤون شوارع المدينة وأسواقها حركةً ونشاطاً، حتى إنه يقال إن عدد الذين راحوا ضحية هذه المجزرة كان يتراوح بين العشرين ومئة الألف. و[كانت] جماهير عديدة هربت من القرى في ذلك الوقت إلى المدينة". (انظر: "ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 332).</ref> وأدت إلى تأسيس [[محاكم التفتيش]] على يد الدومينيكان سنة 1210.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=335}}</ref><ref group="هامش">بحسب ول ديورانت تأسست محاكم التفتيش الكنسية سنة 1227م، (انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة (الكتاب الخامس، ج 15)، ص. 7)، ويبدو أن تأسيسها سنة 1210 خاص بتلك الحملة ثم عُمّمت سنة 1227.</ref> واعتبرت من أوائل حروب الإبادة الجماعية {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Genocide''}}}} في التاريخ.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=325-343}}</ref><ref group="هامش">بحسب السير جيمس ستيفنس: "لدى ذلك الجيل المغمور بالجهل والخرافة لم تكن هناك دعوة أحب للقلب من هذه الدعوة، فالأخطار والمتاعب وأشد أنواع الشقاء لازمتِ الصليبيين أثناء مسيرهم إلى بيت المقدس يحدوهم الأمل بنوال الفردوس الموعود، أما في حالة الحرب ضد الألبينيين فسيربح كل من يشترك فيها الأجر نفسه الذي لايقدر بثمن، ليس بشيءٍ من إنكار الذات، بل بالانغماس في كل الملذات، فكل من كان عليه دينٌ سيُعفى منه، وكل من ارتكب خطيئةً ضد نواميس الله ستغفر له، وفوق ذلك حياة أبدية سعيدة ينالها الواحد منهم لا بالعيشة المقدسة في المستقبل بل بحياةٍ ملوثةٍ بالإثم والجريمة، وليس بكبح جماح شهواتهم بل بإطلاق العنان لأحط غرائزهم وإشباع أطماعهم على حساب شعبٍ مسالمٍ كانت ثروته تثير لعابهم، ووجوده يلهب حقدهم". انظر: "ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 331".</ref> فيما بعد حرّم مجمع تولوز (طلّوشة) الكنسي (1229م) تحريماً باتاً ترجمة أي جزءٍ من [[الكتاب المقدس]] -عدا المزامير<ref group="هامش">سفر المزامير يتألف من مئةٍ وخمسين مزموراً هي قصائدُ شعرية وأناشيدُ وأدعية تنسب لنبي الله داود، وقيل بل سبع وثلاثون فقط من تأليفه.</ref> والأدعية- إلى اللغات الدارجة.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=345}}</ref><ref group="هامش">كان تحريم ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الدارجة مدعاة اللعنة التي لحقت بلاهوتيٍّ كبيرٍ عمل مستشاراً لاهوتياً لملك إنجلترا هو [[جون ويكليف|جون وايكليف]] (28-1284)، فقد تسببت ترجمته للكتاب المقدس إلى الإنجليزية الدارجة في ثورة الكنيسة عليه ومنع نشر الكتاب لاحقاً، وكانت أحد الأسباب التي أدت لإدانته بالهرطقة بعد موته وإحراق كتبه، ثم نبش عظامه وإحراقها بأمرٍ من البابا، هذا إلى جانب أفكاره الأخر التي اعتبرت "هرطوقية" كمعارضته سلطة البابا المطلقة، ومبدأ الاستحالة الجوهرية أو "سر الأفخارستيا"، وقوله بأن سلطة الكتاب المقدس تعلو على كل سلطةٍ أخرى.</ref>
عندئذٍ ابتدأتِ المذبحة، فكان السيف يحصد الرجال والنساء والأطفال بلا تمييزٍ، ونواقيس الكاتدرائية تقرع حتى انتهتِ المجزرة، وهُرعتِ الجماهير المرتعدة إلى الكنائس لعلها تجد ملجأً داخل الجدران المقدسة إلا أن هذا لم يُغنِها فتيلاً، ولم يفلت من السيف مخلوق بشري واحد، فأصبح سكان بيزير [بيزييه] جميعاً أكواماً من الجثث الآدمية مكدسةً بعضها فوق بعضٍ بعد أن كانوا بالأمس يملؤون شوارع المدينة وأسواقها حركةً ونشاطاً، حتى إنه يقال إن عدد الذين راحوا ضحية هذه المجزرة كان يتراوح بين عشرين ألفاً ومئة ألف. و[كانت] جماهير عديدة هربت من القرى في ذلك الوقت إلى المدينة". (انظر: "ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 332).</ref> وأدت إلى تأسيس [[محاكم التفتيش]] على يد الدومينيكان سنة 1210.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=335}}</ref><ref group="هامش">بحسب ول ديورانت تأسست محاكم التفتيش الكنسية سنة 1227م، (انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة (الكتاب الخامس، ج 15)، ص. 7)، ويبدو أن تأسيسها سنة 1210 خاص بتلك الحملة ثم عُمّمت سنة 1227.</ref> واعتبرت من أوائل حروب الإبادة الجماعية {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Genocide''}}}} في التاريخ.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=325-343}}</ref><ref group="هامش">بحسب السير جيمس ستيفنس: "لدى ذلك الجيل المغمور بالجهل والخرافة لم تكن هناك دعوة أحب للقلب من هذه الدعوة، فالأخطار والمتاعب وأشد أنواع الشقاء لازمتِ الصليبيين أثناء مسيرهم إلى بيت المقدس يحدوهم الأمل بنوال الفردوس الموعود، أما في حالة الحرب ضد الألبينيين فسيربح كل من يشترك فيها الأجر نفسه الذي لايقدر بثمن، ليس بشيءٍ من إنكار الذات، بل بالانغماس في كل الملذات، فكل من كان عليه دينٌ سيُعفى منه، وكل من ارتكب خطيئةً ضد نواميس الله ستغفر له، وفوق ذلك حياة أبدية سعيدة ينالها الواحد منهم لا بالعيشة المقدسة في المستقبل بل بحياةٍ ملوثةٍ بالإثم والجريمة، وليس بكبح جماح شهواتهم بل بإطلاق العنان لأحط غرائزهم وإشباع أطماعهم على حساب شعبٍ مسالمٍ كانت ثروته تثير لعابهم، ووجوده يلهب حقدهم". انظر: "ميلر: مختصر تاريخ الكنيسة، ص. 331".</ref> فيما بعد حرّم مجمع تولوز (طلّوشة) الكنسي (1229م) تحريماً باتاً ترجمة أي جزءٍ من [[الكتاب المقدس]] -عدا المزامير<ref group="هامش">سفر المزامير يتألف من مئةٍ وخمسين مزموراً هي قصائدُ شعرية وأناشيدُ وأدعية تنسب لنبي الله داود، وقيل بل سبع وثلاثون فقط من تأليفه.</ref> والأدعية- إلى اللغات الدارجة.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|ملر|2002|ص=345}}</ref><ref group="هامش">كان تحريم ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الدارجة مدعاة اللعنة التي لحقت بلاهوتيٍّ كبيرٍ عمل مستشاراً لاهوتياً لملك إنجلترا هو [[جون ويكليف|جون وايكليف]] (28-1284)، فقد تسببت ترجمته للكتاب المقدس إلى الإنجليزية الدارجة في ثورة الكنيسة عليه ومنع نشر الكتاب لاحقاً، وكانت أحد الأسباب التي أدت لإدانته بالهرطقة بعد موته وإحراق كتبه، ثم نبش عظامه وإحراقها بأمرٍ من البابا، هذا إلى جانب أفكاره الأخر التي اعتبرت "هرطوقية" كمعارضته سلطة البابا المطلقة، ومبدأ الاستحالة الجوهرية أو "سر الأفخارستيا" (سر المناولة)، وقوله بأن سلطة الكتاب المقدس تعلو على كل سلطةٍ أخرى.</ref>


أما البابوية فدفعت ثمن انتصاراتها غالياً. إن طلب التمويل لشن الحروب -عدا عما تجره من ويلاتٍ- وإدارتها لذرائعَ تخقي نوازعَ شخصيةً -ناهيك عن الأموال المحصَّلة لإدارة مؤسسةٍ كبرى كالبابوية- أطغى شيئاً فشيئاً روحاً من البغضاء ومساءةِ الظن على مشاعر المحبة والإجلال، ففي مطالع القرن الثالث عشر حكم إنوسنت الثالث (حبريته 1198-1216م) على أنه خليفة المسيح في الأرض،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=232}}</ref> فكانتِ الصليبية الألبجنسية واحدةً من مآثره، واستخلص من ملوك [[إنجلترا]] [[منطقة أرغون|وأراجون]] و[[البرتغال]] اعترافاً بأنهم إنما يحكمون بلادهم إقطاعاً من البابوية، وأصدر حرماناً بحق [[جون ملك إنجلترا|حنا (جون)]] الملك الإنجليزي (حكم 1199-1216م) حنى إذا أخضعه مجبراً إياه على الاعتراف بخطيئته، التفت إلى النيلاء (البارونات) الذين كانوا ثاروا على الملك حنا وأرغموه على منحهم أول وثيقة حقوقٍ دستوريةٍ وأشهرها في القرون الوسطى؛ [[الوثيقة العظمى|العهد الأعظم أو الماجنا كارتا]] (الاسم منحوت من اللاتينية) (1215) فحرمهم وألغى الوثيقة، وأشعل حرباً أهليةً مُروّعةً في ألمانبا، وشرع يعين أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة ويعزلهم وفق شروطه،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=230-232}}</ref> لكن الأمر تغير مع الزمن، وما زاده سوءاً جشع البابوات، فعمد [[إنوسنت الرابع]] -الجنوي ذو الخلفية المالية الخبيرة- (حبريته 43-1254م) إلى شراء النفوذ في إيطاليا بتعيين طليانٍ في كثيرٍ من الوظائف الدينية في إنجلترا حيث اعتادوا على جني العوائد دونما حضورٍ في وظائفهم، وعندما أثقل كاهلَ الهيثة الكنسية في كلٍّ من إنجلترا وفرنسا اضطر [[لويس التاسع]] -الذي لطالما حباه الكرسيُّ الرسوليُّ ومملكتَه على الدوام بشيءٍ من الرفق وطيب المعاملة- إلى التذمّر برسالة احتجاجٍ شديدة اللهجة: {{اقتباس مضمن|من يشتدُّ في استدرار الضروع لابد وأن يحلب الدم}}، واستغاث رجال الكهنوت الإنجليز من زراية أحوالهم شاكين إلى المجلس الديني العام المنعقد في مدينة [[ليون]] سنة 1246 (مجمع ليون المسكوني الأول)،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=259}}</ref> كذلك الأمر حينما ارتأى [[ألكسندر الرابع]] (حبريته 54-1261) أن يجند حملتين -بتمويلٍ إنجليزيٍّ- فشلتا في احتلال [[صقلية]] (1261) للتخلص من مانفرد ابن فريدريك الثاني من آل هوهنشتاوفن غرماء البابوية التقليديين.<ref name="م7" group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=256}}</ref><ref group="هامش">كان البابا [[إنوسنت الرابع]] في 14 مايو/أيار 1254 (قبل وفاته بأحد عشر يوماً) منح صقلية إقطاعيةً بابويةً لإدموند الابن الثاني لهنري الثالث ملك إنجلترا للخلاص من حكم ذريّة فريدريك الثاني، وكانت صقلية تعد من أنفس المقاطعات في أوروبا تنظيماً وثراءً وتأثيراً بفعل النهضة التي سبّبها التلاقح الثقافي مع الحضارة الإسلامية مثلها مثل [[الأندلس]]، وقبلما ينقضي عام على توليه أكد ألكسندر الرابع المنحة مقابل خراجٍ سنويٍّ؛ ألفي أوقيةٍ من الذهب، وخدمةِ ثلاثمئة فارسٍ لمدة ثلاثة أشهرٍ عند الحاجة، ثم سدادِ 135،541 ماركاً تعويضاً للبابا عما أنفقه للإطاحة بمانفريد، (انظر: Rymer,Foedera, I.i. 316-18, [http://www.oxforddnb.com/view/article/8504?docPos=1 Simon Lloyd, ''Edmund Crouchback'', Oxford Online Dictionary of National Biography, 2004]. Rymer I. 2, pp. 12–13: ("رسالة من الملك هنري إلى الكاردينال ريكاردو أنيبالدي؛ كاردينال سانت أنجلو") a letter of King Henry to Cardinal Riccardo Annibaldi de Molaria, Cardinal Deacon of Sant' Angelo.)
أما البابوية فدفعت ثمن انتصاراتها غالياً. إن طلب التمويل لشن الحروب -عدا عما تجره من ويلاتٍ- وإدارتَها لذرائعَ تخقي نوازعَ شخصيةً -ناهيك عن الأموال المحصَّلة لإدارة مؤسسةٍ كبرى كالبابوية وفساد رجال الإكليروس- أطغى شيئاً فشيئاً روحاً من البغضاء ومساءةِ الظن على مشاعر المحبة والإجلال، ففي مطالع القرن الثالث عشر حكم إنوسنت الثالث (حبريته 1198-1216م) على أنه خليفة المسيح في الأرض،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=232}}</ref> فكانتِ الصليبية الألبجنسية واحدةً من مآثره، واستخلص من ملوك [[إنجلترا]] [[منطقة أرغون|وأراجون]] و[[البرتغال]] اعترافاً بأنهم إنما يحكمون بلادهم إقطاعاً من البابوية، وأصدر حرماناً بحق [[جون ملك إنجلترا|حنا (جون)]] الملك الإنجليزي (حكم 1199-1216م) حنى إذا أخضعه مجبراً إياه على الاعتراف بخطيئته، التفت إلى النبلاء (البارونات) الذين كانوا ثاروا على الملك حنا وأرغموه على منحهم أول وثيقة حقوقٍ دستوريةٍ وأشهرها في القرون الوسطى؛ [[الوثيقة العظمى|العهد الأعظم أو الماجنا كارتا]] (الاسم منحوت من اللاتينية) (1215) فحرمهم وألغى الوثيقة، وأشعل حرباً أهليةً مُروّعةً في ألمانيا، وشرع يعين أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة ويعزلهم وفق شروطه،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=230-232}}</ref> لكن الأمر تغير مع الزمن، وما زاده سوءاً جشع البابوات وفسادهم، فعمد [[إنوسنت الرابع]] -الجنوي ذو الخلفية المالية الخبيرة- (حبريته 43-1254م) إلى شراء النفوذ في إيطاليا بتعيين طليانٍ في كثيرٍ من الوظائف الدينية في إنجلترا حيث اعتادوا على جني العوائد دونما حضورٍ في وظائفهم، وبعدما أثقل كاهلَ الهيثة الكنسية في كلٍّ من إنجلترا وفرنسا اضطر [[لويس التاسع]] -الذي لطالما حباه الكرسيُّ الرسوليُّ ومملكتَه على الدوام بشيءٍ من الرفق وطيب المعاملة- إلى التذمّر برسالة احتجاجٍ شديدة اللهجة: {{اقتباس مضمن|من يشتدُّ في استدرار الضروع لابد وأن يحلب الدم}}، واستغاث رجال الكهنوت الإنجليز من زراية أحوالهم شاكين إلى المجلس الديني العام المنعقد في مدينة [[ليون]] سنة 1246 (مجمع ليون المسكوني الأول)،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=259}}</ref> كذلك الأمر حينما ارتأى [[ألكسندر الرابع]] (حبريته 54-1261) أن يجند حملتين -بتمويلٍ إنجليزيٍّ- فشلتا في احتلال [[صقلية]] (1261) للتخلص من مانفرد ابن فريدريك الثاني من آل هوهنشتاوفن غرماء البابوية التقليديين.<ref name="م7" group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=256}}</ref><ref group="هامش">كان البابا [[إنوسنت الرابع]] في 14 مايو/أيار 1254 (قبل وفاته بأحد عشر يوماً) منح صقلية إقطاعيةً بابويةً لإدموند الابن الثاني لهنري الثالث ملك إنجلترا للخلاص من حكم ذريّة فريدريك الثاني، وكانت صقلية واحدةً من أنفس المقاطعات في أوروبا تنظيماً وثراءً وتأثيراً بفعل النهضة التي سبّبها التلاقح الثقافي مع الحضارة الإسلامية مثلها مثل [[الأندلس]]، وقبلما ينقضي عام على توليه أكد ألكسندر الرابع المنحة مقابل خراجٍ سنويٍّ؛ ألفي أوقيةٍ من الذهب، وخدمةِ ثلاثمئة فارسٍ لمدة ثلاثة أشهرٍ عند الحاجة، ثم سدادِ 135،541 ماركاً تعويضاً للبابا عما أنفقه للإطاحة بمانفريد، (انظر: Rymer,Foedera, I.i. 316-18, [http://www.oxforddnb.com/view/article/8504?docPos=1 Simon Lloyd, ''Edmund Crouchback'', Oxford Online Dictionary of National Biography, 2004]. Rymer I. 2, pp. 12–13: ("رسالة من الملك هنري إلى الكاردينال ريكاردو أنيبالدي؛ كاردينال سانت أنجلو") a letter of King Henry to Cardinal Riccardo Annibaldi de Molaria, Cardinal Deacon of Sant' Angelo.)
ولقد أدت محاولات هنري الثالث الفاشلة لإقناع رعاياه بدفع الضرائب المطلوبة لتلبية مطالب البابا إلى تأجيج الصراع بين الملك والبرلمان، والذي انفجر من ثمَّ في [[حرب البارونات الثانية]] (63-1267). (انظر: J. R. Maddicott, ''The Origins of the English Parliament, 924–1327'' (أصول البرلمان الإنجليزي، 924-1327), مطبعة جامعة أكسفورد، 2010، ص. 235.)
ولقد أدت محاولات هنري الثالث الفاشلة لإقناع رعاياه بدفع الضرائب المطلوبة لتلبية مطالب البابا إلى تأجيج الصراع بين الملك والبرلمان، والذي انفجر من ثمَّ في [[حرب البارونات الثانية]] (63-1267). (انظر: J. R. Maddicott, ''The Origins of the English Parliament, 924–1327'' (أصول البرلمان الإنجليزي، 924-1327), مطبعة جامعة أكسفورد، 2010، ص. 235.)
  {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20220405013701/http://www.oxforddnb.com/view/article/8504?docPos=1|date=2022-04-05}}</ref> هذا كله فضلاً عن الحروب الأهلية التي دأب الباباوات على إثارتها وتمويلها وجعلت -على سبيل المثال- من أواخر عهد [[فريدريك الثاني]] جحيماً.<ref name="م7" group="عر"/> حتى إذا اشتطَّ [[بونيفاس الثامن]] (ولد 1235، حبريته 1294-1303م) في ذلك شططاً غير مسبوقٍ -لدرجة أنه شنَّ حملةً صليبيةً على آل كولونا خصوم عائلته- وقف [[إدوارد الأول ملك إنجلترا|إدوارد الأول الإنجليزي]] (حكم 1272-1307م) [[فيليب الرابع ملك فرنسا|وفيليب الجميل الفرنسي]] (حكم 1285-1314م) ضده معلنين نيتهما بأن يكون كلٌّ منهما سيّداً في مملكته، وأن رعية كلٍّ تؤيده في ذلك كلياً، وأنه ليس ضروريّاً أن يخضع الملك للبابا لكي يفوز بالجنة، وعندما أرسل فيليب الجميل في سَوْرةِ غضبٍ لاختطاف البابا المُسنّ وجلبه إلى فرنسا سنة 1299 لم يُبْدِِ أحدٌ اعتراضاً ما، ولئن كان بونيفاس الثامن أفلح إلى حدٍّ ما في الحفاظ على استقلال القرار البابوي،<ref group="هامش">اعتُبر بونيفاس الثامن من الباباوات الأكثر انتقاداً وإثارةً للجدل في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية لانغماسه في الملذات وتوزيعه المناصب على المقربين، حتى إن معاصره "دانتي" لم ير غضاضةً في انتقاده بشدةٍ واضعاً إياه في "[[الكوميديا الإلهية|ملهاته]]" في الحلقة الثامنة من الجحيم مع السيمونيين (السيمونية: شراء المناصب بالمال، أي عن طريق الرشوة). خلفه [[بندكت الحادي عشر|بنديكت الحادي عشر]] (22/ 10/ 1303 - 7/ 7/ 1304) الذي رفع الحرمان الكنسي عن فيليب الجميل، ومن بعده فشل [[مجمع الكرادلة]] في انتخاب أحدٍ بسبب الخلاف بين الكرادلة الطليان والفرنسيين، وشغر المنصب لأحد عشر شهراً قبلما يُنتخب [[كليمنت الخامس|كلمنت الخامس]] (الفرنسي من مقاطعة أقطانية) في حزيران/يونيو 1305 معتمداً على الدعم الفرنسي.</ref> فإن خليفتَه [[كليمنت الخامس|كلمنت الخامس]] (حبريته 05-1314) -الذي انتخب بدعمٍ حاسمٍ من فيليب الجميل، ونقلَ مقر الكرسي الرسولي إلى [[أفينيون]] جنوب شرق فرنسا- أخفق في ذلك إخفاقاً ذريعاً مدشناً أحلك حقبةٍ من تاريخ الكنيسة الرومانية عندما انشقت إلى بابا في روما خاضعٍ لنفوذ الإمبراطور الروماني المقدس، وآخر في [[أفينيون]] بات ألعوبةً بيد العاهل الفرنسي ([[بابوية أفينيون]]، 1305-1417).<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=259-260}}</ref>
  {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20220405013701/http://www.oxforddnb.com/view/article/8504?docPos=1|date=2022-04-05}}</ref> هذا كله فضلاً عن الحروب الأهلية التي دأب الباباوات على إثارتها وتمويلها وجعلت -على سبيل المثال- من أواخر عهد [[فريدريك الثاني]] جحيماً.<ref name="م7" group="عر"/> حتى إذا اشتطَّ [[بونيفاس الثامن]] (ولد 1235، حبريته 1294-1303م) في ذلك شططاً غير مسبوقٍ -لدرجة أنه شنَّ حملةً صليبيةً على آل كولونا خصوم عائلته- وقف [[إدوارد الأول ملك إنجلترا|إدوارد الأول الإنجليزي]] (حكم 1272-1307م) [[فيليب الرابع ملك فرنسا|وفيليب الجميل الفرنسي]] (حكم 1285-1314م) ضده معلنين نيتهما بأن يكون كلٌّ منهما سيّداً في مملكته، وأن رعية كلٍّ تؤيده في ذلك كلياً، وأنه ليس ضروريّاً أن يخضع الملك للبابا لكي يفوز بالجنة، وعندما أرسل فيليب الجميل في سَوْرةِ غضبٍ لاختطاف البابا المُسنّ وجلبه إلى فرنسا سنة 1299 لم يُبْدِِ أحدٌ اعتراضاً ما، ولئن كان بونيفاس الثامن أفلح إلى حدٍّ ما في الحفاظ على استقلال القرار البابوي،<ref group="هامش">اعتُبر بونيفاس الثامن من الباباوات الأكثر انتقاداً وإثارةً للجدل في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية لانغماسه في الملذات وتوزيعه المناصب على المقربين، حتى إن معاصره "دانتي" لم ير غضاضةً في انتقاده بشدةٍ واضعاً إياه في "[[الكوميديا الإلهية|ملهاته]]" في الحلقة الثامنة من الجحيم مع السيمونيين (السيمونية: شراء المناصب بالمال، أي عن طريق الرشوة). خلفه [[بندكت الحادي عشر|بنديكت الحادي عشر]] (22/ 10/ 1303 - 7/ 7/ 1304) الذي رفع الحرمان الكنسي عن فيليب الجميل، ومن بعده فشل [[مجمع الكرادلة]] في انتخاب أحدٍ بسبب الخلاف بين الكرادلة الطليان والفرنسيين، وشغر المنصب لأحد عشر شهراً قبلما يُنتخب [[كليمنت الخامس|كلمنت الخامس]] (الفرنسي من مقاطعة أقطانية) في حزيران/يونيو 1305 معتمداً على الدعم الفرنسي.</ref> فإن خليفتَه [[كليمنت الخامس|كلمنت الخامس]] (حبريته 05-1314) -الذي انتخب بدعمٍ حاسمٍ من فيليب الجميل، ونقلَ مقر الكرسي الرسولي إلى [[أفنيون]] جنوب شرق فرنسا- أخفق في ذلك إخفاقاً ذريعاً مدشناً أحلك حقبةٍ من تاريخ الكنيسة الرومانية عندما انشقت إلى بابا في روما خاضعٍ لنفوذ الإمبراطور الروماني المقدس، وآخر في أفنيون بات ألعوبةً بيد العاهل الفرنسي ([[بابوية أفينيون]]، 1305-1417).<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|فيشر|1976|ج=1|ص=259-260}}</ref>


=== الثقافة والعلم والفلسفة ===
=== الثقافة والعلم والفلسفة ===
سطر 128: سطر 123:
[[ملف:Septem-artes-liberales Herrad-von-Landsberg Hortus-deliciarum 1180.jpg|تصغير|230 بك|مكانة الفلسفة بين الفنون الحرة السبعة. صورة من [[القرن الثاني عشر]] (حوالي العام 1180).]]
[[ملف:Septem-artes-liberales Herrad-von-Landsberg Hortus-deliciarum 1180.jpg|تصغير|230 بك|مكانة الفلسفة بين الفنون الحرة السبعة. صورة من [[القرن الثاني عشر]] (حوالي العام 1180).]]


ما فتئتِ اللاتينية في ذلك الزمن المبكر -والحضارة الغربية لمّا تزلْ تحبو- اللغةَ الوحيدةَ للعلم والفلسفة والثقافة عموماً في مجتمعٍ شاسع الأرجاء يمتد من صقلية إلى بريطانيا، ومن البرتغال إلى [[برغونية|بورغُنديا]] و[[جبال الألب]]، فكان بوسع الطلبةِ خريجي المدارس الإقليمية أن يرتحلوا من صقلية أو [[نابولي|ناپولي]] (على نحو ما سيفعل توما الأكويني) إلى [[باريس|پاريس]]، أو [[بولونيا (إيطاليا)|بولونيا]]، أو [[شلمنقة]]، أو [[أكسفورد]]، أو [[مونبلييه|مونپلييه]] للدراسة في جامعاتها دونما حاجةٍ لإتقان لغةٍ أخرى، وكان التعليم تحت إشراف الكنيسة، ولم يكنِ الاقتباس عن المسلمين هُجنةً بل بالحريِّ صيحة العصر، فقد كانت كلمة [[فلسفة|فيلسوف]] في عصر القديس [[أنسلم من كانتربري|أنسلم]] (1033-1109م) تعني عربي، ونُقل عن روجر بيكون (20–1292) قوله: «لقد جاءتِ الفلسفة إلينا من العرب»، ولقد تتلمذت أوروبا على مآثر الفلاسفة والعلماء المسلمين، و{{اقتباس مضمن|إن في إشارات روجر بيكون المتكررة لابن رشد وابن سينا والفارابي لدليلاً على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثيرٍ وحافزٍ جديدٍ... وسنرى أن الذي دعا توماس أكويناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت "الخلاصة اللاهوتية" هو أن يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية.}}<ref name="م9" group="عر">{{استشهاد مختصر|ديورانت|1988|ج=17|ص=22}}</ref>
ما فتئتِ اللاتينية في ذلك الأوان المبكر -والحضارة الغربية لمّا تزلْ تحبو- اللغةَ الوحيدةَ للعلم والفلسفة والثقافة عموماً في مجتمعٍ شاسع الأرجاء يمتد من صقلية إلى بريطانيا، ومن البرتغال إلى [[برغونية|بورغُنديا]] وجبال الألب، فكان بوسع الطلبةِ خريجي المدارس الإقليمية أن يرتحلوا من صقلية أو [[نابولي|ناپولي]] (على نحو ما سيفعل توما الأكويني) إلى [[باريس|پاريس]]، أو [[بولونيا (إيطاليا)|بولونيا]]، أو [[شلمنقة]]، أو [[أكسفورد]]، أو [[مونبلييه|مونپلييه]] للدراسة في جامعاتها دونما حاجةٍ لإتقان لغةٍ أخرى، وكان التعليم تحت إشراف الكنيسة، ولم يكنِ الاقتباس عن المسلمين هُجنةً بل بالحريِّ صيحة العصر، فقد كانت كلمة [[فلسفة|فيلسوف]] في عصر القديس [[أنسلم من كانتربري|أنسلم]] (1033-1109م) تعني عربي، ونُقل عن روجر بيكون (20–1292) قوله: «لقد جاءتِ الفلسفة إلينا من العرب»، ولقد تتلمذت أوروبا على مآثر الفلاسفة والعلماء المسلمين، و{{اقتباس مضمن|إن في إشارات روجر بيكون المتكررة لابن رشد وابن سينا والفارابي لدليلاً على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثيرٍ وحافزٍ جديدٍ... وسنرى أن الذي دعا توماس أكويناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت "الخلاصة اللاهوتية" هو أن يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية.}}<ref name="م9" group="عر">{{استشهاد مختصر|ديورانت|1988|ج=17|ص=22}}</ref>


لم تكنِ [[مدرسية (فلسفة)|الفلسفة المدرسية]] مذهباً قائماً برأسه، بل مصطلحاً أطلق لاحقاً على شتى المذاهب والأفكار الفلسفية التي وُجدت في أورُبّا القروسطية، ولقد وصلت إلى ذروتها إبان [[القرن الثالث عشر الميلادي]] بحيث بات يُمكن التمييز بين أربعة تياراتٍ مختلفةٍ إزاء الفلسفة اليونانية -وأرسطو خاصةً- في هذا القرن:<ref name="م10" group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=170-179}}</ref>
لم تكنِ [[مدرسية (فلسفة)|الفلسفة المدرسية]] (الاسكولاستية) مذهباً قائماً برأسه، بل مصطلحاً أطلق لاحقاً على شتى المذاهب والأفكار الفلسفية التي وُجدت في أورُبّا القروسطية، ولقد وصلت إلى ذروتها إبّان [[القرن 13|القرن الثالث عشر الميلادي]] بحيث بات يُمكن التمييز بين أربعة تياراتٍ مختلفةٍ إزاء الفلسفة اليونانية -وأرسطو خاصةً- في هذا القرن:<ref name="م10" group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=170-179}}</ref>
:* ثمة أولاً الرشديون، ولربما أُطلق على مذهبهم «الرشدية اللاتينية»، الذين تقبلوا أفكار أرسطو كما شرحها المسلمون وأهمهم ابن رشدٍ الحفيد (ت. 1198) دونما تحفظٍ أو تعديلٍ، وحيثما تخالف هذه الآراء تعاليم الدين نادَوْا بوجوب قَبول كليهما معاً (وهي النظرية التي دعيت فيما بعد بـ«الحقيقة المزدوجة»)،<ref name="م2" group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=97}}</ref> وأبرز من يمثلهم [[سيجر دي برابانت]] أو سيجر البرابانتي (حوالي 1240 – قبل 10/ 11/ 1284م)، ويعد أول ممثلي هذا التيار ميخائيل اسكوت (ت. 1230) الذي رعاه فريدريك الثاني [رائد التجديدوكلفه بنقل شروح ابن رشدٍ لكتابات أرسطو إلى [[اللاتينية]].<ref name="م10" group="عر"/><ref group="عر">{{استشهاد مختصر|إمام|1998|ص=380}}</ref><ref group="هامش">{{اقتباس مضمن|كان ابن رشدٍ -وبحقٍّ- رائداً من رواد عصر النهضة الأوروبية}}، ويعود للنزعة العقلانية في فلسفته أبلغُ الأثر في شيوعها في أورُبّا الغربية القُروسطية مقابل تشبثِ الكنيسة بآرائها الموروثة {{اقتباس مضمن|حتى إن برتراند رسل -الفيلسوف البريطاني المشهور- نسب إلى ابن رشدٍ فضلَ نشر الطريقة العلمية في أوروبا ما قبل [عصر] النهضة}}. شكلت الرشدية اللاتينية تياراً أكاديمياً بارزاً في جامعات فرنسا وإيطاليا وتميزت بالانتشار السريع وغدت جامعة بادوا في شمال إيطاليا معقلاً لها. (انظر: د. زكريا إمام: لمحات من تاريخ الفلسفة الإسلامية - دراسة مدخلية ميسرة، ص ص. 380-381).</ref>
:* ثمة أولاً الرشديون، ولربما أُطلق على مذهبهم «الرشدية اللاتينية»، الذين تقبلوا أفكار أرسطو كما شرحها المسلمون وأهمهم ابن رشدٍ الحفيد (ت. 1198) دونما تحفظٍ أو تعديلٍ، وحيثما تخالف هذه الآراء تعاليم الدين نادَوْا بوجوب قَبول كليهما معاً (وهي النظرية التي دعيت فيما بعد بـ«الحقيقة المزدوجة»)،<ref name="م2" group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=97}}</ref> وأبرز من يمثلهم [[سيجر دي برابانت]] أو سيجر البرابانتي (حوالي 1240 – قبل 10/ 11/ 1284م)، ويعد أول ممثلي هذا التيار ميخائيل اسكوت (ت. 1230) الذي رعاه رائد التجديد فريدريك الثاني، وكلفه بنقل شروح ابن رشدٍ لكتابات أرسطو إلى [[اللغة اللاتينية|اللاتينية]].<ref name="م10" group="عر"/><ref group="عر">{{استشهاد مختصر|إمام|1998|ص=380}}</ref><ref group="هامش">{{اقتباس مضمن|كان ابن رشدٍ -وبحقٍّ- رائداً من رواد عصر النهضة الأوروبية}}، ويعود للنزعة العقلانية في فلسفته أبلغُ الأثر في شيوعها في أورُبّا الغربية القُروسطية مقابل تشبثِ الكنيسة بآرائها الموروثة {{اقتباس مضمن|حتى إن برتراند رسل -الفيلسوف البريطاني المشهور- نسب إلى ابن رشدٍ فضلَ نشر الطريقة العلمية في أوروبا ما قبل [عصر] النهضة}}. شكلتِ الرشدية اللاتينية تياراً أكاديمياً بارزاً في جامعات فرنسا وإيطاليا وتميزت بالانتشار السريع وغدت جامعة بادوا في شمال إيطاليا معقلاً لها. (انظر: د. زكريا إمام: لمحات من تاريخ الفلسفة الإسلامية - دراسة مدخلية ميسرة، ص ص. 380-381).</ref>
:* وثاني هذه التيارات الأغسطينيون ممن درسوا أرسطو ووعَوْا أفكاره مع تمسكهم بآراء القديس [[أغسطينوس|أغسطين]] المبنية على [[أفلاطون|الفلسفة الأفلاطونية]]، وأبرزهم القديس [[بونافنتورا]] (21-1274).
:* وثاني هذه التيارات الأغسطينيون ممن درسوا أرسطو ووعَوْا أفكاره مع تمسكهم بآراء القديس [[أوغسطينوس|أغسطين]] المبنية على [[أفلاطون|الفلسفة الأفلاطونية]]، وأبرزهم القديس [[بونافنتورا]] (21-1274).
:* وثالثها فريق من الأغسطينيين الفرنسيسكان ظهروا في أكسفورد، واهتموا بالعلوم التجريبية والرياضيات أكثر من الميتافيزيقا، ويمثلهم روبرت جروسِّتست (1175-1253) {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Grossetest''}}}}، وتلميذه الفرنسيسكاني [[روجر باكون|روجر بيكون]] (20–1292) الذي اعتمد على ما قدمه المسلمون ولا سيما ابن سينا وابن الهيثم، وكان من أهم ما قبسه عن المسلمين -ولاسيّّما [[ابن الهيثم]] الذي كان كتابه «المناظر» بمنزلة الدستور العلمي لأساتذة أكسفورد- الاهتمام بالمنهج التجريبي في البحث، فقال أن وسائل المعرفة ثلاث النقل والاستدلال والتجربة، والأولان لا يفيدان معرفةً ما لم تثبتِ التجربةُ صحةَ نتائِجِهِما، وقال إن التجربة توصلنا إلى علمٍ جديدٍ قائمٍ بذاته هو «العلم التجريبي» وكان بيكون أول من صاغ المصطلح، والذي يمكننا من السيطرة على الطبيعة.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=173}}</ref><ref group="هامش">جدير بالذكر أن المنهجية التجريبية أحد الإنجازات الفلسفية للحضارة الإسلامية مقارنةً بالفلسقة اليونانية. يقول زكريا إمام: {{اقتباس مضمن|لفد بدأ الانعطاف الكبير نحو المنهج التجريبي يصبح خاصيةً مميزةً في الفلسفة الإسلامية منذ الوهلة الأولى خاصةً عند العلماء الذين اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والطبية من أمثال جابر بن حيان والحسن بن الهيثم والبيروني والكندي وابن سينا وغيرهم. ولا يد من التنويه بهذه الخاصية والأهمية العظمى لبروزها عند المسلمين لأن المتهجية اليونانية طلت في مجملها متهجيةً تأمليةً بالرغم من محاولات أرسطو في تعريف الاستقراء واستخدامه بصورةٍ محدودةٍ جداً في أبحاثه في علم الحيوان، ولكن ظلت العقلية اليونانية عامةً -وحتى المنهجية الأرسطية ذاتها- ظلت منهجيةً استنباطيةً خالصةً كما هو واضح في نظرية العلم الأرسطية التي يمثل القياس الأرسطي واسطة العقد من منظومتها العامة.}} (انظر: د. زكريا إمام: لمحات من تاريخ الفلسفة الإسلامية - دراسة مدخلية ميسرة، ص 12.)</ref>
:* وثالثها فريق من الأغسطينيين الفرنسيسكان ظهروا في أكسفورد، واهتموا بالعلوم التجريبية والرياضيات أكثر من الميتافيزيقا، ويمثلهم روبرت جروسِّتست (1175-1253) {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Grossetest''}}}}، وتلميذه الفرنسيسكاني [[روجر باكون|روجر بيكون]] (20–1292) الذي اعتمد على ما قدمه المسلمون ولا سيما ابن سينا وابن الهيثم، وكان من أهم ما قبسه عن المسلمين -ولاسيّّما [[ابن الهيثم]] الذي كان كتابه «المناظر» بمنزلة الدستور العلمي لأساتذة أكسفورد- الاهتمام بالمنهج التجريبي في البحث، فقال إن وسائل المعرفة ثلاث النقل والاستدلال والتجربة، والأولان لا يفيدان معرفةً ما لم تثبتِ التجربةُ صحةَ نتائِجِهِما، وقال إن التجربة توصلنا إلى علمٍ جديدٍ قائمٍ بذاته هو «العلم التجريبي» وكان بيكون أول من صاغ المصطلح، والذي يمكننا من السيطرة على الطبيعة.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=173}}</ref><ref group="هامش">جدير بالذكر أن المنهجية التجريبية أحد الإنجازات الفلسفية للحضارة الإسلامية مقارنةً بالفلسقة اليونانية. يقول زكريا إمام: {{اقتباس مضمن|لفد بدأ الانعطاف الكبير نحو المنهج التجريبي يصبح خاصيةً مميزةً في الفلسفة الإسلامية منذ الوهلة الأولى خاصةً عند العلماء الذين اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والطبية من أمثال جابر بن حيان والحسن بن الهيثم والبيروني والكندي وابن سينا وغيرهم. ولا بد من التنويه بهذه الخاصية والأهمية العظمى لبروزها عند المسلمين لأن المتهجية اليونانية ظلت في مجملها متهجيةً تأمليةً بالرغم من محاولات أرسطو في تعريف الاستقراء واستخدامه بصورةٍ محدودةٍ جداً في أبحاثه في علم الحيوان، ولكن ظلت العقلية اليونانية عامةً -وحتى المنهجية الأرسطية ذاتها- ظلت منهجيةً استنباطيةً خالصةً كما هو واضح في نظرية العلم الأرسطية التي يمثل القياس الأرسطي واسطة العقد من منظومتها العامة.}} (انظر: د. زكريا إمام: لمحات من تاريخ الفلسفة الإسلامية - دراسة مدخلية ميسرة، ص 12.)</ref>
:* ورابعها الأرسطيون الدومينيكان الذين تمسكوا بأرسطو أساساً لشرح عقيدتهم، ولكنهم أنشؤوا تفسيراً له خاصاً بهم، ورفضوا ما سواه من الشروح والتفاسير عليه مثل [[أفلاطونية محدثة|الأفلاطونية الحديثة]] وأعمال الفلاسفة المسلمين كابن سينا مع إقرارهم بتلمذتهم على كتابات أولئك الشُّراح وفهمهم أرسطو -أو جُلَّه على الأقل- من خلالهم، وأبرزهم [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت الكبير]] الألماني أسقف [[كولونيا|قُلونيا]] الذي كان أول من فصل بين الفلسفة واللاهوت لأن الأولى وسيلتها العقل بينما يقوم الثاني على الوحي، لكنه أوصى بتوسيط الفلسفة لحل المشاكل اللاهوتية، على أنه -مع استيعابه للمذاهب الفلسفية السابقة عليه- لم ينشئ مذهباً مستقلاً خاصاً به ما جعل تلامذته ينقسمون بين الأفلاطونية الحديثة والأرسطية، وهنا يأتي تلميذه توما الأكويني ليُغلّب جانب أرسطو وليغدوَ أبرز ممثلي هذا التيار.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=175}}</ref>
:* ورابعها الأرسطيون الدومينيكان الذين تمسكوا بأرسطو أساساً لشرح عقيدتهم، ولكنهم أنشؤوا تفسيراً له خاصاً بهم، ورفضوا ما سواه من الشروح والتفاسير عليه مثل [[أفلاطونية محدثة|الأفلاطونية الحديثة]] وأعمال الفلاسفة المسلمين كابن سينا، مع إقرارهم بتلمذتهم على كتابات أولئك الشُّراح وفهمهم أرسطو -أو جُلَّه على الأقل- من خلالهم، وأبرزهم [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت الكبير]] الألماني أسقف [[كولونيا|قُلونية]] الذي كان أول من فصل بين الفلسفة واللاهوت لأن الأولى وسيلتها العقل بينما يقوم الثاني على الوحي، لكنه أوصى بتوسيط الفلسفة لحل المشاكل اللاهوتية، على أنه -مع استيعابه للمذاهب الفلسفية السابقة عليه- لم ينشئ مذهباً مستقلاً خاصاً به ما جعل تلامذته ينقسمون بين الأفلاطونية الحديثة والأرسطية، وهنا يأتي تلميذه توما الأكويني ليُغلّب جانب أرسطو وليغدوَ أبرز ممثلي هذا التيار.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=2|ص=175}}</ref>


ولئن كانت هذه التيارات تلخص المواقف الفكرية للمجتمع الغربي في القرن الثالث عشر بناءً على الفيض الفكري والفلسفي الإسلامي الوافد إليها، فإنها تمثل ردود فعل النخبة المثقفة الغربية على هذا الفكر، وما ينبغي من مجرد لقب التيار الأول «الرشديين» أو «الرشدية اللاتينية» أن نستنتج أنه كان له {{اقتباس مضمن|الفضل الأكبر في تمكين الفكر العربي -خاصةً ابن رشدٍ- من التأثير في الفكر الأورُبي، فهو أمر يخالف الحقيقة تماماً. لقد زوّد الفكرُ العربيُّ الفكرَ الأورُبيَّ بغذاءٍ وموادَّ جديدةٍ، وفتح أمامه عالماً كاملاً جديداً من الميتافيزيقا، وكان على كافة مذاهب الفكر الأورُبي أن تدرسَ أولاً ترجمات المؤلفات العربية.}}<ref name="م2" group="عر"/> <ref group="هامش">إنَّ الاحتكاك بالمُحمديين في إسپانيا -وصقلية إلى حدٍ ما- أدَّى إلى معرفة الغرب بِأرسطو، وكذلك بالأرقام العربيَّة، والجبر، والكيمياء. هذا الاحتكاك هو ما أدَّى إلى إنعاش عمليَّة التعليم الأورُبيَّة خِلال القرن الحادي عشر، ما أدّى في نهاية المطاف إلى ظُهور الفلسفة المدرسيَّة. وفي وقتٍ لاحقٍ -ابتداءً من القرن الثالث عشر- سمحت دراسة الفلسفة الإغريقيَّة لطُلَّاب العلم أن يطّلعوا على مؤلَّفات أفلاطون وأرسطو وغيرهم من كُتَّاب العصور القديمة وفلاسفتهم. ولكن لو لم يحفظِ العربُ أعمال هؤلاء ويُطوروها ويشرحوها، ما كان عُلماء عصر النهضة ليعلموا كم كان من الضروريّ إحياءُ العلوم القديمة والاطلاعُ عليها وتفنيدُها. (انظر: برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، (بِتصرُّف)، روتلدج، 2004، ص. 268)</ref>
ولئن كانت هذه التيارات تلخص المواقف الفكرية للمجتمع الغربي في القرن الثالث عشر بناءً على الفيض الفكري والفلسفي الإسلامي الوافد إليها، فإنها تمثل ردود فعل النخبة المثقفة الغربية على هذا الفكر، وما ينبغي من مجرد لقب التيار الأول «الرشديين» أو «الرشدية اللاتينية» أن نستنتج أنه كان له {{اقتباس مضمن|الفضل الأكبر في تمكين الفكر العربي -خاصةً ابن رشدٍ- من التأثير في الفكر الأورُبي، فهو أمر يخالف الحقيقة تماماً. لقد زوّد الفكرُ العربيُّ الفكرَ الأورُبيَّ بغذاءٍ وموادَّ جديدةٍ، وفتح أمامه عالماً كاملاً جديداً من الميتافيزيقا، وكان على كافة مذاهب الفكر الأورُبي أن تدرسَ أولاً ترجمات المؤلفات العربية.}}<ref name="م2" group="عر"/> <ref group="هامش">إنَّ الاحتكاك بالمُحمديين في إسپانيا -وصقلية إلى حدٍ ما- أدَّى إلى معرفة الغرب بِأرسطو، وكذلك بالأرقام العربيَّة، والجبر، والكيمياء. هذا الاحتكاك هو ما أدَّى إلى إنعاش عمليَّة التعليم الأورُبيَّة خِلال القرن الحادي عشر، ما أدّى في نهاية المطاف إلى ظُهور الفلسفة المدرسيَّة. وفي وقتٍ لاحقٍ -ابتداءً من القرن الثالث عشر- سمحت دراسة الفلسفة الإغريقيَّة لطُلَّاب العلم أن يطّلعوا على مؤلَّفات أفلاطون وأرسطو وغيرهم من كُتَّاب العصور القديمة وفلاسفتهم. ولكن لو لم يحفظِ العربُ أعمال هؤلاء ويُطوروها ويشرحوها، ما كان عُلماء عصر النهضة ليعلموا كم كان من الضروريّ إحياءُ العلوم القديمة والاطلاعُ عليها وتفنيدُها. (انظر: برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، (بِتصرُّف)، روتلدج، 2004، ص. 268)</ref>
سطر 144: سطر 139:
[[ملف:Castello di Monte San Giovanni Campano 9.JPG|تصغير|يمين|'''قلعة جبل سان جيوفاني كامبو'''.]]
[[ملف:Castello di Monte San Giovanni Campano 9.JPG|تصغير|يمين|'''قلعة جبل سان جيوفاني كامبو'''.]]


ولد توما الإكويني حوالي العام [[1225]] على الأرجح (أرجع برتراند رسل ولادته لعام [[1226]]<ref name="م1" group="عر"/>) في قلعة روكاسِكا؛ قلعة والده «لاندولف دي أكوينو» كونت (قُمّص) منطقة أكوينو في [[مملكة صقلية]] (جنوب مقاطعة [[لاتسيو]] الإيطالية اليوم). ينتمي توماس إلى أقوى فرعٍ في العائلة، فقد كان لاندولف شريفاً مكيناً ذا نفوذٍ حاز لقبَ «فارسٍ» بصفته نبيلاً في بلاط [[إمبراطور روماني مقدس|الإمبراطور الروماني المقدس]] [[فريدريك الثاني]].<ref>{{استشهاد مختصر|Geisler|2003|ص=26|لغة=en}}</ref>
ولد توما الإكويني حوالي العام [[1225]] على الأرجح (أرجع برتراند رسل ولادته لعام [[1226]]<ref name="م1" group="عر"/>) في قلعة روكاسِكا؛ قلعة والده «لاندولف دي أكوينو» كونت (قُمّص) منطقة أكوينو في [[مملكة صقلية]] (جنوب مقاطعة لاتسيو الإيطالية اليوم). ينتمي توماس إلى أقوى فرعٍ في العائلة، فقد كان لاندولف شريفاً مكيناً ذا نفوذٍ حاز لقبَ «فارسٍ» بصفته نبيلاً في بلاط [[إمبراطور روماني مقدس|الإمبراطور الروماني المقدس]] [[فريدريك الثاني]].<ref>{{استشهاد مختصر|Geisler|2003|ص=26|لغة=en}}</ref>


وترتبط عائلته بسلالة [[هوهنشتاوفن]] الحاكمة في [[الإمبراطورية الرومانية المقدسة]] عن طريق والدته ثيودورا كونتيسة (قُمُّصَة) تيات.<ref name="schaff-422">{{استشهاد مختصر|Jackson|1953|ج=XI|ص=422|لغة=en}}</ref> ولكن مصدراً آخرَ ذكر أنها تنتمي إلى فرع يدعى «روسّي»<ref group="إنج">Rossi</ref> في عائلة «كاراشيولو» من [[نابولي|ناپولي]].<ref>{{استشهاد مختصر|Torrell|2005|ص=3|لغة=en}}</ref> كان سينيبالد شقيق لاندولف رئيس دير [[الرهبنة البندكتية|الرهبان البنديكتيين]] في مونتي كاسينو أقدمِ ديرٍ بنديكتيٍّ،<ref group="هامش">دير تاريخي يقع على قمة جبل كاسينو الشاهقِ ذي المنحدرات شديدة الوعورة الواقع شمال شرق ناپولي. تأسس في العام 529م. نال شهرةً واسعةً بعدما صار محل هجومٍ عنيفٍ من قبل الحلفاء ضد الألمان (بين 17 يناير و18 مايو من العام 1944) في [[معركة مونتي كاسينو]] الضارية، والتي انتهت بتدميره.</ref> بينما كان جميع أبناء العائلة في مهنٍ عسكريةٍ.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=14|لغة=en}}</ref> قررتِ العائلة أن يسلكَ توماس طريق عمه في الرهبانية،<ref name="م12"/> وكان هذا نهجاً وظيفياً تقليدياً للابن الأصغر لأحد نبلاء جنوب إيطاليا.<ref>{{استشهاد مختصر|T.G.|1930|ص=951|لغة=en}}</ref>
وترتبط عائلته بسلالة [[هوهنشتاوفن]] الحاكمة في [[الإمبراطورية الرومانية المقدسة]] عن طريق والدته ثيودورا كونتيسة (قُمُّصَة) تيات.<ref name="schaff-422">{{استشهاد مختصر|Jackson|1953|ج=XI|ص=422|لغة=en}}</ref> ولكن مصدراً آخرَ ذكر أنها تنتمي إلى فرع يدعى «روسّي»<ref group="إنج">Rossi</ref> في عائلة «كاراشيولو» من [[نابولي|ناپولي]].<ref>{{استشهاد مختصر|Torrell|2005|ص=3|لغة=en}}</ref> كان سينيبالد شقيق لاندولف رئيس دير [[الرهبنة البندكتية|الرهبان البنديكتيين]] في مونتي كاسينو أقدمِ ديرٍ بنديكتيٍّ،<ref group="هامش">دير تاريخي يقع على قمة جبل كاسينو الشاهقِ ذي المنحدرات شديدة الوعورة الواقع شمال شرق ناپولي. تأسس في العام 529م. نال شهرةً واسعةً بعدما صار محل هجومٍ عنيفٍ من قبل الحلفاء ضد الألمان (بين 17 يناير و18 مايو من العام 1944) في [[معركة مونتي كاسينو]] الضارية، والتي انتهت بتدميره.</ref> بينما كان جميع أبناء العائلة في مهنٍ عسكريةٍ.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=14|لغة=en}}</ref> قررتِ العائلة أن يسلكَ توماس طريق عمه في الرهبانية،<ref name="م12"/> وكان هذا نهجاً وظيفياً تقليدياً للابن الأصغر لأحد نبلاء جنوب إيطاليا.<ref>{{استشهاد مختصر|T.G.|1930|ص=951|لغة=en}}</ref>


بدأ توما الإكويني [[التعليم في أوروبا في العصور الوسطى|تعليمه المبكر في سن الخامسة]] في دير مونتي كاسينو، غير أنه بعدما اندلع الصراع العسكري بين [[فريدريك الثاني (إمبراطور روماني مقدس)|الإمبراطور فريدريك الثاني]] والبابا [[غريغوري التاسع]]، ووصول هذا الصراع إلى الدير في أوائل العام [[1239]]. قرر لاندولف وثيودورا إرسال ابنهما إلى المدرسة العامة [تسمية الجامعة حينذاك]؛<ref group="لات" name="مولد تلقائيا5">Studium Generale</ref> [[جامعة نابولي|الجامعةُ]] التي كان فريدريك الثاني أنشأها حديثاً (في العام 1224م) في [[نابولي|ناپولي]]،<ref name="م17">{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=1-2|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">لم تكنِ التسمية {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Studium Generale''}}}} (المدرسة العامة) أو الجامعة تعني حيث يجري تدريس جميع العلوم، بل المكان الذي يجتمع فيه الطلبة من كل صوب. (انظر: سعيد عاشور: أوروبا العصور الوسطى، الجزء 2، النظم والحضارة، ص. 138).</ref> فالتحق بكلية الفنون حيث أمضى خمس سنين،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|كرم|2014|ص=141}}</ref> وعلى الأغلب فإن توماس تعرّف ثمّة [لأول مرةٍ] على أعمال [[أرسطو]]، و[[ابن رشد]] [الحفيد]، و[[موسى بن ميمون]] ممّن أثّروا لاحقاً على فلسفته اللاهوتية.<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=2|لغة=en}}</ref> كان معلمه في مواد الأرتيماطيقي والهندسة والفلك والموسيقا بطرس الإيبنيري،<ref>{{استشهاد مختصر|Grabmann|1963|ص=2|لغة=en}}</ref> وخلال سنيِّ دراسته في ناپولي تأثر توماس بالمبشر الدومينيكاني يوحنا دي سانت جوليان الذي كان جزءاً من الجهود الفعالة للرهبانية الدومينيكانية من أجل تجنيد أتباعٍ مخلصين.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=21-22|لغة=en}}</ref>
بدأ توما الإكويني [[التعليم في أوروبا في العصور الوسطى|تعليمه المبكر في سن الخامسة]] في دير مونتي كاسينو، غير أنه بعدما اندلع الصراع العسكري بين [[فريدريك الثاني|الإمبراطور فريدريك الثاني]] والبابا [[غريغوري التاسع]]، ووصول هذا الصراع إلى الدير في أوائل العام [[1239]]. قرر لاندولف وثيودورا إرسال ابنهما إلى المدرسة العامة [تسمية الجامعة حينذاك]؛<ref group="لات" name="مولد تلقائيا5">Studium Generale</ref> [[جامعة نابولي فيدريكو الثاني|الجامعةُ]] التي كان فريدريك الثاني أنشأها حديثاً (في العام 1224م) في [[نابولي|ناپولي]]،<ref name="م17">{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=1-2|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">لم تكنِ التسمية {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Studium Generale''}}}} (المدرسة العامة) أو الجامعة تعني حيث يجري تدريس جميع العلوم، بل المكان الذي يجتمع فيه الطلبة من كل صوب. (انظر: سعيد عاشور: أوروبا العصور الوسطى، الجزء 2، النظم والحضارة، ص. 138).</ref> فالتحق بكلية الفنون حيث أمضى خمس سنين،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|كرم|2014|ص=141}}</ref> وعلى الأغلب فإن توماس تعرّف ثمّة [لأول مرةٍ] على أعمال [[أرسطو]]، و[[ابن رشد]] [الحفيد]، و[[موسى بن ميمون]] ممّن أثّروا لاحقاً على فلسفته اللاهوتية.<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=2|لغة=en}}</ref> كان معلمه في مواد الأرتيماطيقي والهندسة والفلك والموسيقا بطرس الإيبنيري،<ref>{{استشهاد مختصر|Grabmann|1963|ص=2|لغة=en}}</ref> وخلال سنيِّ دراسته في ناپولي تأثر توماس بالمبشر الدومينيكاني يوحنا دي سانت جوليان الذي كان جزءاً من الجهود الفعالة للرهبانية الدومينيكانية من أجل تجنيد أتباعٍ مخلصين.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=21-22|لغة=en}}</ref>


بعد أعوامٍ ستةٍ أمضاها في [[جامعة نابولي|جامعة ناپولي]]،<ref name="م17" group="عر"/> وفي سن التاسعةَ عشرَ قرَّ قرار توماس على الانضمام إلى [[الرهبنة الدومينيكانية|النظام الدومينيكاني]] الذي كان الراهب [[قشتالة (منطقة تاريخية)|القشتالي]] [[دومينيك دو غوزمان|دومينيك دي غوزمان]] أسسه في العام 1215م،<ref group="هامش">القديس دومينيك دي غوزمان: رجلُ دينٍ من مقاطعة قشتالة (كاستيلا) (الإسبانية لاحقاً). مؤسس طائفة الرهبنة الدومينيكانية. درس في مدينة [[بلنسية]] (ڤالانسيا)، أصبح رئيساً لكاتدرائية "أوصنا"، وسافر مع أسقف المدينة إلى روما (حوالي العام 1203م) لاستئذان البابا بالسفر إلى بلاد التتار للتبشير بينهم (كان المغول (القبيلة الذهبية مثلاً) قد وصلوا في غزواتهم إلى شرق أوروبا)، ولكنه أرسلهما إلى جنوب فرنسا لهداية الألبجنسيين، فالتزما التنسك والزهد وأقاما على الوعظ والإرشاد، وفي العام 1216م مُنح دومينيك منزلاً وكنيسةً في [[تولوز]] (عاصمة مقاطعة لاتغدوك مركز ما عُرف بـ"الهرطقة الألبجنسية")، وذلك لإيواء الرهبان الذين جمعهم حوله وكرّسهم للدراسة والوعظ. انتشرت طائفة الرهبان الدومينيكان بسرعةٍ في مدن أوروبا الغربية، وفي أوساط الطلبة والجامعات لاشتغالها بالفلسفة والمنطق والقياس العقلي (وكانت هذه التوجهات بدأت تنتشر في المجتمع الغربي بفعل التأثر بالحضارة الإسلامية) على عكس مذهب القديس برنار (1091-1153) القائم على التصوف واستبطان الذات والتجربة الروخية الذاتية في المقام الأول. وغوزمان صاحب فكرة [[محاكم التفتيش]] التي اقترح تأسيسها في جنوب فرنسا لمكافحة الزندقة الألبجنسية (بدأت بمحكمةٍ قرب [[ناربون|نربونة]] سنة 1210م)، فلما أخفقت كافة الجهود لهداية الألبجنسيين أعلن البابا حملةً صليبيةً علي مقاطعاتهم لتطهيرها دامت عشرين عاماً (09-1229). يُحتفل بعيد القديس دومينيك في 4 أغسطس/آب. (انظر: [[الموسوعة العربية الميسرة]]، مؤسسة دار الشعب (القاهرة) ودار فرنكلين للنشر (نيويورك)، ط1، 1965).</ref> ولكن انضمامَه إلى الرهبانية الدومينيكانية لم يرُقْ لعائلته، وفي محاولةٍ لمنع أمه ثيودورا من التدخل في اختياره رتّب الدومينيكان لانتقاله إلى [[روما]]، ومن ثَمَّ إلى [[باريس|پاريس]]، ولكن أثناء رحلته إلى روما قبض عليه إخوته -بناءً على تعليمات أمهم- بينما كان يرتوي من نبعٍ، وأعادوه إلى والديه في قلعة «مونتي سان جيوفاني كامبانو».<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=23|لغة=en}}</ref>
بعد أعوامٍ ستةٍ أمضاها في جامعة ناپولي،<ref name="م17" group="عر"/> وفي سن التاسعةَ عشرَ قرَّ قرار توماس على الانضمام إلى [[دومينيكانية|النظام الدومينيكاني]] الذي كان الراهب [[قشتالة (منطقة تاريخية)|القشتالي]] [[دومينيك دو غوزمان|دومينيك دي غوزمان]] أسسه في العام 1215م،<ref group="هامش">القديس دومينيك دي غوزمان: رجلُ دينٍ من مقاطعة قشتالة (كاستيلا) (الإسبانية لاحقاً). مؤسس طائفة الرهبنة الدومينيكانية. درس في مدينة [[بلنسية]] (ڤالانسيا)، أصبح رئيساً لكاتدرائية "أوصنا"، وسافر مع أسقف المدينة إلى روما (حوالي العام 1203م) لاستئذان البابا بالسفر إلى بلاد التتار للتبشير بينهم (كان المغول (القبيلة الذهبية مثلاً) قد وصلوا في غزواتهم إلى شرق أوروبا)، ولكنه أرسلهما إلى جنوب فرنسا لهداية الألبجنسيين، فالتزما التنسك والزهد وأقاما على الوعظ والإرشاد، وفي العام 1216م مُنح دومينيك منزلاً وكنيسةً في [[تولوز]] (عاصمة مقاطعة لاتغدوك مركز ما عُرف بـ"الهرطقة الألبجنسية")، وذلك لإيواء الرهبان الذين جمعهم حوله وكرّسهم للدراسة والوعظ. انتشرت طائفة الرهبان الدومينيكان بسرعةٍ في مدن أوروبا الغربية، وفي أوساط الطلبة والجامعات لاشتغالها بالفلسفة والمنطق والقياس العقلي (وكانت هذه التوجهات بدأت تنتشر في المجتمع الغربي بفعل التأثر بالحضارة الإسلامية) على عكس مذهب القديس برنار (1091-1153) القائم على التصوف واستبطان الذات والتجربة الروخية الذاتية في المقام الأول. وغوزمان صاحب فكرة [[محاكم التفتيش]] التي اقترح تأسيسها في جنوب فرنسا لمكافحة الزندقة الألبجنسية (بدأت بمحكمةٍ قرب [[ناربون|نربونة]] سنة 1210م)، فلما أخفقت كافة الجهود لهداية الألبجنسيين أعلن البابا حملةً صليبيةً علي مقاطعاتهم لتطهيرها دامت عشرين عاماً (09-1229). يُحتفل بعيد القديس دومينيك في 4 أغسطس/آب. (انظر: [[الموسوعة العربية الميسرة]]، مؤسسة دار الشعب (القاهرة) ودار فرنكلين للنشر (نيويورك)، ط1، 1965).</ref> ولكن انضمامَه إلى الرهبانية الدومينيكانية لم يرُقْ لعائلته، وفي محاولةٍ لمنع أمه ثيودورا من التدخل في اختياره رتّب الدومينيكان لانتقاله إلى [[روما]]، ومن ثَمَّ إلى [[باريس|پاريس]]، ولكن أثناء رحلته إلى روما قبض عليه إخوته -بناءً على تعليمات أمهم- بينما كان يرتوي من نبعٍ، وأعادوه إلى والديه في قلعة «مونتي سان جيوفاني كامبانو».<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=23|لغة=en}}</ref>


احتُجز توماس لمدة عامٍ تقريباً في القلاع العائلية في مونتي سان جيوفاني وروكاسِكا في محاولةٍ لمنعه من تولي العادة الدومينيكانية ودفعِه إلى التخلي عن طموحه الجديد. وبسبب المخاوف السياسية لم يستطعِ [[بابوية كاثوليكية|البابا]] التدخل لإطلاق سراحه ما أدى إلى إطالة فترة احتجازه.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=24|لغة=en}}</ref> أمضى توماس هذا الوقت في محاولة تعليم أخواته والتواصل مع أعضاء التنظيم الدومينيكاني.<ref name="م17"/>
احتُجز توماس لمدة عامٍ تقريباً في القلاع العائلية في مونتي سان جيوفاني وروكاسِكا في محاولةٍ لمنعه من تولي العادة الدومينيكانية ودفعِه إلى التخلي عن طموحه الجديد. وبسبب المخاوف السياسية لم يستطعِ [[بابوية كاثوليكية|البابا]] التدخل لإطلاق سراحه ما أدى إلى إطالة فترة احتجازه.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=24|لغة=en}}</ref> أمضى توماس هذا الوقت في محاولة تعليم أخواته والتواصل مع أعضاء التنظيم الدومينيكاني.<ref name="م17"/>
سطر 166: سطر 161:
}}</ref>
}}</ref>


أضحتِ العائلة يائسةً من عدول توماس -الذي بقي على تصميمه- عنِ الانضمام إلى الدومينيكان، ومع حلول أواخر العام [[1244]]م، وبعدما فشلت جميع محاولاتها سعت أمه ثيودورا -حفظاً لماء الوجه- إلى ترتيب هروبه ليلاً من نافذته. كان الهروب السري من الاحتجاز في رأيها أقلَّ ضرراً من الاستسلام العلني للدومينيكان وصوناً لسمعة الأسرة.<ref group="هامش">من غير المعروف بدقةٍ السببُ وراء رفض العائلة لانتسابه للأخوية الدومينيكانية مع أن دخوله سلك الرهبانية -بحسب المصادر لأنه الابنُ الأصغر- كان عُرفاً دارجاً وموضع ترحيبٍ عائليٍّ، علاوةً على أن عمه كان رئيساً لديرٍ شهيرٍ، لكن الأرجح أن جوهر الأمر سياسيٌّ بحت. كانتِ الرهبانية الدومينيكانية من الحزب البابوي (الجولفيين)، في حين كانت للعائلة وجهتها ناحية حزب الإمبراطور (الجبلينيين)، ولقد يفسر هذا -جزئياً على الأقل- عدم تدخل المؤسسة البابوية لإطلاق سراحه، وتدبير أمه -فيما بعدُ- لهروبه لئلا يبدوَ الأمر كما لو أنه بموافقةٍ من العائلة ورضاها.</ref> أًرسل توماس أولاً إلى [[نابولي|ناپولي]]، ثم إلى [[روما]] لمقابلة «يوهانس فون ڤيلدِزهاوزن» السيد العام للتنظيم الدومينيكاني.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=27-28|لغة=en}}</ref>
أضحتِ العائلة يائسةً من عدول توماس -الذي بقي على تصميمه- عنِ الانضمام إلى الدومينيكان، ومع حلول أواخر العام [[1244]]م، وبعدما فشلت جميع محاولاتها سعت أمه ثيودورا -حفظاً لماء الوجه- إلى ترتيب هروبه ليلاً من نافذته. كان الهروب السري من الاحتجاز في رأيها أقلَّ ضرراً من الاستسلام العلني للدومينيكان وصوناً لسمعة الأسرة.<ref group="هامش">من غير المعروف بدقةٍ السببُ وراء رفض العائلة لانتسابه للأخوية الدومينيكانية مع أن دخوله سلك الرهبانية -بحسب المصادر لأنه الابنُ الأصغر- كان عُرفاً دارجاً وموضع ترحيبٍ عائليٍّ، علاوةً على أن عمه كان رئيساً لديرٍ شهيرٍ، لكن الأرجح أن جوهر الأمر سياسيٌّ بحت. كانتِ الرهبانية الدومينيكانية من الحزب البابوي (الجولفيين)، في حين كانت للعائلة وجهتها ناحية حزب الإمبراطور (الجبلينيين)، ولقد يفسر هذا -جزئياً على الأقل- عدم تدخل المؤسسة البابوية لإطلاق سراحه، وتدبير أمه -فيما بعدُ- لهروبه لئلا يبدوَ الأمر كما لو أنه بموافقةٍ من العائلة ورضاها.</ref> أُرسل توماس أولاً إلى [[نابولي|ناپولي]]، ثم إلى [[روما]] لمقابلة «يوهانس فون ڤيلدِزهاوزن» السيد العام للتنظيم الدومينيكاني.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=27-28|لغة=en}}</ref>


=== باريس وقلونيا وألبرت الكبير وأول إشراف في باريس (1245-1259) ===
=== باريس وقلونية وألبرت الكبير وأول إشراف في باريس (1245-1259) ===
{{أيضا|التعليم في أوروبا في العصور الوسطى|جامعات القرون الوسطى}}
{{أيضا|التعليم في أوروبا في العصور الوسطى|جامعات القرون الوسطى}}


[[ملف:Saint Thomas Aquinas Diego Velázquez.jpg|تصغير|يسار|'''تمنطق توما الأكويني بحزامٍ صوفيٍّ من النقاء''' بواسطة الملائكة بعد [[العفة|عفته]]. <br/>لوحة بريشة دييجو ڤِلاسكويز.]]
[[ملف:Saint Thomas Aquinas Diego Velázquez.jpg|تصغير|يسار|'''تمنطق توما الأكويني بحزامٍ صوفيٍّ من النقاء''' بواسطة الملائكة بعد [[العفة|عفته]]. <br/>لوحة بريشة دييجو ڤِلاسكويز.]]


أرسل توماس أكويناس في العام 1245م للدراسة في كلية الآداب في [[جامعة باريس]] -التي تأسست في العام 1220، والتابعة لأسقفية باريس- حيث التقى هنالك لأول مرةٍ -في الأعم الأغلب- بالعالم الدومينيكاني «[[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت ماجنوس]]»<ref group="هامش">القديس [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت ماجنوس]] أو ألبرت الكبير (1200-1280م)، دكتور (مَلفان) الكنيسة الكاثوليكية، الراهب الدومينيكاني الألماني، أول من فصل بين الفلسفة واللاهوت،</ref> وارتبط به،<ref name="م24"/> ثم تولى الأكويني منصب رئيس قسم اللاهوت في كلية سانت جيمس في باريس،<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=33|لغة=en}}</ref> وعندما أرسل المشرفون ألبرت الكبير للتدريس في الجامعة العامة (التعليم العام) المفتتحة حديثاً في [[كولونيا|قُلونيا]] في العام 1248م،<ref name="م24">{{استشهاد مختصر|Healy|2003|ص=2|لغة=en}}</ref> تبعه توماس رافضاً عرض البابا [[إنوسنت الرابع]] (حبريته 43-1254) بتعيينه بصفته الدومينيكانية رئيساً لدير مونتي كاسينو العريق.<ref name="م12">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=3|لغة=en}}</ref> عين ألبرت الكبير طالبَه "المعارضَ" توماس أستاذاً وطالبَ ماجيستر،<ref name="schaff-422" /> وبعد فشله في مناظرته الأولى -نظراً لأنه كان هادئاً، ولا يتحدث كثيراً- اعتقد بعض زملائه من الطلبة أنه بطيء، ووصفوه بالثور الصامت، لكن ألبرت صاح بهم متنبئاً: {{اقتباس مضمن|إنكم تدعونه الثور الغبي، لكنه في تعليمه سوف يُصدر يوماً ما خُواراً يُسمَع عبر أرجاء العالم أجمع}}.<ref name="م12"/>
أرسل توماس أكويناس في العام 1245م للدراسة في كلية الآداب في [[جامعة باريس]] -التي تأسست في العام 1220، والتابعة لأسقفية باريس- حيث التقى هنالك لأول مرةٍ -في الأعم الأغلب- بالعالم الدومينيكاني «[[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت ماجنوس]]»<ref group="هامش">القديس [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرتوس ماجنوس]] أو ألبرت الكبير (1200-1280م)، دكتور (مَلفان) الكنيسة الكاثوليكية، الراهب الدومينيكاني الألماني، أول من فصل بين الفلسفة واللاهوت،</ref> وارتبط به،<ref name="م24"/> ثم تولى الأكويني منصب رئيس قسم اللاهوت في كلية سانت جيمس في باريس،<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=33|لغة=en}}</ref> وعندما أرسل المشرفون ألبرت الكبير للتدريس في الجامعة العامة (التعليم العام) المفتتحة حديثاً في [[كولونيا|قُلونية]] في العام 1248م،<ref name="م24">{{استشهاد مختصر|Healy|2003|ص=2|لغة=en}}</ref> تبعه توماس رافضاً عرض البابا [[إنوسنت الرابع]] (حبريته 43-1254) بتعيينه بصفته الدومينيكانية رئيساً لدير مونتي كاسينو العريق.<ref name="م12">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=3|لغة=en}}</ref> عين ألبرت الكبير طالبَه "المعارضَ" توماس أستاذاً وطالبَ ماجيستر،<ref name="schaff-422" /> وبعد فشله في مناظرته الأولى -نظراً لأنه كان هادئاً، ولا يتحدث كثيراً- اعتقد بعض زملائه من الطلبة أنه بطيء، ووصفوه بالثور الصامت، لكن ألبرت صاح بهم متنبئاً: {{اقتباس مضمن|إنكم تدعونه الثور الغبي، لكنه في تعليمه سوف يُصدر يوماً ما خُواراً يُسمَع عبر أرجاء العالم أجمع}}.<ref name="م12"/>
<ref name="مولد تلقائيا6">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=XVI|لغة=en}}</ref>
<ref name="مولد تلقائيا6">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=XVI|لغة=en}}</ref>
كُلّف توماس أكويناس في [[كولونيا|قُلونيا]] بالتدريس كأستاذٍ متدربٍ {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''baccalaureus biblicus''}}}} حيث قام بإرشاد الطلبة حول كتب [[العهد القديم]]، وألّف «تعليق حرفي على إشعيا» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Expositio super Isaiam ad litteram''}}}}، و«تعليق على إرميا» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Postilla super Ieremiam''}}}}، و«تعليق على المراثي» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Postilla super Threnos''}}}}.<ref name="مولد تلقائيا6" /> عندما عاد إلى پاريس في العام 1252م للتحضير لدرجة الماجستير في اللاهوت حاضر عن [[الكتاب المقدس]] كأستاذٍ متدربٍ، وبعدما أضحى موضوع رسالته «بكالوريوس عن الجمل»<ref group="لات">De baccalaureus Sententiarum</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Davies|1993|ص=5|لغة=en}}</ref> كرس ثلاث السنوات الأخيرة من دراسته للتعليق على كتاب «الجمل» لبيتر لومبارد. في أول تآليفه اللاهوتية الأربعة ألف توماس تعليقاً ضخماً على «الجمل» عنونه «تعليق على الجمل» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Scriptum super libros Sententiarium''}}}}، وبعيداً عن كتاباته للماجستير ألّف «في الوجود والجوهر»<ref group="لات">De ente et essentia</ref> لزملائه الدومينيكان في باريس.<ref name="م12"/>
كُلّف توماس أكويناس في [[كولونيا|قُلونية]] بالتدريس كأستاذٍ متدربٍ {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''baccalaureus biblicus''}}}} حيث قام بإرشاد الطلبة حول كتب [[العهد القديم]]، وألّف «تعليق حرفي على إشعيا» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Expositio super Isaiam ad litteram''}}}}، و«تعليق على إرميا» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Postilla super Ieremiam''}}}}، و«تعليق على المراثي» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Postilla super Threnos''}}}}.<ref name="مولد تلقائيا6" /> عندما عاد إلى پاريس في العام 1252م للتحضير لدرجة الماجستير في اللاهوت حاضر عن [[الكتاب المقدس]] كأستاذٍ متدربٍ، وبعدما أضحى موضوع رسالته «بكالوريوس عن الجمل»<ref group="لات">De baccalaureus Sententiarum</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Davies|1993|ص=5|لغة=en}}</ref> كرس ثلاث السنوات الأخيرة من دراسته للتعليق على كتاب «الجمل» لبيتر لومبارد. في أول تآليفه اللاهوتية الأربعة ألف توماس تعليقاً ضخماً على «الجمل» عنونه «تعليق على الجمل» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Scriptum super libros Sententiarium''}}}}، وبعيداً عن كتاباته للماجستير ألّف «في الوجود والجوهر»<ref group="لات">De ente et essentia</ref> لزملائه الدومينيكان في باريس.<ref name="م12"/>


عُيّن الأكويني في ربيع العام 1256م أستاذاً مشرفاً في علم اللاهوت في باريس،<ref group="هامش">أستاذ مشرف أو أستاذ قيّم هو المعنى الحرفي للمقابل الإنجليزي {{إنج|{{اقتباس مضمن|''regent Master''}}}}. في ذلك الوقت في أوروبا الغربية -حيث التعليم عموماً والتعليم الجامعي خصوصاً في أوائله- لم تكُ الدرجات العلمية والألقاب الأكاديمية واضحةً ومحددةً كما اليوم. فالإكويني مثلاً كان حائزاً على الماستر (الماجستير) وكتب أطروحةً استغرقت ثلاث سنواتٍ عنِ كتاب "الجمل" لبويثيوس، وسميت بكالوريوس {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''baccalaureus Sententiarum''}}}}، والتسميات "استوديوم جنرال" (في المدن الكبرى)، و"استوديوم كونفنتوال" (في العواصم الإقليمية) لم تك أكثر من مدارسَ (دخل الأكويني جامعة نابولي في سن الثالثة عشر)، ولكن ندرتها وندرة التعليم في ذلك الوقت أكسبها وأكسب خريجيها شهرةً عريضةً.</ref> وكان من أوائل أعماله إبّان توليه هذا المنصب «ضد أولئك الذين يهاجمون عبادة الله والدين» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Contra impugnantes Dei cultum et religionem''}}}} مدافعاً عن حقوق أخويات الرهبان المتسولين {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Mendicant Orders''}}}} <ref group="هامش">تألف الرهبان المتسولون من طائفتي الرهبان الفرنسيسكان الذين مالوا إلى التصوف، والدومينيكان الذين اتخذوا طريق الجدل العقلي والبحث الفكري.</ref> في تدريس اللاهوت، والذين كانوا عرضةً للهجوم من قبل «ويليام دي سانت أمور» الذي تمكن من تقييد السماح لأخويات الرهبان هذه بالتدريس إبّان غيبة [[لويس التاسع]] [في الحملة الصليبية السابعة على مصر] قبلما يُعيد إليهم البابا [[ألكسندر الرابع]] (حبريته 54-1261م) صلاحياتهم في ذلك. هاجم ويليام دي سانت آمور كذلك الجماعات الدينية والطوائف الرهبانية التي تدير مؤسساتٍ تعليميةً، فكان أن تصدى له الإكويني أيضاً.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|2003|ص=5|لغة=en}}</ref>
عُيّن الأكويني في ربيع العام 1256م أستاذاً مشرفاً في علم اللاهوت في باريس،<ref group="هامش">أستاذ مشرف أو أستاذ قيّم هو المعنى الحرفي للمقابل الإنجليزي {{إنج|{{اقتباس مضمن|''regent Master''}}}}. في ذلك الوقت في أوروبا الغربية -حيث التعليم عموماً والتعليم الجامعي خصوصاً في يواكيره- لم تكُ الدرجات العلمية والألقاب الأكاديمية واضحةً ومحددةً كما اليوم. فالإكويني مثلاً كان حائزاً على الماستر (الماجستير) وكتب أطروحةً استغرقت ثلاث سنواتٍ عنِ كتاب "الجمل" لبويثيوس، وسميت بكالوريوس {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''baccalaureus Sententiarum''}}}}، والتسميات "استوديوم جنرال" (في المدن الكبرى)، و"استوديوم كونفنتوال" (في العواصم الإقليمية) لم تك أكثر من مدارسَ (دخل الأكويني جامعة نابولي في سن الثالثة عشر)، ولكن ندرتها وندرة التعليم في ذلك الوقت أكسبها وأكسب خريجيها شهرةً عريضةً.</ref> وكان من أوائل أعماله إبّان توليه هذا المنصب «ضد أولئك الذين يهاجمون عبادة الله والدين» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Contra impugnantes Dei cultum et religionem''}}}} مدافعاً عن حقوق أخويات الرهبان المتسولين {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Mendicant Orders''}}}} <ref group="هامش">تألف الرهبان المتسولون بالدرجة الأولى من طائفتي الرهبان الفرنسيسكان الذين مالوا إلى التصوف، والدومينيكان الذين اتخذوا طريق الجدل العقلي والبحث الفكري.</ref> في تدريس اللاهوت، والذين كانوا عرضةً للهجوم من قبل «ويليام دي سانت أمور» الذي تمكن من تقييد السماح لأخويات الرهبان هذه بالتدريس إبّان غيبة [[لويس التاسع]] (في الحملة الصليبية السابعة على مصر) قبلما يُعيد إليهم البابا [[ألكسندر الرابع]] (حبريته 54-1261م) صلاحياتهم في ذلك. هاجم ويليام دي سانت أمور كذلك الجماعات الدينية والطوائف الرهبانية التي تدير مؤسساتٍ تعليميةً، فكان أن تصدى له الإكويني أيضاً.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|2003|ص=5|لغة=en}}</ref>
<ref group="هامش">كانت جامعة باريس (جامعة السوربون لاحقاً) -مثل بواكير الجامعات الأوروبية وقتذاك- تابعةً لأسقفية باريس بوصفها تطورت من مدرسةٍ دينيةٍ أسقفيةٍ، وأدى هذا إلى صراعٍ مع السلطات الأسقفية -التي كانت تتدخل في الشؤون الجامعية والطلابية على السواء- قبل أن تنال استقلالها بدعمٍ من البابا والملك الفرنسي. ومن ثمة كان أسقف باريس رئيساً للجامعة، وكان حق إصدار تراخيص تأسيس المدارس وتعيين المدرسين بيد أمين الأسقفية. (انظر: عاشور، د. سعيد عبد الفتاح: الجامعات الأوروبية في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، القاهرة، 2007، تدمك: 977-10-2121-4، ص.ص 19-21). وعلى ما يبدو فإن ويليام دي سانت آمور هذا كان أمين الأسقفية. وسيرد لاحقاً أن أسقف باريس أدان في قرارين مشهورين (عامي 1270، و1277م) بعض القضايا الفلسفية الأرسطية، وأوجب على الجامعة الامتناع عن تدريسها، وقد ألحق هذا ضرراً بسمعة توما الأكويني.</ref>
<ref group="هامش">كانت جامعة باريس (السوربون لاحقاً) -مثل بواكير الجامعات الأوروبية وقتذاك- تابعةً لأسقفية باريس بوصفها تطورت من مدرسةٍ دينيةٍ أسقفيةٍ، وأدى هذا إلى صراعٍ مع السلطات الأسقفية -التي كانت تتدخل في الشؤون الجامعية والطلابية على السواء- قبلما تنال استقلالها بدعمٍ من البابا والملك الفرنسي. ومن ثمة كان أسقف باريس رئيساً للجامعة، وكان حق إصدار تراخيص تأسيس المدارس وتعيين المدرسين بيد أمين الأسقفية. (انظر: عاشور، د. سعيد عبد الفتاح: الجامعات الأوروبية في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، القاهرة، 2007، تدمك: 977-10-2121-4، ص.ص 19-21). وعلى ما يبدو فإن ويليام دي سانت آمور هذا كان أمين الأسقفية. وسيرد لاحقاً أن أسقف باريس أدان في قرارين مشهورين (عامي 1270، و1277م) بعض القضايا الفلسفية الأرسطية، وأوجب على الجامعة الامتناع عن تدريسها، ما ألحق ضرراً بسمعة توما الأكويني بصفته أرسطياً شهيراً.</ref>


وخلال فترة عمله تلك ما بين 1256 و1259 كتب الأكويني عدة أعمالٍ، بما فيها «أسئلة خلافية عنِ الحقيقة»<ref group="لات">Questiones disputatae de veritate</ref>، وهي مجموعة من تسعةٍ وعشرين سؤالاً تُعد محلَّ خلافٍ حول جوانب الإيمان والحالة الإنسانية<ref name="م14">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=4|لغة=en}}</ref> أعدت لمناقشات الجامعة العامة التي ترأسها حول الصوم الكبير والقدوم،<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=3-4|لغة=en}}</ref> وكذلك كتاب «أسئلة متنوعة»<ref group="لات">Quaestiones quodlibetales</ref>، وهي مجموعة من إجاباته على أسئلةٍ طرحها عليه الجمهور الأكاديمي.<ref name="م14"/>
وخلال فترة عمله تلك ما بين 1256 و1259 كتب الأكويني عدة أعمالٍ، بما فيها «أسئلة خلافية عنِ الحقيقة»<ref group="لات">Questiones disputatae de veritate</ref>، وهي مجموعة من تسعةٍ وعشرين سؤالاً تُعد محلَّ خلافٍ حول جوانب الإيمان والحالة الإنسانية<ref name="م14">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=4|لغة=en}}</ref> أعدت لمناقشات الجامعة العامة التي ترأسها حول الصوم الكبير والقدوم،<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=3-4|لغة=en}}</ref> وكذلك كتاب «أسئلة متنوعة»<ref group="لات">Quaestiones quodlibetales</ref>، وهي مجموعة من إجاباته على أسئلةٍ طرحها عليه الجمهور الأكاديمي.<ref name="م14"/>


فضلاً عن كتابين حول عملين لفيلسوف القرن السادس الميلادي «أنيسيوس مانيلوس سيفيرينوس بويثيوس»، وهما «شرح لسفر بويثيوس عن الثالوث»<ref group="لات">Expositio super librum Boethii De trinitate</ref> وهو تعليق على كتاب بويثيوس «عن الثالوث»<ref group="لات">De trinitate</ref>، والآخر «شرح عن كتاب الأسابيع لبويثيوس»<ref group="لات">Expositio super librum Boethii De hebdomadibus'</ref> وهو تعليق على كتاب «عن الأسابيع» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''De hebdomadibus''}}}} لبويثيوس أيضاً،<ref name="م15">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=XVII|لغة=en}}</ref> وقد كان لمؤلفات بويثيوس الفضل في تعريف المجتمع الغربي -ولو جزئياً- بأفكار أرسطو في المنطق.<ref name="م3" group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=96}}</ref> وفي نهاية عهده انكبَّ يعمل على أحد أشهر أعماله «خلاصة ضد الكفار» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Summa contra Gentiles''}}}}.<ref name="م18">{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=4|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">يُدعى هذا الكتاب أيضاً -في بعض المصادر- "الخلاصة ضد الوثنيين" أو "الخلاصة ضد الأمم". إن كلمة {{اقتباس مضمن|''Gentiles''}} تعني الوثنيين في شروح العهد القديم -باعتبار غير اليهود هم عبدة أوثان- مثلما تعني الغرباء أو الأجانب، وقد استخدمها الإكويني لوصف المسلمين -الذين كان الكتاب موجهاً لتفنيد عقائدهم بالدرجة الأولى- اقتياساً من العهد القديم.</ref>
فضلاً عن كتابين حول عملين لفيلسوف القرن السادس الميلادي «أنيسيوس مانيلوس سيفيرينوس بويثيوس»، وهما «شرح لسفر بويثيوس عن الثالوث»<ref group="لات">Expositio super librum Boethii De trinitate</ref> والذي هو تعليق على كتاب بويثيوس «عن الثالوث»<ref group="لات">De trinitate</ref>، والآخر «شرح عن كتاب الأسابيع لبويثيوس»<ref group="لات">Expositio super librum Boethii De hebdomadibus'</ref> وهو تعليق على كتاب «عن الأسابيع» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''De hebdomadibus''}}}} لبويثيوس أيضاً،<ref name="م15">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=XVII|لغة=en}}</ref> وقد كان لمؤلفات بويثيوس الفضل في تعريف المجتمع الغربي -ولو جزئياً- بأفكار أرسطو في المنطق.<ref name="م3" group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=96}}</ref> وفي نهاية عهده انكبَّ يعمل على أحد أشهر أعماله «خلاصة ضد الكفار» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''Summa contra Gentiles''}}}}.<ref name="م18">{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=4|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">يُدعى هذا الكتاب أيضاً -في بعض المصادر- "الخلاصة ضد الوثنيين" أو "الخلاصة ضد الأمم". إن كلمة {{اقتباس مضمن|''Gentiles''}} تعني الوثنيين في شروح العهد القديم -باعتبار غير اليهود هم عبدة أوثان- مثلما تعني الغرباء أو الأجانب، وقد استخدمها الإكويني اقتباساً من العهد القديم لوصف المسلمين الذين كان الكتاب موجهاً لتفنيد عقائدهم.</ref>


[[ملف:Tommaso - Super libros de generatione et corruptione - 4733257 00007.tif|تصغير|'''الصفحة الأولى من إحدى مخطوطات توما الإكويني وتبدو صورته في الأعلى'''.]]
[[ملف:Tommaso - Super libros de generatione et corruptione - 4733257 00007.tif|تصغير|'''الصفحة الأولى من إحدى مخطوطات توما الإكويني وتبدو صورته في الأعلى'''.]]
سطر 192: سطر 187:
[[ملف:Orvieto-Street2.jpg|تصغير|معدول|يمين|مدينة [[أورفييتو|أورڤييتو]] التي كانت ضمن مناطق الحكم البابوي. (من الطبيعي أن أزقتها في [[القرن الثالث عشر]] كانت أكثر اتساخاً وغير مبلطةٍ).]]
[[ملف:Orvieto-Street2.jpg|تصغير|معدول|يمين|مدينة [[أورفييتو|أورڤييتو]] التي كانت ضمن مناطق الحكم البابوي. (من الطبيعي أن أزقتها في [[القرن الثالث عشر]] كانت أكثر اتساخاً وغير مبلطةٍ).]]


استدعى البابا [[كليمنت الرابع]] (حبريته 65–1268) المنتخبُ حديثاً -في فبراير/شباط من العام 1265- توماس إلى روما للعمل <nowiki/>[[علم اللاهوت المسيحي|عالماً باللاهوتٍ]]، وفي العام نفسه كلّفه الفرع الدومينيكاني في أجناني<ref group="وب-لات">{{استشهاد ويب  
استدعى البابا [[كليمنت الرابع]] (حبريته 65–1268) المنتخبُ حديثاً -في فبراير/شباط من العام 1265- توماس إلى روما للعمل [[علم اللاهوت المسيحي|عالماً باللاهوتٍ]]، وفي العام نفسه كلّفه الفرع الدومينيكاني في أجناني<ref group="وب-لات">{{استشهاد ويب  
| مسار= http://www.corpusthomisticum.org/a65.html  
| مسار= http://www.corpusthomisticum.org/a65.html  
|مؤلف1= Th. Kaeppeli  
|مؤلف1= Th. Kaeppeli  
سطر 202: سطر 197:
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210515030728/http://www.corpusthomisticum.org/a65.html | تاريخ أرشيف= 15-05-2021
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210515030728/http://www.corpusthomisticum.org/a65.html | تاريخ أرشيف= 15-05-2021
|تاريخ الوصول = 18-10-2023
|تاريخ الوصول = 18-10-2023
}}</ref> بالتدريس في «المدرسة الديرية» <ref group="لات">Studium Conventuale</ref> في الدير الروماني في «سانتا سابينا» الذي تأسس قبل بضعة عقودٍ في العام 1222. غدتِ «المدرسة الديرية» الآن في سانتا سابينا تجربةً للدومينيكان، فهي أول مدرسةٍ إقليميةٍ تابعةٍ لتلك الرهبانية، وهي مدرسة متوسطة ما بين التعليم الديري والتعليم العام أو «المدرسة العامة» (استوديوم جنرال). قبل ذاك لم تكنِ المقاطعة الرومانية توفر أي تعليمٍ متخصّصٍ من أي نوعٍ؛ لا فنونَ ولا فلسفة. فقط مدارس الأديرة البدائية للرهبان المقيمين مع مناهجها [الدراسية] الأساسية في اللاهوت هي التي كانت تقام في [[توسكانا]] و[[ميريديونالي]] خلال بضعة العقود الأولى من حياة الرهبانية [الدومينيكانية]. كان مقرراً أن تكون المدرسة الإقليمية الجديدة في سانتا سابينا مدرسةً أكثر تقدماً في المقاطعة.<ref>{{استشهاد مختصر|Mulchahey|1998|ص=279|لغة=en}}</ref> يخبرنا «تولوميو دا لوكا» -زميل توما الإكويني في وقتٍ مبكرٍ، وكاتب سيرته- إنه في مدرسة سانتا سابينا قام توماس بتدريس مجموعةٍ كاملةٍ من الموضوعات الفلسفية؛ كليهما الأخلاقية والطبيعية.<ref>{{استشهاد مختصر|Gregorovius|1897|ج=5, Part II|ص=617|لغة=en}}</ref>
}}</ref> بالتدريس في «المدرسة الديرية» <ref group="لات">Studium Conventuale</ref> في الدير الروماني في «سانتا سابينا» الذي تأسس قبل بضعة عقودٍ في العام 1222. غدتِ «المدرسة الديرية» الآن في سانتا سابينا تجربةً للدومينيكان، فهي أول مدرسةٍ إقليميةٍ تابعةٍ لتلك الرهبانية، وهي مدرسة متوسطة ما بين التعليم الديري والتعليم العام أو «المدرسة العامة» (استوديوم جنرال). قبل ذاك لم تكنِ المقاطعة الرومانية توفر أي تعليمٍ متخصّصٍ من أي نوعٍ؛ لا فنونَ ولا فلسفة. فقط مدارس الأديرة البدائية للرهبان المقيمين مع مناهجها [الدراسية] الأساسية في اللاهوت هي التي كانت تقام في [[تسكانة|توسكانا]] و[[ميريديونالي]] خلال بضعة العقود الأولى من حياة الرهبانية [الدومينيكانية]. كان مقرراً أن تكون المدرسة الإقليمية الجديدة في سانتا سابينا مدرسةً أكثر تقدماً في المقاطعة.<ref>{{استشهاد مختصر|Mulchahey|1998|ص=279|لغة=en}}</ref> يخبرنا «تولوميو دا لوكا» -زميل توما الإكويني في وقتٍ مبكرٍ، وكاتب سيرته- إنه في مدرسة سانتا سابينا قام توماس بتدريس مجموعةٍ كاملةٍ من الموضوعات الفلسفية؛ كليهما الأخلاقية والطبيعية.<ref>{{استشهاد مختصر|Gregorovius|1897|ج=5, Part II|ص=617|لغة=en}}</ref>


بدأ الإكويني في أثناء وجوده في المدرسة الإقليمية في سانتا سابينا عمله الأكثرَ شهرةً «[[الخلاصة اللاهوتية]]»<ref group="لات">Summa theologiae</ref>،<ref name="م20"/> والتي تَصورها ملائمةً بشكلٍ خاصٍّ للطلبة المبتدئين {{اقتباس مضمن|لأن عالِمَ الحقيقة الكاثوليكية يجب ألا يعلم الشخص المتمرس وحسب، بل عليه أيضاً تعليم المبتدئين. كما يقول الرسول في 1 كورنثوس 3: 1-2، بالنسبة للأطفال الرضع لدى المسيح، أعطيتك الحليب لتشرب وليس اللحوم، نيتنا المقترحة في هذا العمل هي نقل تلك الأمور التي تتعلق بالديانة النصرانية بطريقةٍ تلائم تعليم المبتدئين}}.<ref name="م15"/><ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=I|نص=Prologue|لغة=en}}</ref> في أثناء وجوده ثمّة كتب أيضاً مجموعةً متنوعةً من الأعمال الأخرى مثل خلاصته غير المكتملة «اللاهوت»<ref group="لات">Theologiae</ref>، و«رد على الأخ جون من فرشيلي بخصوص مئةٍ وثمانية مقالاتٍ مستمدةٍ من أعمال بيتر تارنتياز».<ref name="م15" /><ref group="هامش">{{لاتينية|''Responsio ad fr. Ioannem Vercellensem de articulis 108 sumptis ex opere Petri de Tarentasia''}}</ref>
بدأ الإكويني في أثناء وجوده في المدرسة الإقليمية في سانتا سابينا عمله الأكثرَ شهرةً «[[الخلاصة اللاهوتية]]»<ref group="لات">Summa theologiae</ref>،<ref name="م20"/> والتي تَصورها ملائمةً بشكلٍ خاصٍّ للطلبة المبتدئين {{اقتباس مضمن|لأن عالِمَ الحقيقة الكاثوليكية يجب ألا يعلم الشخص المتمرس وحسب، بل عليه أيضاً تعليم المبتدئين. كما يقول الرسول في 1 كورنثوس 3: 1-2، بالنسبة للأطفال الرضع لدى المسيح، أعطيتك الحليب لتشرب وليس اللحوم، نيتنا المقترحة في هذا العمل هي نقل تلك الأمور التي تتعلق بالديانة النصرانية بطريقةٍ تلائم تعليم المبتدئين}}.<ref name="م15"/><ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=I|نص=Prologue|لغة=en}}</ref> في أثناء وجوده ثمّة كتب أيضاً مجموعةً متنوعةً من الأعمال الأخرى مثل خلاصته غير المكتملة «اللاهوت»<ref group="لات">Theologiae</ref>، و«رد على الأخ جون من فرشيلي بخصوص مئةٍ وثمانية مقالاتٍ مستمدةٍ من أعمال بيتر تارنتياز».<ref name="م15" /><ref group="هامش">{{لاتينية|''Responsio ad fr. Ioannem Vercellensem de articulis 108 sumptis ex opere Petri de Tarentasia''}}</ref>
سطر 223: سطر 218:
}}</ref>
}}</ref>


بقي توما في المدرسة المحلية في سانتا سابينا من العام 1265 إلى أنِ استُدعيَ مرةً أخرى إلى باريس في العام 1268 لولايةٍ ثانيةٍ للتدريس.<ref name="م19"/> بعد رحيله إلى باريس في العام 1268 ومع الوقت قُسّمت الأنشطة التربوية للمدرسة في سانتا سابينا إلى حرمين جامعيين. كان الدير الجديد للرهبانية في كنيسة سانتا ماريا سوبرا مينِرڤا بدايةً متواضعةً في العام 1255 كمجتمعٍ للنساء المتحولات [إلى الرهبانية]، لكنه نما بسرعة في الحجم والأهمية بعد تسليمه للرهبان الدومينيكان في العام 1275. نُقل في العام 1288 المكون اللاهوتي لمنهج المقاطعة لتعليم الرهبان من المدرسة الإقليمية في سانتا سابينا إلى «المدرسة الديرية» في «سانتا ماريا سوبرا مينِرڤا»، والتي أعيد تنظيمها كمدرسةٍ لاهوتيةٍ خاصةٍ.<ref name="م26">{{استشهاد مختصر|Mulchahey|1998|ص=5|لغة=en}}</ref> حُوّلَت هذه المدرسة في [[القرن السادس عشر]] إلى كلية سانت توماس<ref group="لات">Collegium Divi Thomæ</ref>، وفي [[القرن العشرين]] نُقلَتِ الكلية إلى دير القديسيْن دومينيك وسيكستوس، وحُوّلت إلى «الجامعة البابوية للقديس توما الأكويني» أوِ المعروفة باسم «أنجِليكوم».<ref group="لات">Angelicum</ref><ref name="م26" />
بقي توما في المدرسة المحلية في سانتا سابينا من العام 1265 إلى أنِ استُدعيَ مرةً أخرى إلى باريس في العام 1268 لولايةٍ ثانيةٍ للتدريس.<ref name="م19"/> بعد رحيله إلى باريس في العام 1268 ومع الوقت قُسّمت الأنشطة التربوية للمدرسة في سانتا سابينا إلى حرمين جامعيين. كان الدير الجديد للرهبانية في كنيسة سانتا ماريا سوبرا مينِرڤا بدايةً متواضعةً في العام 1255 كمجتمعٍ للنساء المتحولات [إلى الرهبانية]، لكنه نما بسرعة في الحجم والأهمية بعد تسليمه للرهبان الدومينيكان في العام 1275. نُقل في العام 1288 المكون اللاهوتي لمنهج المقاطعة لتعليم الرهبان من المدرسة الإقليمية في سانتا سابينا إلى «المدرسة الديرية» في «سانتا ماريا سوبرا مينِرڤا»، والتي أعيد تنظيمها كمدرسةٍ لاهوتيةٍ خاصةٍ.<ref name="م26">{{استشهاد مختصر|Mulchahey|1998|ص=5|لغة=en}}</ref> حُوّلَت هذه المدرسة في [[القرن 16|القرن السادس عشر]] إلى كلية سانت توماس<ref group="لات">Collegium Divi Thomæ</ref>، وفي [[القرن 20|القرن العشرين]] نُقلَتِ الكلية إلى دير القديسيْن دومينيك وسيكستوس، وحُوّلت إلى «الجامعة البابوية للقديس توما الأكويني» أوِ المعروفة باسم «أنجِليكوم».<ref group="لات">Angelicum</ref><ref name="م26" />


=== الإشراف الثاني المشاكس في باريس (1269–1272) ===
=== الإشراف الثاني المشاكس في باريس (1269–1272) ===
سطر 230: سطر 225:
[[ملف:AverroesColor.jpg|تصغير|يسار|225 بك|'''لوحة تخيلية [[ابن رشد|لابن رشد الحفيد]] (26-1198)'''.]]
[[ملف:AverroesColor.jpg|تصغير|يسار|225 بك|'''لوحة تخيلية [[ابن رشد|لابن رشد الحفيد]] (26-1198)'''.]]


كلّف التنظيم الدومينيكاني في العام 1268م توماس أكويناس بمنصب المشرف في [[جامعة باريس|جامعة پاريس]] للمرة الثانية؛ المنصب الذي سيشغله حتى ربيع العام 1272م. وفيما يبدو فإن أحد أسباب إعادة التعيين المفاجئ هذا ناجم عن صعود «[[رشدية|الرشدية]]» أو -ما اعتُبر- «الأرسطية الراديكالية» في الجامعات. كان الدومينيكان -حتى قبل الأكويني- يعتنقون المذهب الفلسفي الأرسطي [على سبيل المثال ألبرت الكبير الذي كان الأرسطي الأول بين فلاسفة عصره<ref name="م17" group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ص=230}}</ref>، ولكن بعد صعود نجم [[الرشدية]] وذيوع آرائها لم يعد هذا يروق للسلطات الكنسية التي اتهمتهم بأنهم ينتصرون للرشدية [[ابن رشد|وابن رشدٍ]] (26-1198م) انتصاراً يحيد بهم عن «الطريق القويم»، وأفضى الخلاف إلى اصطدام الدومينيكان بالسلطات الكنسية في جامعة پاريس، وكان الأكويني قد نشر -إلى جانب كتبه الأخرى- واحداً من أهم كتبه «الخلاصة ضد الوثنيين» (59-1264م)، وهو موجه -في المقام الأول- إلى تفنيد عقيدة المسلمين،<ref group="هامش">يعتبر برتراند رسل صراحةً أن كتاب «الخلاصة ضد الوثنيين» أهم كتبه. انظر: "رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ج 2، ص. 230"، ويعتبر "الخلاصة اللاهوتية" {{اقتباس مضمن|كتاباً يكاد يبلغ من الأهمية مبلغ الكتاب الأول}}، فهو برأيه يدانبه في الأهمية ولا يساويه.</ref> وقد أصاب -على ما يبدو- سمعةً عريضةً من تآليفه -لا سيما كتابه ذاك-، ومن عمله التدريسي في ذلك الوقت.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ص=230-231}}</ref>
كلّف التنظيم الدومينيكاني في العام 1268م توماس أكويناس بمنصب المشرف في [[جامعة باريس]] للمرة الثانية؛ المنصب الذي سيشغله حتى ربيع العام 1272م. وفيما يبدو فإن أحد أسباب إعادة التعيين المفاجئ هذا ناجم عن صعود «[[رشدية|الرشدية]]» أو -ما اعتُبر- «الأرسطية الراديكالية» في الجامعات. كان الدومينيكان -حتى قبل الأكويني- يعتنقون المذهب الفلسفي الأرسطي [على سبيل المثال ألبرت الكبير الذي كان الأرسطي الأول بين فلاسفة عصره<ref name="م17" group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ص=230}}</ref> ولكن بعد صعود نجم [[الرشدية]] وذيوع آرائها لم يعد هذا يروق للسلطات الكنسية التي اتهمتهم بأنهم ينتصرون للرشدية [[ابن رشد|وابن رشدٍ]] (26-1198م) انتصاراً يحيد بهم عن «الطريق القويم»، وأفضى الخلاف إلى اصطدام الدومينيكان بالسلطات الكنسية في جامعة پاريس، وكان الأكويني قد نشر -إلى جانب كتبه الأخرى- واحداً من أهم كتبه «الخلاصة ضد الوثنيين» (59-1264م)، وهو موجه -في المقام الأول- إلى تفنيد عقيدة المسلمين،<ref group="هامش">يعتبر برتراند رسل صراحةً أن كتاب «الخلاصة ضد الوثنيين» أهم كتبه. انظر: "رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ج 2، ص. 230"، ويعتبر "الخلاصة اللاهوتية" {{اقتباس مضمن|كتاباً يكاد يبلغ من الأهمية مبلغ الكتاب الأول}}، فهو برأيه يدانبه في الأهمية ولا يساويه.</ref> وقد أصاب -على ما يبدو- سمعةً عريضةً من تآليفه -لا سيما كتابه ذاك-، ومن عمله التدريسي في ذلك الوقت.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ص=230-231}}</ref>


تواطأتِ النزاعات مع بعض [[فرنسيسكانية|الفرنسيسكان]] المهيمنين لتجعلَ من إشراف توماس أكويناس الثاني أكثر صعوبةً واضطراباً من الأول، فقبل عامٍ فقط من مجيئه لتولي هذا التكليف، وفي خضمِّ نزاعات باريس (66-1267) اتهم السيد الفرنسيسكاني «ويليام دي باجليوني» الإكويني بتشجيع «[[رشدية|الرشديين]]»<ref group="إنج">Averroists</ref>، وغالباً ما اعتبره أحدَ {{اقتباس مضمن|القادة العميان للمكفوفين}}. تقول إليونور ستامب: {{اقتباس مضمن|لقد قيل أيضاً بشكلٍ مقنعٍ إن كتاب توما الأكويني<ref group="لات">De aeternitate mund</ref> ["في أزلية العالم"] كان موجهاً -بشكلٍ خاصٍّ- ضد زميله في اللاهوت الفرنسيسكاني "جون بيكهام"}}.<ref name="م16">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=11-12|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">كان الفرنسيسكان الميالين إلى التجربة الصوفية واستبطان الذات في الإيمان يعارضون التوجه العقلاني للدومينيكان الذي غالباً ما اعتبروه دخيلاً من التأثيرات الإسلامية، وقد وجدوا -بخاصةٍ- في اعتبار الأكويني أزلية العالم جائزة عقلاً -والتي شارك فيها ألبرت الكبير و[[ابن ميمون]]- انحرافاً بيّناً عن جادة الإيمان.</ref>
تواطأتِ النزاعات مع بعض [[فرنسيسكانية|الفرنسيسكان]] المهيمنين لتجعلَ من إشراف توماس أكويناس الثاني أكثر صعوبةً واضطراباً من الأول، فقبل عامٍ فقط من مجيئه لتولي هذا التكليف، وفي خضمِّ نزاعات باريس (66-1267) اتهم السيد الفرنسيسكاني «ويليام دي باجليوني» الإكويني بتشجيع «[[رشدية|الرشديين]]»<ref group="إنج">Averroists</ref>، وغالباً ما اعتبره أحدَ {{اقتباس مضمن|القادة العميان للمكفوفين}}. تقول إليونور ستامب: {{اقتباس مضمن|لقد قيل أيضاً بشكلٍ مقنعٍ إن كتاب توما الأكويني<ref group="لات">De aeternitate mund</ref> ["في [[أزلية العالم]]"] كان موجهاً -بشكلٍ خاصٍّ- ضد زميله في اللاهوت الفرنسيسكاني "جون بيكهام"}}.<ref name="م16">{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=11-12|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">كان الفرنسيسكان الميالين إلى التجربة الصوفية واستبطان الذات في الإيمان يعارضون التوجه العقلاني للدومينيكان الذي غالباً ما اعتبروه دخيلاً من التأثيرات الإسلامية، وقد وجدوا -بخاصةٍ- في اعتبار الأكويني أزلية العالم جائزة عقلاً -والتي شارك فيها ألبرت الكبير و[[ابن ميمون]]- انحرافاً بيّناً عن جادة الإيمان.</ref>


كان العديدون في المجتمع الكنسي ممن يُدعَوْن [[أوغسطينوس|أوغسطينيين]] -المهيمنين على هيئة التدريس في كلية اللاهوت بالجامعة- يتملكهم الخوف من أن هذا التقديم للأرسطية، والرشدية الأكثر منها تطرفاً<ref group="هامش">تعبير الأكثر تطرفاً يُقصد به -على الأرجح- الأكثرَ خطورةً لكونها أكثر قدرةً على الانتشار ونشر الأفكار اللاهوتية الإسلامية معها. إن الأفكار [[أرسطو|الأرسطية]] مجرد طروحاتٍ فلسفيةٍ يمكن إخضاعها للنقاش، ولكن سمعة «[[رشدية|المدرسة الرشدية]]» في أوروبا الغربية وقتذاك -وهي ليست إلا نقلاً لأفكار أرسطو وشرحاً لها وفق المنظور الإسلامي- كانت على أنها صيحة العصر و"الموضة" السائدة (عاش [[ابن رشد|ابن رشد الحفيد]] 26-1198م)، لذلك كانت الرشدية تغزو الأوساط الثقافية الغربية وتنتشر تحت ضغط الغزو الحضاري الإسلامي والثقافة الإسلامية في غزوها المجتمع الغربي في باكورة اطّلاعه على الثقافة والفلسفة، ومن هنا كانت أكثر خطورةً.</ref> لربما يلوّثان بطريقةٍ ما نقاء الإيمان المسيحي. عقد توماس -محاولةً منه على ما يبدو لمواجهة الخشية المتعاظمة من الفكر الأرسطي- سلسلةً من المناظرات ما بين العامين 1270 و1272 نجم عنها «في الفضائل بشكلٍ عامٍّ»<ref group="لات">De Virtutibus in communi</ref>، و«في الفضائل الكاردينالية»<ref group="لات">De Virtutibus cardinalibus</ref>، و«الأمل»<ref group="لات">De spe</ref>
كان العديدون في المجتمع الكنسي ممن يُدعَوْن [[أوغسطينوس|أوغسطينيين]] -المهيمنين على هيئة التدريس في كلية اللاهوت بالجامعة- يتملكهم الخوف من أن هذا التقديم للأرسطية، والرشدية الأكثر منها تطرفاً<ref group="هامش">تعبير الأكثر تطرفاً يُقصد به -على الأرجح- الأكثرَ خطورةً لكونها أكثر قدرةً على الانتشار ونشر الأفكار اللاهوتية الإسلامية معها. إن الأفكار [[أرسطو|الأرسطية]] مجرد طروحاتٍ فلسفيةٍ يمكن إخضاعها للنقاش، ولكن سمعة «[[رشدية|المدرسة الرشدية]]» في أوروبا الغربية وقتذاك -وهي ليست إلا نقلاً لأفكار أرسطو وشرحاً لها وفق المنظور الإسلامي- كانت على أنها صيحة العصر و"الموضة" السائدة (عاش [[ابن رشد|ابن رشد الحفيد]] 26-1198م)، لذلك كانت الرشدية تغزو الأوساط الثقافية الغربية وتنتشر تحت ضغط الغزو الحضاري الإسلامي والثقافة الإسلامية في غزوها المجتمع الغربي في باكورة اطّلاعه على الثقافة والفلسفة، ومن هنا كانت أكثر خطورةً.</ref> لربما يلوّثان بطريقةٍ ما نقاء الإيمان المسيحي. عقد توماس -محاولةً منه على ما يبدو لمواجهة الخشية المتعاظمة من الفكر الأرسطي- سلسلةً من المناظرات ما بين العامين 1270 و1272 نجم عنها «في الفضائل بشكلٍ عامٍّ»<ref group="لات">De Virtutibus in communi</ref>، و«في الفضائل الكاردينالية»<ref group="لات">De Virtutibus cardinalibus</ref>، و«الأمل»<ref group="لات">De spe</ref>


كان الرشديون تياراً قوياً في الجامعات الأوروبية، وقد أخذ الإكويني على نفسه أن يستخلصَ أرسطو وينفيَ ابنَ رشدٍ، ويبين أن أنصار الرشدية من المسلمين والكاثوليك كليهما أخطؤوا في فهم أرسطو وشرحه، وأنه سوف {{اقتباس مضمن|يزيل هذا الأذى الذي نتج عن الإسراف في متابعة التعاليم العربية}}.<ref name="م17" group="عر"/><ref group="هامش">يرى [[برتراند راسل|برتراند رسل]] {{اقتباس مضمن|أن كتاب "النفس" لأرسطو يؤدي أداءً طبيعياً إلى وجهة النظر التي أخذ بها ابنُ رشدٍ أكثرَ جداً مما يؤدي إلى وجهة النظر التي أخذ بها الإكويني}}. انظر: "رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ج 2، ص. 230-231".</ref> واستجابةً منه لدحض [[الرشدية]] كتب الإكويني عملين أحدهما «في وحدة الفكر، ضد الرشدية»<ref group="لات">DeDe unitate intellectus contra Averroistas</ref> حيث يندد بالرشدية معتبراً إياها غير متوافقةٍ مع العقيدة المسيحية.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=10-11|لغة=en}}</ref> وأنهى -إبّان فترة الوصاية الثانية هذه- الجزءَ الثانيَ من [[الخلاصة اللاهوتية|الخلاصة]]، وألف كتابين «في الفضائل»<ref group="لات">De Virtutibus</ref>، و«في خلود العالم، ضد المُشككين»،<ref group="لات">De aeternitate mundi, contra murmurantes</ref><ref name="م19"/> وهو الكتاب الذي تعامل مع [[ابن رشد|ابن رشدٍ]] المثير للجدل والمبدأ الأرسطي «أزليّة [قِدَم] العالم».<ref name="م16"/>
كان الرشديون تياراً قوياً في الجامعات الأوروبية، وقد أخذ الإكويني على نفسه أن يستخلصَ أرسطو وينفيَ ابنَ رشدٍ، ويبيّن أن أنصار الرشدية من المسلمين والكاثوليك كليهما أخطؤوا في فهم أرسطو وشرحه، وأنه سوف {{اقتباس مضمن|يزيل هذا الأذى الذي نتج عن الإسراف في متابعة التعاليم العربية}}.<ref name="م17" group="عر"/><ref group="هامش">يرى [[برتراند راسل|برتراند رسل]] {{اقتباس مضمن|أن كتاب "النفس" لأرسطو يؤدي أداءً طبيعياً إلى وجهة النظر التي أخذ بها ابنُ رشدٍ أكثرَ جداً مما يؤدي إلى وجهة النظر التي أخذ بها الإكويني}}. انظر: "رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ج 2، ص. 230-231".</ref> واستجابةً منه لدحض [[رشدية|الرشدية]] كتب الإكويني عملين أحدهما «في وحدة الفكر، ضد الرشدية»<ref group="لات">DeDe unitate intellectus contra Averroistas</ref> حيث يندد بالرشدية معتبراً إياها غير متوافقةٍ مع العقيدة المسيحية.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=10-11|لغة=en}}</ref> وأنهى -إبّان فترة الوصاية الثانية هذه- الجزءَ الثانيَ من [[الخلاصة اللاهوتية|الخلاصة]]، وألف كتابين «في الفضائل»<ref group="لات">De Virtutibus</ref>، و«في خلود العالم، ضد المُشككين»،<ref group="لات">De aeternitate mundi, contra murmurantes</ref><ref name="م19"/> وهو الكتاب الذي تعامل مع [[ابن رشد|ابن رشدٍ]] المثير للجدل والمبدأ الأرسطي «أزليّة [قِدَم] العالم».<ref name="م16"/>


وفي الواقع كان الإكويني مستاءً بشدةٍ من انتشار [[رشدية|الرشدية]]، ولقد غضب عندما اكتشف أن «[[سيجر دي برابانت]]»<ref group="هامش">سيجر دي برابانت {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Siger of Brabant''}}}} (حوالي 1240 - قبل 10 / 11/ 1284م): فيلسوف من البلدان المنخفضة الجنوبية (بورغنديا). كان من أنصار [[رشدية|الرشدية]]، ويمكن اعتباره من أبرز ممثلي التيار المنادي بالأفكار "الرشدية" في المجتمع الغربي. نادى بـ«الحقيقة المزدوجة» وتعني أنه حيثما تختلف وجهتا نظر الكنيسة والفلسفة فيجب قَبول الاثنين معاً. لقيَ عنتاً من قبَلِ كلٍّ من الكنيسة والفلاسفة معارضي توجهاته مثل [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرتوس ماجنوس]] والإكويني، ولا سيما عقب الحملة على [[رشدية|الرشدية]] وبالأخص إدانتها من قبل أسقف باريس في 10 / 12/ 1270م.</ref> يعلم التفسيرات الرشدية لأرسطو للطلبة الباريسيين. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول من العام 1270م أصدر أسقف باريس «إتيين تيمبيي» مرسوماً يُدين ثلاثَ عشرةَ قضيةً أرسطيةً ورشديةً باعتبارها زندقةً، ويوقع حرمةً كنسيةً على أي امرئٍ يواظب على دعمها، ويحرم -بصفته الرسمية كرئيسٍ لجامعة باريس- تعليم آراء ابن رشد في الجامعة، ودعاه رأس الضلال.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|العقاد|2014|ص=46}}</ref>
وفي الواقع كان الإكويني مستاءً بشدةٍ من انتشار [[رشدية|الرشدية]]، ولقد غضب عندما اكتشف أن «[[سيجر دي برابانت]]»<ref group="هامش">سيجر دي برابانت {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Siger of Brabant''}}}} (حوالي 1240 - قبل 10 / 11/ 1284م): فيلسوف من البلدان المنخفضة الجنوبية (بورغنديا). كان من أنصار [[رشدية|الرشدية]]، ويمكن اعتباره من أبرز ممثلي التيار المنادي بالأفكار "الرشدية" في المجتمع الغربي. نادى بـ«الحقيقة المزدوجة» وتعني أنه حيثما تختلف وجهتا نظر الكنيسة والفلسفة فيجب قَبول الاثنين معاً. لقيَ عنتاً من قبَلِ كلٍّ من الكنيسة والفلاسفة معارضي توجهاته مثل [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرتوس ماجنوس]] والإكويني، ولا سيما عقب الحملة على [[رشدية|الرشدية]] وبالأخص إدانتها من قبل أسقف باريس في 10 / 12/ 1270م.</ref> يعلم التفسيرات الرشدية لأرسطو للطلبة الباريسيين. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول من العام 1270م أصدر أسقف باريس «إتيين تيمبيي» مرسوماً يُدين ثلاثَ عشرةَ قضيةً أرسطيةً ورشديةً باعتبارها زندقةً، ويوقع حرمةً كنسيةً على أي امرئٍ يواظب على دعمها، ويحرم -بصفته الرسمية كرئيسٍ لجامعة باريس- تعليم آراء ابن رشد في الجامعة، ودعاه رأس الضلال.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|العقاد|2014|ص=46}}</ref>
سطر 242: سطر 237:
=== التكليف الأخير والتوقف عن الكتابة (1272-1274) ===
=== التكليف الأخير والتوقف عن الكتابة (1272-1274) ===


في العام 1272 أخذ توماس إجازةً من [[جامعة باريس|مدرسة باريس]] عندما دعاه الدومينيكان في وطنه لتأسيس مدرسةٍ عامةٍ (جامعة)<ref group="لات" name="مولد تلقائيا5" /> أينما يشاء، وانتقاء طافم التوظيف فيها كما يشاء. اختار إنشاء المؤسسة في [[نابولي|ناپولي]]، وانتقل إلى هناك ليتولى منصبه مشرفاً عليها.<ref name="م19"/> استغرق وقته في ناپولي للعمل على الجزء الثالث من [[الخلاصة اللاهوتية|الخلاصة]] فيما كان يحاضر حول مواضيعَ دينيةٍ مختلفةٍ. وعظ أيضاً لأهل ناپولي كل يومٍ خلال الصوم الكبير في العام 1273. أصابت هذه العظات حول الوصايا، وقانون الإيمان، وأبونا، والسلام عليك يامريم شهرةً واسعة.<ref>{{استشهاد مختصر|Weisheipl|1974|ص=319|لغة=en}}</ref>
في العام 1272 أخذ توماس إجازةً من [[جامعة باريس|مدرسة باريس]] عندما دعاه الدومينيكان في وطنه لتأسيس مدرسةٍ عامةٍ (جامعة)<ref group="لات" name="مولد تلقائيا5" /> أينما يشاء، وانتقاء طافم التوظيف فيها كما يشاء. اختار إنشاء المؤسسة في [[نابولي|ناپولي]]، وانتقل إلى هناك ليتولى منصبه مشرفاً عليها.<ref name="م19"/> استغرق وقته في نابولي للعمل على الجزء الثالث من [[الخلاصة اللاهوتية|الخلاصة]] فيما كان يحاضر حول مواضيعَ دينيةٍ مختلفةٍ. وعظ أيضاً لأهل ناپولي كل يومٍ خلال الصوم الكبير في العام 1273. أصابت هذه العظات حول الوصايا، وقانون الإيمان، وأبونا، والسلام عليك يا مريم شهرةً واسعة.<ref>{{استشهاد مختصر|Weisheipl|1974|ص=319|لغة=en}}</ref>


يُعزى تقليدياً لتوما القدرة على التحليق. مثلاً ذكر ج. ك. تشيسترتون أن {{اقتباس مضمن|تجاربه تضمنت حالاتٍ مشهودٍ لها من التحليق في نشوةٍ؛ وظهرت له العذراء المباركة، وهي تُريحه بخبرٍ مُرحِّبٍ بأنه لن يكون أسقفاً أبداً}}.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
يُعزى تقليدياً لتوماس القدرة على التحليق. ذكر ج. ك. تشيسترتون مثلاً أن {{اقتباس مضمن|تجاربَه تضمنت حالاتٍ مشهودٍ لها من التحليق في نشوةٍ؛ وظهرت له العذراء المباركة، وهي تُريحه بخبرٍ مُرحِّبٍ بأنه لن يكون أسقفاً أبداً}}.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
|مؤلف=G.K. Chesterton
|مؤلف=G.K. Chesterton
| مؤلف-وصلة= غلبرت كيث تشيسترتون
| مؤلف-وصلة= غلبرت كيث تشيسترتون
سطر 257: سطر 252:
}}</ref>
}}</ref>


ويُروى تقليدياً أنه في مناسبةٍ في العام 1273م في دير الدومينيكان في كنيسة القديس نيقولاس في ناپولي،<ref>{{استشهاد مختصر|Kwasniewski|2005|ص=19-53|لغة=en}}</ref> بعد «الماتينز»<ref group="هامش">الماتنيز: ساعة أساسية في الشعائر الكنسية تُنشد -في الأصل- في عتمة الفجر الباكر.</ref>، ارتفع توماس -وشاهده ساكريستان دومينيك دي كاسيرتا- في الصلاة بالدموع أمام أيقونة المسيح المصلوب. قال المسيح لتوماس: {{اقتباس مضمن|لقد كتبت عني جيداً ياتوماس. ماهي المكافأة التي كنت لتحصل عليها مقابل عملك؟}} أجاب توماس: {{اقتباس مضمن|لا شيءَ غيرُك يارب}}.
ويُروى تقليدياً أنه في مناسبةٍ في العام 1273م في دير الدومينيكان في كنيسة القديس نيقولاس في ناپولي،<ref>{{استشهاد مختصر|Kwasniewski|2005|ص=19-53|لغة=en}}</ref> بعد «الماتينز»<ref group="هامش">الماتنيز: ساعة أساسية في الشعائر الكنسية تُنشد -في الأصل- في عتمة الفجر الباكر.</ref> ارتفع توماس -وشاهده ساكريستان دومينيك دي كاسيرتا- في الصلاة بالدموع أمام أيقونة المسيح المصلوب. قال المسيح لتوماس: {{اقتباس مضمن|لقد كتبت عني جيداً ياتوماس. ماهي المكافأة التي كنت لتحصل عليها مقابل عملك؟}} أجاب توماس: {{اقتباس مضمن|لا شيءَ غيرُك يارب}}.
 
حدثت تجربة صوفية أخرى في 6 كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، فبينما كان يحتفل بالقداس شعر بنشوةٍ طويلةٍ بشكلٍ غير عاديٍّ. وبسبب ما رآه تخلى عن برنامجه، ورفض أن يُمليَ على صديقه «ريجِنالد من ببيرنو» زميله في الرهبنة وكاتبه، وعندما توسل إليه ريجنالد للعودة إلى العمل أجابه توماس: {{اقتباس مضمن|ريجنالد.. لا أستطيع، لأن كل ما كتبته يبدو لي مثل القش}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|1993|ص=9|لغة=en}}</ref><ref group="لات">''mihi videtur ut palea''</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Mcbridel|1997|ص=131|لغة=en}}</ref> ونتيجةً لذلك ستبقى «الخلاصة اللاهوتية» غير مكتملةٍ.<ref group="هامش">سيتمها ريجنالد من بعدُ بالاستناد إلى أفكار توما وتوجهاته كما رآها.</ref>
<ref>{{استشهاد مختصر|Op|2013|ص=27|لغة=en}}</ref> بحسب بعضهم أن ما تسبب بالضبط في تغير سلوك توماس كان نوعاً من التجارب الخارقة للطبيعة مع الرب، وبعدما اقتيد إلى سريره استعاد بعض القوة.<ref name="م21">{{استشهاد مختصر|Healy|2003|ص=7|لغة=en}}</ref>


حدثت تجربة صوفية أخرى في 6 ديسمبر من العام 1273م، فبينما كان يحتفل بالقداس شعر بنشوةٍ طويلةٍ بشكلٍ غير عاديٍّ. وبسبب ما رآه تخلى عن برنامجه، ورفض أن يُمليَ على صديقه «ريجِنالد من ببيرنو» زميله في الرهبنة وكاتبه، وعندما توسل إليه ريجنالد للعودة إلى العمل أجابه توماس: {{اقتباس مضمن|ريجنالد.. لا أستطيع، لأن كل ما كتبته يبدو لي مثل القش}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|1993|ص=9|لغة=en}}</ref><ref group="لات">mihi videtur ut palea</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Mcbridel|1997|ص=131|لغة=en}}</ref> ونتيجةً لذلك ستبقى «الخلاصة اللاهوتية» غير مكتملةٍ<ref group="هامش">سيتمها ريجنالد من بعد بالاستناد إلى أفكار توما من مؤلفاته الأخر.<ref>{{استشهاد مختصر|Op|2013|ص=27|لغة=en}}</ref> بحسب بعضهم أن ما تسبب بالضبط في تغير سلوك توماس كان نوعاً من التجارب الخارقة للطبيعة مع الله، وبعدما اقتيد إلى سريره استعاد بعض القوة.<ref name="م21">{{استشهاد مختصر|Healy|2003|ص=7|لغة=en}}</ref>
دعا [[البابا غريغوري العاشر]] (حبريته 71-1276م) إلى المجمع الثاني في [[ليون]] الذي سينعقد في 1 مايو/أيار من العام 1274 بحثاً عن طريقةٍ لجمع شمل الكنيستين الكاثوليكية الغربية والأرثوذكسية الشرقية، واستدعي توماس للحضور.<ref name="م30">{{استشهاد مختصر|Nichols|2003|ص=18|لغة=en}}</ref> كان من المقرر في ذاك المجمع تقديم عمل توماس «ضد أخطاء الإغريق» الذي كان ألفه للبابا [[أوربان الرابع]] بشأن العقيدة الأرثوذكسية.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=46|لغة=en}}</ref>
دعا البابا [[غريغوري العاشر]] (حبريته 71-1276م) إلى المجمع الثاني في [[ليون]] الذي سينعقد في 1 مايو/أيار من العام 1274 بحثاً عن طريقةٍ لجمع شمل الكنيستين الكاثوليكية الغربية والأرثوذكسية الشرقية، واستدعي توماس للحضور.<ref name="م30">{{استشهاد مختصر|Nichols|2003|ص=18|لغة=en}}</ref> كان من المقرر في ذاك المجمع تقديم عمل توماس الذي كان ألفه للبابا [[أوربان الرابع]] بشأن العقيدة الأرثوذكسية «ضد أخطاء الإغريق».<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=46|لغة=en}}</ref>


في طريقه إلى المجمع راكباً حماراً على طريق أبيان<ref name="م30"/> ضرب رأسه بغصن شجرةٍ سقطت وأصيب إصابةً خطيرةً مرةً أخرى. اصطُحِب بسرعةٍ إلى مونتي كاسينو للتعافي،<ref name="م21" /> وبعدما نال قسطاً من الراحة انطلق ثانيةً، لكنه توقف عند دير فوسانوڤا للسيسترسيان (الفرنسيسكان) بعد أن عاوده المرض.<ref name="م22">{{استشهاد مختصر|Healy|2003|ص=8|لغة=en}}</ref> group="هامش">تذكر بعض الروايات أن توما طلب إحضاره إلى دير فوسانوڤا لأن يسوع أخبره أنه يمكنه التحدث معه للمرة الأخيرة. لا يمكن التثبت من صحة الرواية خاصةً في ذلك الوقت حيث كانت مثل هذه المرويات شائعة جداً. إن رسْمه قديساً من قبل الكنيسة في زمنٍ مبكرٍ (عقب خمسين سنةً على وفاته) سيسهم من بعد في تكاثر المنقولات الشعبية عن معجزاته محفزة بكونه قديساً. مرّضه الرهبان لعدة أيامٍ، وبعدما تلقى طقوسه الأخيرة دخل في مناجاةٍ، وصلّى: {{اقتباس مضمن|لقد كتبتُ وعلّمتُ الكثير عن هذا الجسد جِدِّ المقدسِ، وعن الأسرار الأخرى في إيمان المسيح، وحول الكنيسة الرومانية المقدسة التي أعرض عليها كل ما كتبته وأُقدّمه}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Torrell|2005|ص=292|لغة=en}}</ref> وما وافى يوم السابع من مارس/آذار عام 1274 حتى رقد رقدته الأخيرة<ref name="م22" />} بينما كان يعلق على نشيد الأناشيد.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=47|لغة=en}}</ref>
في طريقه إلى المجمع راكباً حماراً على طريق أبيان<ref name="م30"/> ضرب رأسه بغصن شجرةٍ سقطت، وأصيب إصابةً خطيرةً مرةً أخرى. اصطُحِب بسرعةٍ إلى مونتي كاسينو للتعافي،<ref name="م21" /> وبعدما نال قسطاً من النفاهة انطلق ثانيةً، لكنه توقف عند دير فوسانوڤا للسيسترسيان (الفرنسيسكان) بعد أن عاوده المرض.<ref name="م22">{{استشهاد مختصر|Healy|2003|ص=8|لغة=en}}</ref>
<ref group="هامش">تذكر بعض الروايات أن توماس طلب إحضاره إلى دير فوسانوڤا لأن يسوع أخبره أنه يمكنه التحدث معه للمرة الأخيرة. لا يمكن التثبت من صحة الرواية خاصةً في ذلك الوقت حيث كانت مثل هذه المرويات شائعة جداً، فضلاً عن أن رسْمه قديساً من قبل الكنيسة منذ زمنٍ مبكرٍ (عقب خمسين سنةً على وفاته) سيسهم من بعد في تكاثر المنقولات الشعبية عن معجزاته محفوزةً بوصفه قديساً.</ref> مرّضه الرهبان لعدة أيامٍ، وبعدما تلقى طقوسه الأخيرة دخل في مناجاةٍ، وصلّى: {{اقتباس مضمن|لقد كتبتُ وعلّمتُ الكثير عن هذا الجسد جِدِّ المقدسِ، وعن الأسرار الأخرى في إيمان المسيح، وحول الكنيسة الرومانية المقدسة التي أعرض عليها كل ما كتبته وأُقدّمه}}،<ref>{{استشهاد مختصر|Torrell|2005|ص=292|لغة=en}}</ref> وما وافى يوم السابع من مارس/آذار عام 1274 حتى رقد رقدته الأخيرة<ref name="م22" /> بينما كان يعلق على نشيد الأناشيد.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=47|لغة=en}}</ref>


=== إدانة العام 1277 والتقديس ===
=== إدانة العام 1277 والتقديس ===


[[ملف:Andrea di Bonaiuto. Santa Maria Novella 1366-7 fresco 0001.jpg|تصغير|يسار|'''انتصار القديس توما الأكويني'''<br/>"دكتور أنجِليكوس" مع القديسين والملائكة. تلحظ صورة ابن رشدٍ تحت الإكويني جالساً في بؤسٍ تلميحاً بهزيمته. لوحة جدارية (افريسكو) بريشة أندريا دي بونايوتو، كنيسة سانتا ماريا نوفيلا، العام 1366م.]]
[[ملف:Andrea di Bonaiuto. Santa Maria Novella 1366-7 fresco 0001.jpg|تصغير|يسار|'''انتصار القديس توما الأكويني'''<br/>"دكتور أنجِليكوس" مع القديسين والملائكة. تلحظ صورة ابن رشدٍ تحت الإكويني جالساً في بؤسٍ إلماحاً لهزيمته. لوحة جدارية (افريسكو) بريشة أندريا دي بونايوتو، كنيسة سانتا ماريا نوفيلا، العام 1366م.]]


في العام [[1277]]م أصدر «إتيين تيمبيي» -أسقف باريس الذي أصدر إدانة العام 1270- إدانةً أخرى أشملَ. أحد أغراض هذه الإدانة هو تِبيان أن قوة الله المطلقة تتجاوز أية مبادئَ منطقيةٍ ربما وضعها أرسطو أو ابن رشد عليها.<ref>{{استشهاد مختصر|Grant|1996|ص=81-82|لغة=en}}</ref> وبشكلٍ أكثر تحديداً احتوت الإدانة على 219 مسألةً قرر الأسقف أنها تنتهك قدرة الله المطلقة. تضمنت هذه القائمة عشرين مسألةً توماويةً أضر إدراجها بشدةٍ بسمعة توما الأكويني لسنواتٍ عديدةٍ.<ref name="م31">{{استشهاد مختصر|Küng|1994|ص=112|لغة=en}}</ref>
في العام [[1277]]م أصدر «إتيين تيمبيي» أسقف باريس -الذي أصدر إدانة العام 1270- إدانةً أخرى أشملَ. كان من أغراض هذه الإدانة تِبيان أن قوة الله المطلقة تتجاوز أية مبادئَ منطقيةٍ ربما وضعها أرسطو أو ابن رشد عليها.<ref>{{استشهاد مختصر|Grant|1996|ص=81-82|لغة=en}}</ref> ولنكن أكثر تحديداً احتوت الإدانة على تسعة عشر ومئتي (219) مسألة قرر الأسقف أنها تنتهك قدرة الله المطلقة. تضمنت هذه القائمة عشرين مسألةً توماويةً أضر إدراجها بشدةٍ بسمعة توما الأكويني لسنواتٍ عديدةٍ.<ref name="م31">{{استشهاد مختصر|Küng|1994|ص=112|لغة=en}}</ref>


وفي العام نفسه (1277) يصدر [[أسقف كانتربري]] قراراً يحرّم تدريس بعض من مبادئ التوماوية في [[جامعة أكسفورد|أكسفورد]] التابعة له، وكذا تحريمان آخران في العامين 1284، و1286 قبلما يتحول موقف السلطات الكنسية منه رويداً رويداً.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=1|ص=179{{بحاجة لرقم الصفحة}}}}</ref>
وفي العام نفسه (1277) يصدر [[رئيس أساقفة كانتربيري|أسقف كانتربري]] قراراً يحرّم تدريس بعضٍ من مبادئ التوماوية في [[جامعة أكسفورد|أكسفورد]] التابعة له، وتبعه تحريمان آخران في العامين 1284، و1286 قبلما يتحول موقف السلطات الكنسية منه رويداً رويداً.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=1|ص=179{{بحاجة لرقم الصفحة}}}}</ref>


وضع [[دانتي أليغييري|دانتي]] (1265-1321م) في «[[الكوميديا الإلهية|الملهاة الإلهية]]» روح توماس في جنة الشمس مع الأمثلة العظيمة الأخرى للحكمة الدينية.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
وضع [[دانتي أليغييري|دانتي]] (1265-1321م) في «[[الكوميديا الإلهية|ملهاته الإلهية]]» روح توماس في جنة الشمس مع الأمثلة العظيمة الأخرى للحكمة الدينية.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
| مسار= http://www.divinecomedy.org/divine_comedy.php3?display?Enface?Paradiso?10???148?1???0??1?1  
| مسار= http://www.divinecomedy.org/divine_comedy.php3?display?Enface?Paradiso?10???148?1???0??1?1  
| مؤلف= Dante Alighieri
| مؤلف= Dante Alighieri
سطر 290: سطر 288:
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20110726001228/http://www.divinecomedy.org/divine_comedy.php3?display%3FEnface%3FPurgatorio%3F20%3F%3F%3F151%3F1%3F%3F%3F0%3F%3F1%3F1  
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20110726001228/http://www.divinecomedy.org/divine_comedy.php3?display%3FEnface%3FPurgatorio%3F20%3F%3F%3F151%3F1%3F%3F%3F0%3F%3F1%3F1  
| تاريخ أرشيف= 26-07-2011
| تاريخ أرشيف= 26-07-2011
| تاريخ الوصول= 17-01-2010}}</ref> يستشهد ڤيلاني بهذا الاعتقاد، ويصف أنطونيو افيورنتينو الجريمة ودوافعها، لكنَّ المؤرخ لودوفيكو أنطونيو موراتوري يستنسخ الرواية التي قدمها أحد أصدقاء الأكويني، وهذه النسخة من القصة لا تعطي أي تلميحٍ لوجود تلاعبٍ.<ref name="britannica-250">{{استشهاد مختصر|Chisholm|1911|ج=2|ص=250|لغة=en}}</ref>
| تاريخ الوصول= 17-01-2010}}</ref> يستشهد ڤيلاني بهذا الاعتقاد، ويصف أنطونيو افيورنتينو الجريمة ودوافعها، لكنَّ المؤرخ لودوفيكو أنطونيو موراتوري يستنسخ الرواية التي قدمها أحد أصدقاء الأكويني، وهذه النسخة من القصة لا تقدم أي تلميحٍ لوجود مؤامرةٍ ما.<ref name="britannica-250">{{استشهاد مختصر|Chisholm|1911|ج=2|ص=250|لغة=en}}</ref>


ولقد قدم توما الأكويني خدمةً جُلّى للكنيسة الكاثوليكية بجمعه وتنظيمه التعاليم الكنسية،<ref name="م23" group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=166}}</ref> كما بدأ علم اللاهوت عنده في الارتقاء إلى مكانةٍ مرموقةٍ، وبعد أقلَّ من ثلاثة قرونٍ على وفاته في العام [[1567]] أعلن البابا «[[بيوس الخامس]]» الأكويني مَلفاناَ للكنيسة {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Doctor of the Church''}}}}، وصُنف عيده مع أعياد الآباء اللاتين الأربعة: أمبروز، وأوغسطينوس، وجيروم، وغريغوري،<ref name="britannica-250"/> وفي [[مجمع ترنت]] (45-1563) الكنسي حظي الأكويني بشرف وضع «[[الخلاصة اللاهوتية]]» خاصته على المذبح جنباً إلى جنبٍ مع [[الكتاب المقدس]] والأحكام.<ref name="م31"/><ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب  
لقد قدم توما الأكويني خدمةً جُلّى للكنيسة الكاثوليكية بجمعه وتنظيمه التعاليم الكنسية،<ref name="م23" group="عر">{{استشهاد مختصر|بيشوب|2004|ص=166}}</ref> كما بدأ علم اللاهوت عنده في الارتقاء إلى مكانةٍ مرموقةٍ، وبعد أقلَّ من ثلاثة قرونٍ على وفاته في العام [[1567]] أعلن البابا «[[بيوس الخامس]]» الأكويني مَلفاناَ للكنيسة {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Doctor of the Church''}}}}، وصُنف عيده مع أعياد الآباء اللاتين الأربعة: أمبروز، وأوغسطينوس، وجيروم، وغريغوري،<ref name="britannica-250"/> وفي [[مجمع ترنت]] (45-1563) الكنسي حظي الأكويني بشرف وضع «[[الخلاصة اللاهوتية]]» خاصته على المذبح جنباً إلى جنبٍ مع [[الكتاب المقدس]] والأحكام.<ref name="م31"/><ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب  
|مؤلف = Brian Mullady
|مؤلف = Brian Mullady
| مسار= http://www.holyspiritinteractive.net/columns/guests/brianmullady/thomasaquinas.asp  
| مسار= http://www.holyspiritinteractive.net/columns/guests/brianmullady/thomasaquinas.asp  
سطر 302: سطر 300:
| تاريخ الوصول= 11-06-2011}}</ref>
| تاريخ الوصول= 11-06-2011}}</ref>


ذكر البابا [[ليون الثالث عشر|ليو الثالث عشر]] في رسالته العامة المؤرخة في 4 أغسطس/آب من العام [[1879]] أن لاهوت توما الأكويني كان عرْضاً نهائياً للعقيدة الكاثوليكية، وعليه وَجّهَ رجالَ الدين لاتخاذ تعاليمه كأساسٍ لمواقفهم اللاهوتية، كما أصدر البابا المذكور مرسوماً يقضي بأن على جميع الندوات والجامعات الكاثوليكية أن تُدرِّس مذاهب توماس، وحيثما لم يتطرقِ [الأكويني] للحديث عن موضوعٍ معينٍ فقد {{اقتباس مضمن|جرى حث المعلمين على تدريس استنتاجاتٍ تتوافق مع فكره}}، وفي العام 1880 أُعلن القديس توما الأكويني راعياً لجميع المؤسسات التعليمية الكاثوليكية.<ref name="britannica-250" /> إن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية -منذ رسالة ليو الثالث عشر المشار إليها- تعتبر [[التوماوية]] الفلسفة الوحيدة الصحيحة.<ref name="م1" group="عر"/>
ذكر البابا [[ليون الثالث عشر|ليو الثالث عشر]] في رسالته العامة المؤرخة في 4 أغسطس/آب من العام [[1879]] أن لاهوت توما الأكويني كان عرْضاً نهائياً للعقيدة الكاثوليكية، وعليه وَجّهَ رجالَ الدين الكاثوليك لاتخاذ تعاليمه كأساسٍ لمواقفهم اللاهوتية، كما أصدر البابا المذكور مرسوماً يقضي بأن على جميع الندوات والجامعات الكاثوليكية أن تُدرِّس مذاهب توماس، وحيثما لم يتطرقِ [الأكويني] للحديث عن موضوعٍ معينٍ فقد {{اقتباس مضمن|جرى حض المعلمين على تدريس استنتاجاتٍ تتوافق مع فكره}}، وغدتِ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية -منذ رسالة ليو الثالث عشر المشار إليها- تعتبر [[توماوية|التوماوية]] الفلسفة الوحيدة الصحيحة.<ref name="م1" group="عر"/> وفي العام 1880 أُعلن القديس توما الأكويني راعياً لجميع المؤسسات التعليمية الكاثوليكية.<ref name="britannica-250" />


[[ملف:Nef-jacobins-toulouse.jpg|تصغير|يمين|'''كنيسة اليعاقبة في طلّوشة ([[تولوز]])''' حيث يقع مدفن رُفات توما الأكويني. تلاحظ القبوات المتقاطعة في السقف من تأثيرات العمارة الإسلامية.]]
[[ملف:Nef-jacobins-toulouse.jpg|تصغير|يمين|'''كنيسة اليعاقبة في طلّوشة ([[تولوز]])''' حيث يقع مدفن رُفات توما الأكويني. تلاحظ القبوات المتقاطعة في السقف من تأثيرات العمارة الإسلامية.]]


وفي «عصر الإيمان» ذاك -كما يدعو «ويل ديورانت» و«موريس بيشوب» القرونَ الوسطى العالية (1000-1500م)- كثرت قصص المعجزات وجعل الوعاظ يرددونها بوقارٍ والناس يتلقفونها تواقين لأن يحدث معهم أمثالها، ورُوي أن ببغاءً ردد عبارةً كما سمعها من مالكته ترددها عندما تخاف: «أغثني يا قديس توماس» وذلك في مواجهة هجومٍ عليه من طائرٍ مفترسٍ، فأنقذه القديس توماس في الحال.<ref name="م23" group="عر"/> وحينما اعترض «محامي الشيطان» على عملية تقديس توما الأكويني لعدم وجود معجزاتٍ له استشهد أحد الكرادلة بكتاباته في «[[الخلاصة اللاهوتية]]» على أنها معجزة قائلاً: {{اقتباس مضمن|هناك العديد من المعجزات مثل المقالات (في خلاصته<ref group="لات">Tot miraculis، quarticulis</ref>)}}
وفي «عصر الإيمان» ذاك -كما يدعو «ويل ديورانت» و«موريس بيشوب» القرونَ الوسطى العالية (1000-1500م)- كثرت قصص المعجزات وجعل الوعاظ يرددونها بوقارٍ والناس يتلقفونها تواقين لأن يحدث معهم أمثالها، حتى رُوي أن ببغاءً ردد عبارةً كما سمعها من مالكته ترددها عندما تخاف: «أغثني يا قديس توماس» وذلك في مواجهة هجومٍ عليه من طائرٍ مفترسٍ، فأنقذه القديس توماس في الحال.<ref name="م23" group="عر"/> وحينما اعترض «محامي الشيطان» على عملية تقديس توما الأكويني لعدم وجود معجزاتٍ له استشهد أحد الكرادلة بكتاباته في «[[الخلاصة اللاهوتية]]» على أنها معجزة قائلاً: {{اقتباس مضمن|هناك العديد من المعجزات مثل المقالات (في خلاصته<ref group="لات">Tot miraculis، quarticulis</ref>)}}


وبعد خمسين عاماً على وفاته وفي 18 يوليو/تموز من العام [[1323]]م رَسم البابا «[[يوحنا الثاني والعشرون]]» (ثاني [[بابوية أفينيون|بابوات أڤينيون]]) توماس أكويناس قديساً.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=54|لغة=en}}</ref> يُظهر أحد الأديرة في [[نابولي|ناپولي]] بالقرب من كاتدرائية ناپولي زنزانةً يُفترض أنه عاش فيها،<ref name="britannica-250" /> وقد نقلت رُفاته من دير فوسانوڤا إلى كنيسة اليعاقبة في [[تولوز]] جنوب غربي فرنسا في 28 يناير/كانون الأول من العام [[1369]]م، وفيما بين العامين [[1789]] و[[1974]]م حُفظ الرفات في «بازيليك سانت سيرنين» في تولوز، ومن ثَمَّ أعيد في العام [[1974]]م إلى كنيسة اليعاقبة حيث يقبع هناك منذ ذلك الحين.
وبعد خمسين عاماً على وفاته وفي 18 يوليو/تموز من العام [[1323]]م رَسم البابا «[[يوحنا الثاني والعشرون]]» (ثاني [[بابوية أفينيون|بابوات أڤينيون]]) توماس أكويناس قديساً.<ref>{{استشهاد مختصر|Hampden|1848|ص=54|لغة=en}}</ref> ثمة في أحد الأديرة في [[نابولي]] بالقرب من كاتدرائية نابولي زنزانةً يُفترض أنه عاش فيها،<ref name="britannica-250" /> وقد نقلت رُفاته من دير فوسانوڤا إلى كنيسة اليعاقبة في [[تولوز]] جنوب غربي فرنسا في 28 يناير/كانون الأول من العام [[1369]]م، وفيما بين العامين [[1789]] و[[1974]]م حُفظ الرفات في «بازيليك سانت سيرنين» في تولوز، ومن ثَمَّ أعيد في العام [[1974]]م إلى كنيسة اليعاقبة حيث يقبع هناك منذ ذلك الحين.


أعلن البابا [[بندكت الخامس عشر|بنديكتوس الخامس عشر]]: {{اقتباس مضمن|اكتست هذه الرهبنة (الدومينيكانية) بريقاً جديداً عندما أعلنتِ الكنيسة أن تعاليم توما هي تعاليمها، وأنه هو العالِم -والذي كُرّم بمديحٍ خاص من كبار الكهنة- سيد المدارس الكاثوليكية وراعيها}}.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
أعلن البابا [[بندكت الخامس عشر|بنديكتوس الخامس عشر]]: {{اقتباس مضمن|اكتست هذه الرهبنة (الدومينيكانية) بريقاً جديداً عندما أعلنتِ الكنيسة أن تعاليم توما هي تعاليمها، وأنه هو العالِم -والذي كُرّم بمديحٍ خاص من كبار الكهنة- سيد المدارس الكاثوليكية وراعيها}}.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
سطر 322: سطر 320:
}}</ref>
}}</ref>


أُدرج يوم عيد الأكويتي، عند تطويبه قديساً، في «التقويم الروماني العام» للاحتفال به في ذكرى وفاته يوم 7 مارس/آذار، ونظراً لأن هذا التاريخ يقع عادةً في فترة «الصوم الكبير» فقد نَقلت مُراجعةُ العام [[1969]]م للتقويم [الكنسي] ذكراه إلى 28 يناير/كانون الأول تاريخ نقل رُفاته إلى كنيسة اليعاقبة في [[تولوز]].<ref>{{استشهاد مختصر|Calendarium|1969|ص=86|لغة=en}}</ref>
أُدرج يوم عيد الأكويتي -عند تطويبه قديساً- في «التقويم الروماني العام» للاحتفال به في ذكرى وفاته يوم 7 مارس/آذار، ونظراً لأن هذا التاريخ يقع عادةً في فترة «الصوم الكبير» فقد نَقلت مُراجعةُ العام [[1969]]م للتقويم [الكنسي] ذكراه إلى 28 يناير/كانون الأول تاريخ نقل رُفاته إلى كنيسة اليعاقبة في [[تولوز]].<ref>{{استشهاد مختصر|Calendarium|1969|ص=86|لغة=en}}</ref>


يجري تكريم توماس أكويناس بيوم العيد كذلك في بعض كنائس المجتمع الأنجليكاني مع مهرجانٍ أصغر، وذلك يوم 28 يناير/كانون الأول.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب  
يجري كذلك تكريم توماس أكويناس في يوم عيده في بعض كنائس المجتمع الأنجليكاني مع مهرجانٍ أصغر، وذلك يوم 28 يناير/كانون الأول.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب  
| عنوان= The Calendar
| عنوان= The Calendar
| مسار= https://www.churchofengland.org/prayer-and-worship/worship-texts-and-resources/common-worship/churchs-year/calendar  
| مسار= https://www.churchofengland.org/prayer-and-worship/worship-texts-and-resources/common-worship/churchs-year/calendar  
سطر 330: سطر 328:
| لغة= en  
| لغة= en  
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20211215173755/https://www.churchofengland.org/prayer-and-worship/worship-texts-and-resources/common-worship/churchs-year/calendar  
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20211215173755/https://www.churchofengland.org/prayer-and-worship/worship-texts-and-resources/common-worship/churchs-year/calendar  
| تاريخ أرشيف= 12-12-2021
| تاريخ أرشيف= 15-12-2021
| تاريخ الوصول= 19-10-2023
| تاريخ الوصول= 19-10-2023
}}</ref>
}}</ref>
سطر 340: سطر 338:
[[ملف:Friesach - Dominikanerkirche - Hochaltar - Hl Thomas von Aquin1.jpg|تصغير|القديس توماس أكويناس والبابا.]]
[[ملف:Friesach - Dominikanerkirche - Hochaltar - Hl Thomas von Aquin1.jpg|تصغير|القديس توماس أكويناس والبابا.]]


كان توماس الأكويني عالماً لاهوتياً وفيلسوفاً مدرسياً. ومع ذلك لم يعتبر نفسه فيلسوفاً،<ref>{{استشهاد مختصر|Jordan|2006|ص=154|لغة=en}}</ref> وقدِ انتقد الفلاسفة معتبراً إياهم وثنيين لأنهم {{اقتباس مضمن|يقعون دوماً في التقصير في [معرفة] الحكمة الحقيقية والصحيحة التي يمكن العثور عليها في الوحي المسيحي}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=14|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">يلاحظ التشابه في الموقف من الفلسفة والفلاسفة مع موقف [[أبو حامد الغزالي|الغزالي]] (450-505هـ / 1058-1111م) والذي بيّنه في كتابه "[[تهافت الفلاسفة]]".</ref> ومع هذا كان الأكويني يحترم [[أرسطو]] لدرجة أنه غالباً ما يستشهد به في «الخلاصة» ببساطةٍ تحت اسم {{اقتباس مضمن|الفيلسوف}} -وهي تسمية كانت كثيرة الاستخدام في ذلك الوقت- وبسببه {{اقتباس مضمن|أصبح "الاستاجيري" [أي أرسطو] معدوداً بين الكاثوليك واحداً من "الآباء" أو يكاد، وبات في رأيهم أن نقده في أمور الفلسفة الخالصة يقرب جداً من الكفر في الدين}}،<ref group="عر" name="مولد تلقائيا11">{{استشهاد مختصر|راسل|ج=2|ص=229}}</ref> وبالرغم من ذلك فإن توماس {{اقتباس مضمن|لم يتنازل عن العقيدة النصرانية من خلال جعلها تتماشى مع الأرسطية الحالية، وبدلاً من ذلك قام بتعديلها وتصحيحها كلما تعارضت مع المعتقد المسيحي}}.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا11" />
كان توما الأكويني عالماً لاهوتياً وفيلسوفاً مدرسياً. ومع ذلك لم يعتبر نفسه فيلسوفاً،<ref>{{استشهاد مختصر|Jordan|2006|ص=154|لغة=en}}</ref> وقدِ انتقد الفلاسفة معتبراً إياهم وثنيين لأنهم {{اقتباس مضمن|يقعون دوماً في التقصير في [معرفة] الحكمة الحقيقية والصحيحة التي يمكن العثور عليها في الوحي المسيحي}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Davies|2003|ص=14|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">يلاحظ التشابه في الموقف من الفلسفة والفلاسفة مع موقف [[أبو حامد الغزالي|الغزالي]] (450-505هـ / 1058-1111م) والذي بيّنه في كتابه "[[تهافت الفلاسفة]]".</ref> ومع هذا كان الأكويني يحترم [[أرسطو]] لدرجة أنه غالباً ما يستشهد به في «الخلاصة» ببساطةٍ تحت اسم {{اقتباس مضمن|الفيلسوف}} -وهي تسمية كانت كثيرة الاستخدام في ذلك الوقت- وبسببه {{اقتباس مضمن|أصبح "الاستاجيري" [أي أرسطو] معدوداً بين الكاثوليك واحداً من "الآباء" أو يكاد، وبات في رأيهم أن نقده في أمور الفلسفة الخالصة يقرب جداً من الكفر في الدين}}،<ref group="عر" name="مولد تلقائيا11">{{استشهاد مختصر|راسل|ج=2|ص=229}}</ref> وبالرغم من ذلك فإن توماس {{اقتباس مضمن|لم يتنازل عن العقيدة النصرانية من خلال جعلها تتماشى مع الأرسطية الحالية، وبدلاً من ذلك قام بتعديلها وتصحيحها كلما تعارضت مع المعتقد المسيحي}}.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا11" />


يعتمد الكثير من أعمال توماس على موضوعاتٍ فلسفيةٍ، وبهذا المعنى يمكن وصفها بأنها أعمال فلسفية أيضاً، ولقد كان لفكره الفلسفي تأثير هائل على اللاهوت المسيحي اللاحق، وخاصةً في الكنيسة الكاثوليكية، وامتد إلى الفلسفة الغربية بشكلٍ عامٍّ.
يعتمد الكثير من أعمال توماس على موضوعاتٍ فلسفيةٍ، وبهذا المعنى يمكن وصفها بأنها أعمال فلسفية أيضاً، ولقد كان لفكره الفلسفي تأثير هائل على اللاهوت المسيحي اللاحق، وخاصةً في الكنيسة الكاثوليكية، وامتد أثره إلى الفلسفة الغربية بشكلٍ عامٍّ.


=== شروح على أرسطو ===
=== شروح على أرسطو ===


كتب توماس أكويناس العديد من التعليقات المهمة على أعمال أرسطو، بما في ذلك «حول الروح»، و«في التفسير»، و«الأخلاق النيقوماخية»، و«الميتافيزيقيا». ويرتبط عمله بترجمات ويليام أوف موربيك (1215 /1235 – 1286) لأعمال أرسطو من اليونانية إلى اللاتينية مباشرةً والتي أتمها سنة 1267.<ref group="هامش">بدأ الأكويني كتاباته الفلسفية في وقتٍ مبكرٍ جداً عن هذا التاريخ، وبعض أهم كتبه "خلاصة ضد الكفار" أنهاه إبّان إشرافه الأول في جامعة باريس (59-1264)، و"الخلاصة اللاهوتية" الذي أنجز جزءاً وافراً منه قبل أعمال ويليام الموربيكي، مما يدلل على أن اعتماده على الأعمال الفلسفية العربية سبق أعمال الموربيكي بكثير.</ref> مثلما ارتبط بالأعمال الفلسفية العربية -التي شرحت الفكر اليوناني وأرسطو خاصةً شرحاً وافياً وأضافت إليها- وآراء الفلاسفة العرب حوله كابن سينا وابن رشد والرازي والغزالي.<ref name="م3" group="عر"/>
كتب توما الأكويني العديدَ من التعليقات المهمة على أعمال أرسطو، ومن ذلك «حول الروح»، و«في التفسير»، و«الأخلاق النيقوماخية»، و«الميتافيزيقيا». ويرتبط عمله بترجمات ويليام أوف موربيك (1215 /1235 – 1286) لأعمال أرسطو من اليونانية إلى اللاتينية مباشرةً والتي أتمها سنة 1267.<ref group="هامش">بدأ الأكويني كتاباتِه الفلسفيةَ في وقتٍ مبكرٍ عن هذا التاريخ، إذ أنهى بعض أهم كتبه "خلاصة ضد الكفار" إبّان إشرافه الأول في جامعة باريس (59-1264)، و"الخلاصة اللاهوتية" الذي أنجز جزءاً وافراً منه قبل أعمال ويليام الموربيكي، فاعتماده على الأعمال الفلسفية العربية سبق أعمال الموربيكي بكثير.</ref> مثلما ارتبط بالأعمال الفلسفية العربية -التي شرحت الفكر اليوناني وأرسطو خاصةً شرحاً وافياً وأضافت إليها- وآراء الفلاسفة العرب حول هذا الفكر، كابن سينا وابن رشد والرازي والغزالي.<ref name="م3" group="عر"/>


=== نظرية المعرفة ===
=== نظرية المعرفة ===
{{مفصلة|نظرية المعرفة}}
{{مفصلة|نظرية المعرفة}}


يعتقد توما الأكويني أنه {{اقتباس مضمن|من أجل معرفة أي حقيقةٍ -مهما كانت- يحتاج الإنسان إلى مساعدةٍ إلهيةٍ، لأن العقل يُحركه الله إلى صنيعه}}. ومع ذلك اعتقد الأكويني أن لدى البشر القدرة الطبيعية على معرفة أشياءٍ كثيرةٍ بدون وحيٍ إلهيٍّ خاصٍّ على الرغم من أن هذا الوحي يحدث من وقتٍ لآخر {{اقتباس مضمن|خاصةً فيما يتعلق بهذه (الحقائق) المتعلقة بالإيمان}}.<ref name="م11">{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 109, Article 1|لغة=en}}</ref> ولكن هذا هو النور الذي أعطاه الله للإنسان وفقاً لطبيعة الإنسان: {{اقتباس مضمن|الآن.. كل شكلٍ منحه الله للمخلوقات له القدرة على فعلٍ محدّدٍ [''uality'']، والذي يمكنه إنجازه بما يتناسب مع ملكته المناسبة [لهذا الفعل]، ويكون عاجزاً فيما وراء ذلك، اللهم إلا عبر شكلٍ فائق الإضافة، كما أن الماء يمكنه أن يسخن -فقط- عند تسخينه بالنار، وعليه يكون للفهم البشري شكل، أو بكلمةٍ أخرى ضوء واضح، والذي هو [هذا الشكل أو الضوء] كافٍ -في حد ذاته- لمعرفة أشياءٍ معقولةٍ محددةٍ، بمعنى تلكم [الأشياء] التي يمكن أن نحصل على معرفتها من خلال الحواس}}.<ref name="م11"/>
يعتقد توما الأكويني أنه {{اقتباس مضمن|من أجل معرفة أي حقيقةٍ -مهما كانت- يحتاج الإنسان إلى معونةٍ إلهيةٍ، لأن العقلَ يُحركه الله إلى صنيعه}}. ومع ذلك فقد ذهب إلى أن لدى البشر القدرة الطبيعية على معرفة أشياءٍ كثيرةٍ من دون وحيٍ إلهيٍّ خاصٍّ على الرغم من أن هذا الوحي يحدث من وقتٍ لآخر {{اقتباس مضمن|لاسيما فيما يتعلق بهذه (الحقائق) المتعلقة بالإيمان}}.<ref name="م11">{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 109, Article 1|لغة=en}}</ref> ولكنَّ هذا إنما هو النور الذي أعطاه الله للإنسان وفقاً لطبيعة الإنسان: {{اقتباس مضمن|الآن.. كل شكلٍ منحه الله للمخلوقات له القدرة على فعلٍ محدّدٍ [''uality'']، والذي يمكنه إنجازه بما يتناسب مع ملكته المناسبة [لهذا الفعل]، ويكون عاجزاً فيما وراء ذلك، اللهم إلا عبر شكلٍ فائق الإضافة، كما أن الماء يمكنه أن يسخن -فقط- عند تسخينه بالنار، وعليه يكون للفهم البشري شكل، أو بكلمةٍ أخرى ضوء واضح، والذي هو [هذا الشكل أو الضوء] كافٍ -في حد ذاته- لمعرفة أشياءٍ معقولةٍ محددةٍ، بمعنى تلكم [الأشياء] التي يمكن الوصول إلى معرفتها من خلال الحواس}}.<ref name="م11"/>


=== الأخلاق ===
=== الأخلاق ===


تستند [[الأخلاق]] عند توما الأكويني على مفهوم «مبادئ العمل الأولى».<ref>{{استشهاد مختصر|Geisler|1999|ص=727|لغة=en}}</ref> يذكر في كتابه [[الخلاصة اللاهوتية]]:
تستند [[الأخلاق]] عند توما الأكويني على مفهوم «مبادئ العمل الأولى».<ref>{{استشهاد مختصر|Geisler|1999|ص=727|لغة=en}}</ref> وهو يذكر في كتابه [[الخلاصة اللاهوتية]]:


{{اقتباس مضمن|تشير الفضيلة إلى كمالٍ معينٍ للسلطة. يُعتبر كمال الشيء الآن أساساً لما يتعلق بنهايته، لكن نهاية القوة هي الفعل، لذلك يقال إن القوة كاملة مثلما هي محددة لعملها}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 55, Article 2|لغة=en}}</ref>
{{اقتباس مضمن|تشير الفضيلة إلى كمالٍ معينٍ للسلطة. يُعتبر كمال الشيء الآن أساساً لما يتعلق بنهايته، لكن نهاية القوة هي الفعل، لذلك يقال إن القوة كاملة مثلما هي محددة لعملها}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 55, Article 2|لغة=en}}</ref>
سطر 372: سطر 370:
}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 94, Reply Obj. 2|لغة=en}}</ref>
}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 94, Reply Obj. 2|لغة=en}}</ref>


ووفقاً لتوماس {{اقتباس مضمن|... جميع الأفعالِ الفضيلةِ موصوفةٌ في القانون الطبيعي بما أن عقل كلِّ فردٍ يملي عليه -بطبيعة الحال- التصرف بفضيلةٍ، ولكن إذا تكلمنا عن الأفعال الفاضلة المعتبرة في ذاتها -أي في جنسها الصحيح- فلا ينص القانون الطبيعي على جميع الأفعال الفاضلة: فالكثير من الأشياء تتم بشكلٍ فاضلٍ، والتي لا تميل إليها الطبيعة في البدء؛ وإنما من خلال استقصاء العقل وجد البشر أنها تساعد على العيش الكريم}}. لذلك يجب أن نحدد ما إذا كنا نتحدث عن الأفعال الفاضلة تحت مظهر الفضيلة أو كفعلٍ في جنسها.<ref name="Thomas Aquinas">
ووفقاً لتوما الأكويني {{اقتباس مضمن|... جميع الأفعالِ الفاضلةِ موصوفةٌ في القانون الطبيعي بما أن عقل كلِّ فردٍ يُملي عليه -بطبيعة الحال- التصرف بفضيلةٍ، ولكن إذا تكلمنا عن الأفعال الفاضلة المعتبرة في ذاتها -أي في جنسها الصحيح- فالقانون الطبيعي لا ينص على جميع الأفعال الفاضلة: إذِ الكثير من الأشياء تتم بشكلٍ فاضلٍ، ولكن لا تميل إليها الطبيعة في البدء؛ وإنما وجد البشر -من خلال استقصاء العقل- أنها تساعد على العيش الكريم}}. لذلك علينا أن نحدد ما إذا كنا نتحدث عن الأفعال الفاضلة تحت مظهر الفضيلة أو كفعلٍ في جنسها.<ref name="Thomas Aquinas">
{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 94, Article 3|لغة=en}}</ref>
{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 94, Article 3|لغة=en}}</ref>


عرّف الأكويني الفضائل الأساسية الأربعة بأنها الحكمة والاعتدال والعدالة والثبات. الفضائل الأساسية طبيعية وتتبدّى في الطبيعة، وهي مُلزِمة للجميع. ومع ذلك فهناك ثلاث فضائلَ لاهوتيةٍ: الإيمان والرجاء والمحبة. يصف توماس أيضاً الفضائلَ بأنها فضائل منقوصة (غير كاملة) وفضائل (كاملة)، والفضيلة الكاملة هي أي فضيلةٍ مع المحبة.<ref group="إنج" name="مولد تلقائيا9">charity</ref><ref group="هامش">يفهم توما الأكويني المحبة على أنها "صداقة الإنسان مع الله" والتي "توحدنا مع الله"، ويعتبرها "أروعَ الفضائل". علاوةً يرى الأكويني أن {{اقتباس مضمن|عادة المحبة لا تمتد إلى محبة الله فحسب، بل أيضاً إلى محبة الجار والقريب}} ولكن بدرجةٍ أقلَّ.</ref> المحبة تكمّل الفضيلة الأساسية. يمكن لغير المسيحي أن يظهر الشجاعة، لكن ذلك سيكون شجاعةً باعتدالٍ. أما المسيحي فمن شأنه أن يظهر الشجاعة مع المحبة، وهذه هي إلى حدٍّ ما خارقة للطبيعة ومتميزة عن الفضائل الأخرى في موضوعها، أي الله:<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981||ج=II (1st part)|نص= Question 62, Article 2 |لغة=en}}</ref>
عرّف الأكويني الفضائل الأساسية الأربعة بأنها الحكمة والاعتدال والعدالة والثبات. الفضائل الأساسية طبيعية وتتبدّى في الطبيعة، وهي مُلزِمة للجميع. ومع ذلك فهناك ثلاثُ فضائلَ لاهوتيةٍ: الإيمان والرجاء والمحبة. يصف توماس أيضاً الفضائلَ بأنها فضائل منقوصة (غير كاملة) وفضائل (كاملة)، والفضيلة الكاملة هي أي فضيلةٍ مع المحبة.<ref group="إنج" name="مولد تلقائيا9">charity</ref><ref group="هامش">يفهم توما الأكويني المحبة على أنها "صداقة الإنسان مع الله" والتي "تُوحدنا مع الله"، ويعتبرها "أروعَ الفضائل". علاوةً يرى الأكويني أن {{اقتباس مضمن|عادة المحبة لا تمتد إلى محبة الله فحسب، بل أيضاً إلى محبة الجار والقريب}} ولكن بدرجةٍ أقلَّ.</ref> المحبة تكمّل الفضيلة الأساسية. يمكن لغير المسيحي أن يظهر الشجاعة، لكن ذلك سيكون شجاعةً باعتدالٍ. أما المسيحي فمن شأنه أن يظهر الشجاعة مع المحبة، وهذه إلى حدٍّ ما خارقة للطبيعة ومتميزة عن الفضائل الأخرى في موضوعها، أي الله:<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981||ج=II (1st part)|نص= Question 62, Article 2 |لغة=en}}</ref>
{{اقتباس|الآن موضوع الفضائل اللاهوتية هو الله نفسه الذي هو النهاية الأخيرة لكل شيءٍ باعتباره متجاوزاً معرفة عقلنا. من ناحيةٍ أخرى فإن موضوع الفضائل الفكرية والأخلاقية هو شيء مفهوم للعقل البشري. لذلك تختلف الفضائل اللاهوتية تحديداً عن الفضائل الأخلاقية والفكرية.}}
{{اقتباس|الآن موضوع الفضائل اللاهوتية هو الله نفسه الذي هو النهاية الأخيرة لكل شيءٍ باعتباره متجاوزاً معرفة عقلنا. من ناحيةٍ أخرى فإن موضوع الفضائل الفكرية والأخلاقية هو شيء مفهوم للعقل البشري. لذلك تختلف الفضائل اللاهوتية تحديداً عن الفضائل الأخلاقية والفكرية.}}


كتب توما الأكويني: {{اقتباس مضمن|[الجشع] هو خطيئة ضد الله تماماً مثل حميع الخطايا المميتة بقدر ما يدين الإنسان الأشياءَ الأبديةَ من أجل الأشياء الزمنية}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 118, Article 1|لغة=en}}</ref>
كتب توما الأكويني: {{اقتباس مضمن|[الجشع] هو خطيئة ضد الله تماماً مثل حميع الخطايا المميتة بقدر ما يدين الإنسان الأشياءَ الأبديةَ من أجل الأشياء الزمنية}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 118, Article 1|لغة=en}}</ref>


علاوةً على ذلك ميّز توماس في أطروحته عن القانون أربعة أنواعٍ من القانون: أبدي، وطبيعي، وإنساني، وإلهي. فالقانون الأبدي هو قضاء الله الذي يحكم كل الخليقة: {{اقتباس مضمن|هذا القانون الذي هو السبب الأسمى لا يمكن فهمه على أنه غير قابلٍ للتغيير وأبديٍّ}}<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 91, Article 1|لغة=en}}</ref> القانون الطبيعي هو «المشاركة البشرية في القانون الأبدي ويُكتشف بالعقل». يقوم القانون الطبيعي على «المبادئ الأولى»:<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 94, Article 2|لغة=en}}</ref>
علاوةً على ذلك ميّز توماس في أطروحته عن القانون بين أربعةِ أنواعٍ من القانون: أبدي، وطبيعي، وإنساني، وإلهي. فالقانون الأبدي هو قضاء الله الذي يحكم الخليقة كلها: {{اقتباس مضمن|هذا القانون الذي هو السبب الأسمى لا يمكن فهمه على أنه غير قابلٍ للتغيير وأبديٍّ}}<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 91, Article 1|لغة=en}}</ref> القانون الطبيعي هو «المشاركة البشرية في القانون الأبدي ويُكتشف بالعقل». يقوم القانون الطبيعي على «المبادئ الأولى»:<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 94, Article 2|لغة=en}}</ref>
{{اقتباس|... هذا هو أول مبدأٍ في الناموس أن الخير ينبغي أن يُؤتى ويُعزَّز، والشر ينبغي أن يُتجنّب. جميع مبادئ القانون الطبيعي الأخرى تقوم على هذا الأساس.}}
{{اقتباس|... هذا هو أول مبدأٍ في الناموس أن الخير ينبغي أن يُؤتى ويُعزَّز، والشر ينبغي أن يُتجنّب. جميع مبادئ القانون الطبيعي الأخرى تقوم على هذا الأساس.}}


سطر 387: سطر 385:
[[ملف:Tommaso Aquino - Francisco de Zurbarán.jpg|تصغير|يمين|معدول|'''تفاصيل تقديس توما الأكويني'''<br/>لوحة بريشة فرانشيسكو دي زورباران (1631).]]
[[ملف:Tommaso Aquino - Francisco de Zurbarán.jpg|تصغير|يمين|معدول|'''تفاصيل تقديس توما الأكويني'''<br/>لوحة بريشة فرانشيسكو دي زورباران (1631).]]


يحسبُ توماس رغبات الحياة والإنجاب من بين تلك القيم الإنسانية الأساسية (الطبيعية) التي تستند إليها جميع القيم الإنسانية. وفقاً له فإن جميع الميول البشرية موجهة نحو السلع البشرية الحقيقية. في هذه الحالة فإن الطبيعة البشرية المعنية هي الزواج، وهِبَةُ الذات الكاملة للآخر التي تضمن أسرةً للأطفال ومستقبلاً للبشرية.<ref group="وب-لات">{{استشهاد ويب
يحسبُ توماس رغبات الحياة والإنجاب من بين تلك القيم الإنسانية الأساسية (الطبيعية) التي تستند إليها جميع القيم الإنسانية. ووفقاً له فإن جميع الميول البشرية موجهة نحو السلع البشرية الحقيقية، وفي هذه الحالة فإن الطبيعة البشرية المعنية هي الزواج، وهِبَةُ الذات الكاملة للآخر التي تضمن أسرةً للأطفال ومستقبلاً للبشرية.<ref group="وب-لات">{{استشهاد ويب
| مسار= http://www.corpusthomisticum.org/snp4027.html  
| مسار= http://www.corpusthomisticum.org/snp4027.html  
|عنوان = Sancti Thomae de Aquino, Scriptum super Sententiis, liber IV a distinctione XXVII ad distinctionem XXXIII: DISTINCTIO 27, QUAESTIO 1, PROOEMIUM
|عنوان = Sancti Thomae de Aquino, Scriptum super Sententiis, liber IV a distinctione XXVII ad distinctionem XXXIII: DISTINCTIO 27, QUAESTIO 1, PROOEMIUM
سطر 397: سطر 395:
}}</ref> وقد عرّف الميل المزدوج لفعل الحب [الجماع]: {{اقتباس مضمن|نحو الخير الذي يرغب فيه الإنسان لشخصٍ ما (لنفسه أو لغيره) ونحو ما يتمنى له بعض الخير}}.<ref name="newadvent.org">{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 26, Article 4, corp. art|لغة=en}}</ref>
}}</ref> وقد عرّف الميل المزدوج لفعل الحب [الجماع]: {{اقتباس مضمن|نحو الخير الذي يرغب فيه الإنسان لشخصٍ ما (لنفسه أو لغيره) ونحو ما يتمنى له بعض الخير}}.<ref name="newadvent.org">{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 26, Article 4, corp. art|لغة=en}}</ref>


يستنتج توماس فيما يتعلق بقانون الإنسان {{اقتباس مضمن|... كما هو الحال في العقل التأملي من المبادئ المعروفة التي لا يمكن إثباتها بشكلٍ طبيعيٍّ، فإننا نستخلص استنتاجاتِ مختلف العلوم التي لا تُمنَح لنا معرفتها بطبيعتها، بل نكتسبها. من خلال جهود العقل، لذلك من مبادئ القانون الطبيعي -كما من المبادئ العامة التي لا يمكن إثباتها- أن العقل البشري يحتاج إلى الشروع في تحديدٍ أكثر خصوصيةً لبعض الأمور. هذه التحديدات الخاصة -التي ابتكرها العقل البشري- هي تسمى قوانين الإنسان، بشرط مراعاة الشروط الأساسية الأخرى للقانون ...}} القانون الإنساني هو القانون الوضعي: القانون الطبيعي الذي تطبقه الحكومات على المجتمعات.<ref name="Thomas Aquinas"/>
يستنتج توماس فيما يتعلق بقانون الإنسان {{اقتباس مضمن|... كما هو الحال في العقل التأملي من المبادئ المعروفة التي لا يمكن إثباتها بشكلٍ طبيعيٍّ، فإننا نستخلص استنتاجاتِ مختلف العلوم التي لا تُمنَح معرفتها لنا بطبيعتها، بل نكتسبها من خلال جهود العقل، لذلك من مبادئ القانون الطبيعي -كما من المبادئ العامة التي لا يمكن إثباتها- أن العقل البشري يحتاج إلى الشروع في تحديدٍ أكثرَ خصوصيةً لبعض الأمور. هذه التحديدات الخاصة -التي ابتكرها العقل البشري- تسمى قوانين الإنسان، بشرط مراعاة الشروط الأساسية الأخرى للقانون ...}} القانون الإنساني هو القانون الوضعي: القانون الطبيعي الذي تطبقه الحكومات على المجتمعات.<ref name="Thomas Aquinas"/>


القانون الطبيعي والبشري ليسا كافيين بمفرَدِهِما. إن الحاجة إلى توجيه السلوك البشري جعلت من الضروري وجودَ قانونٍ إلهيٍّ. القانون الإلهي هو القانون المعلن بشكلٍ خاصٍّ في الكتب المقدسة. يقتبس توما: {{اقتباس مضمن|يقول الرسول (عبرانيين 7-12): ترجمة الكهنوت؛ من الضروري أن تتم ترجمة القانون أيضاً. لكن الكهنوتَ ذو شقين -كما ورد في نفس المقطع- أي الكهنوت اللاواعي، وكهنوت المسيح، لذلك فإن القانون الإلهي ذو شقين، هما الشريعة القديمة والشريعة الجديدة}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص=Question 94, Article 5|لغة=en}}</ref>
القانون الطبيعي والبشري ليسا كافيين بمفرَدِهِما. إن الحاجة إلى توجيه السلوك البشري جعلت من الضروري وجودَ قانونٍ إلهيٍّ. القانون الإلهي هو القانون المعلن بشكلٍ خاصٍّ في الكتب المقدسة. يقتبس توماس: {{اقتباس مضمن|يقول الرسول (عبرانيين 7-12): ترجمة الكهنوت؛ من الضروري أن تتم ترجمة القانون أيضاً. لكن الكهنوتَ ذو شقين -كما ورد في نفس المقطع- أي الكهنوت اللاواعي، وكهنوت المسيح، لذلك فإن القانون الإلهي ذو شقين، هما الشريعة القديمة والشريعة الجديدة}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص=Question 94, Article 5|لغة=en}}</ref>


أثر توماس كذلك بشكلٍ كبيرٍ في الفهم الكاثوليكي للخطايا المميتة والعَرَضية.
أثر توماس كذلك بشكلٍ كبيرٍ في الفهم الكاثوليكي للخطايا المميتة والعَرَضية.


يشير توما الأكويني إلى الحيوانات على أنها غبية، وأن النظام الطبيعي قد أعلن عن الحيوانات لاستخدام الإنسان، ونفى أن يكون لدى البشر أي واجب صدقةٍ تجاه الحيوانات لأنهم ليسوا أشخاصاً، وإلا فسيكون قتلهم من أجل الطعام غيرَ قانونيٍّ، لكن يجب أن يظل البشر خيّرين لهم، لأن {{اقتباس مضمن|العادات القاسية قد تنتقل إلى معاملتنا للبشر}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Honderich|1995|ص= 35–36|لغة=en}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 64. Article 1|لغة=en}}</ref>
يشير توما الأكويني إلى الحيوانات على أنها غبية، وأن النظام الطبيعي قد صرّح عن الحيوانات لاستخدام الإنسان، ونفى أن يكون لدى البشر أي واجب صدقةٍ اتجاه الحيوانات لأنهم ليسوا أشخاصاً، وإلا فسيكون قتلهم من أجل الطعام غيرَ قانونيٍّ، لكن يجب أن يظل البشر خيّرين لهم، لأن {{اقتباس مضمن|العادات القاسية قد تنتقل إلى معاملتنا للبشر}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Honderich|1995|ص= 35–36|لغة=en}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (2ed part)|نص= Question 64. Article 1|لغة=en}}</ref>


أسهم توماس في الفكر الاقتصادي باعتباره جانباً من جوانب الأخلاق والعدالة. لقد تعامل مع مفهوم «السعر العادل»، وهو عادةً سعر السلعة في السوق أو سعر منظَّم كافٍ لتغطية تكاليف البائع للإنتاج. وقال إن من غير الأخلاقي أن يرفع البائعون أسعارهم لمجرد أن المشترين في حاجةٍ ماسّةٍ إلى المنتج.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 77|لغة=en}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Durlauf|2008|ج=1|ص=100|لغة=en}}</ref>
أسهم توماس في الفكر الاقتصادي باعتباره جانباً من جوانب الأخلاق والعدالة. لقد تعامل مع مفهوم «السعر العادل»، وهو -عادةً- سعر السلعة في السوق أو سعر منظَّم كافٍ لتغطية تكاليف البائع للإنتاج. واعتير أن من غير الأخلاقي أن يرفع البائعون أسعارَهم لمجردِ أن المشترين في حاجةٍ ماسّةٍ إلى المنتج.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 77|لغة=en}}</ref><ref>{{استشهاد مختصر|Durlauf|2008|ج=1|ص=100|لغة=en}}</ref>


=== النظام السياسي ===
=== النظام السياسي ===


أصبحت نظرية توما الإكويني عن النظام السياسي شديدة التأثير، فهو يرى الإنسانَ ككائنٍ اجتماعيٍّ يعيش في مجتمعٍ، ويتفاعل مع أعضائه الآخرين، وهذا يُفضي -من بين أمورٍ أخرى- إلى تقسيم العمل.
أصبحت نظرية توما الإكويني عن النظام السياسي شديدة التأثير، فهو يرى الإنسانَ كائناً اجتماعياً يعيش في مجتمعٍ، ويتفاعل مع أعضائه الآخرين، وهذا يُفضي -من بين أمورٍ أخرى- إلى تقسيم العمل.


وميّز الإكويني بين المرء الصالح والمواطن الصالح، وهي فضية مهمة لتطوير النظرية التحررية [أو الليبرالية]. أي إن حيّز الاستقلالية الفردية كان مجالاً لا يمكن للدولة أن تتدخل فيه.<ref>{{استشهاد مختصر|Hamowy|2008|ص=18|لغة=en}}</ref>
وميّز الإكويني بين المرء الصالح والمواطن الصالح، وهي فضية مهمة لتطوير النظرية التحررية [أو الليبرالية]. أي إن حيّز الاستقلالية الفردية كان مجالاً لا يمكن للدولة أن تتدخل فيه.<ref>{{استشهاد مختصر|Hamowy|2008|ص=18|لغة=en}}</ref>


واعتقد الإكويني أن المَلَكية هي أفضل شكلٍ من أشكال الحكومة، لأنه لا يتعين فيه على الملك أن يقدمَ تنازلاتٍ لأشخاصٍ آخرين، ومع ذلك فقد رأى النظام الملكي أفضلَ شكلٍ من أشكال الحكم بمعنىً محدودٍ للغاية وذلك فقط عندما يكون الملك فاضلاً؛ وإلا فهو الأسوأ إذا ما كان الملك شريراً. علاوةً على ذلك -وفقاً للإكويني- فإن [[الأوليغارشية]] يمكن أن تتدهورَ بسهولةٍ إلى الاستبداد أكثر من الملكية. وكما أنه لمنع الملك من أن يغدوَ طاغيةً يتوجب كبح سلطاته السياسية، فكذلك إذا لم يجرِ التوصل إلى اتفاقٍ (تسويةٍ) بين جميع الأشخاص المعنيين ينبغي التسامح مع الطاغية، وإلا فقد يتدهور الوضع السياسي إلى حالةٍ من الفوضى، والتي ستكون أسوأ من الاستبداد.<ref group="هامش">يرى الإكويني أنه لا مندوحة عن تسويةٍ ما بين أعضاء الطبقة الأوليغارشية (من النبلاء ومساعدي الملك وحاشيته) لحسن سير مؤسسة الحكم، ويتوجب التسامح مع إرادة الحاكم ورغباته عند فقدان هذه التسوية حرصاً على عدم انزلاق البلاد إلى الفوضى. كذلك فهو يرى نظرية "المستبد العادل" كأفضل شكلٍ من أشكال الحكم، ومع أنه يقف إلى جانب "تقليم أظافر" الحاكم لئلا يتحول إلى مستبدٍ، إلا أن رؤيتَه جليةٌ فيما يتعلق بالثورة على الطاغية، وتتلخص بالمبدأ الذي وُجد لدى فقهاء النظرية السياسية المسلمون فيما يتعلق بالخروج على الحاكم {الفتنة أشد من القتل}.</ref> في عمله السياسي «دي ريجنو» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''De Regno''}}}} أخضع الأكويني السلطة السياسية للملك لقائد القانونِ الإلهي والإنساني؛ للهِ الخالق. لقد أكد على سبيل المثال:
اعتقد الإكويني أن المَلَكيّةَ هي أفضل شكلٍ من أشكال الحكومة، لأنه لا يتعين فيه على الملك أن يقدمَ تنازلاتٍ لأشخاصٍ آخرين، ومع ذلك فقد رأى النظامَ الملكي أفضلَ شكلٍ من أشكال الحكم ولكن بمعنىً محدودٍ للغاية، وذلك فقط عندما يكون الملك فاضلاً؛ وإلا فهو الأسوأ إذا ما كان الملك شريراً. علاوةً على ذلك -وفقاً للإكويني- فإن [[حكم الأقلية|الأوليغارشية]] يمكن أن تتدهورَ بسهولةٍ إلى الاستبداد أكثرَ من الملكية. وكما أنه لمنع الملك من أن يغدوَ طاغيةً يتوجب كبح سلطاته السياسية، فكذلك إذا لم يجرِ التوصل إلى اتفاقٍ (تسويةٍ) بين جميع الأشخاص المعنيين فينبغي التسامح مع الطاغية [بمعنى القبول به]، وإلا فقد يتدهور الوضع السياسي إلى حالةٍ من الفوضى، والتي ستكون أسوأ من الاستبداد.<ref group="هامش">يرى الإكويني أنه لا مندوحة عن تسويةٍ ما بين أعضاء الطبقة الأوليغارشية (من النبلاء ومساعدي الملك وحاشيته) لحسن سير مؤسسة الحكم، ويتوجب التسامح مع إرادة الحاكم ورغباته عند فقدان هذه التسوية حرصاً على عدم انزلاق البلاد إلى الفوضى. كذلك فهو يرى نظرية "المستبد العادل" كأفضل شكلٍ من أشكال الحكم، ومع أنه يقف إلى جانب "تقليم أظافر" الحاكم لئلا يتحول إلى مستبدٍ، إلا أن نطرتَه جليةٌ فيما يتعلق بالثورة على الطاغية، وتتلخص بالمبدأ الذي وُجد لدى فقهاء النظرية السياسية المسلمون فيما يتعلق بالخروج على الحاكم {الفتنة أشد من القتل}.</ref> في عمله السياسي «دي ريجنو» {{لاتينية|{{اقتباس مضمن|''De Regno''}}}} أخضع الأكويني السلطة السياسية للملك لقائد القانونِ الإلهي والإنساني؛ أي للهِ الخالق. لقد أكد على سبيل المثال:
{{اقتباس|كما أن حكومة الملك هي الأفضل، كذلك فإن حكومة الطاغية هي الأسوأ.}}
{{اقتباس|كما أن حكومة الملك هي الأفضل، كذلك فإن حكومة الطاغية هي الأسوأ.}}
:- «دي ريجنو، الفصل 4، رقم 21» (باللغتين اللاتينية والإنجليزية).
:- «دي ريجنو، الفصل 4، رقم 21» (باللغتين اللاتينية والإنجليزية).
سطر 420: سطر 418:
:- «دي ريجنو، الفصل 2، رقم 15» (باللغتين اللاتينية والإنجليزية).
:- «دي ريجنو، الفصل 2، رقم 15» (باللغتين اللاتينية والإنجليزية).


الملوك، حسب الإكويني، هم ممثلو الله في أراضيهم، لكنَّ الكنيسة ممثلةً [[البابوية|بالباباوات]] أعلى من الملوك في مسائل العقيدة والأخلاق. نتيجةً لذلك يُلزَم الحكام الدنيويّون بتكييف قوانينهم مع عقائد [[الكنيسة الكاثوليكية]] وقراراتها.
الملوك -حسب الإكويني- هم ممثلو الله في أراضيهم، لكنَّ الكنيسة ممثلَةً [[بابوية كاثوليكية|بالباباوات]] أعلى من الملوك في مسائل العقيدة والأخلاق. نتيجةً لذلك يُلزَم الحكام الدنيويّون بتكييف قوانينهم مع عقائد [[الكنيسة الكاثوليكية]] وقراراتها.


واعتبر الإكويني أن الرقَّ ليس الحالةَ الطبيعيةَ للإنسان،<ref>{{استشهاد مختصر|Weithman|1992|ص=353-376|لغة=en}}</ref> وأكد أن العبد بطبيعته مساوٍ لسيده<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=III|نص= Supplementum, Question 5, Article 2|لغة=en}}</ref>، وميّز بين «العبودية الطبيعية» التي تفيد كلا السيد والعبد، و«العبودية الخَنوع» التي تزيل عن العبد كل استقلاليةٍ، وهي -بحسب الإكويني- أسوأ من الموت.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب  
واعتبر الإكويني أن الرقَّ ليس الحالةَ الطبيعيةَ للإنسان،<ref>{{استشهاد مختصر|Weithman|1992|ص=353-376|لغة=en}}</ref> وأكد أن العبد بطبيعته مساوٍ لسيده،<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=III|نص= Supplementum, Question 5, Article 2|لغة=en}}</ref> وميّز بين «العبودية الطبيعية» التي تفيد كلا السيد والعبد، و«العبودية الخَنوع» التي تزيل عن العبد كل استقلاليةٍ، وهي -بحسب الإكويني- أسوأ من الموت.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب  
| مسار= http://ldysinger.stjohnsem.edu/@texts2/1271_aquinas/08_aq_slavery-ST3.htm  
| مسار= http://ldysinger.stjohnsem.edu/@texts2/1271_aquinas/08_aq_slavery-ST3.htm  
| عنوان= Aquinas on Slavery  
| عنوان= Aquinas on Slavery  
سطر 429: سطر 427:
| تاريخ الوصول= 17-10-2023
| تاريخ الوصول= 17-10-2023
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210105224611/http://ldysinger.stjohnsem.edu/@texts2/1271_aquinas/08_aq_slavery-ST3.htm  
| مسار أرشيف= https://web.archive.org/web/20210105224611/http://ldysinger.stjohnsem.edu/@texts2/1271_aquinas/08_aq_slavery-ST3.htm  
| تاريخ أرشيف= 05-01-2021}}</ref> أما بشأن حق القتل في النظام الاستبدادي، والمساواة بين جميع أبناء الله المعمَّدين في «تناول القديسين»، فقد وضع حداً للسلطة السياسية لمنعها من الانحدار نحو الطغيان. نال هذا النظام اعتباراً لدى المعارضة [[البروتستانتية]] للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وفي الردود «اللامبالية» على [[التوماوية]] التي أتى بها [[باروخ سبينوزا|أسبينوزا]] و[[إيمانويل كانت|كانط]]،.
| تاريخ أرشيف= 05-01-2021}}</ref> أما بشأن حق القتل في النظام الاستبدادي، والمساواة بين جميع أبناء الله المعمَّدين في «تناول القديسين»، فقد وضع حداً للسلطة السياسية لمنعها من الانحدار نحو الطغيان. نال هذا النظام اعتباراً لدى المعارضة [[البروتستانتية]] للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وفي الردود «اللامبالية» على [[توماوية|التوماوية]] التي أتى بها [[باروخ سبينوزا|أسبينوزا]] [[إيمانويل كانط|وكانط]].


=== علم النفس ===
=== علم النفس ===
سطر 449: سطر 447:
تناول توما الإكويني معظم الأسئلة الاقتصادية في إطار العدالة، وهي التي يرى أنها أسمى الفضائل الأخلاقية.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 64, Article 4|لغة=en}}</ref> وهو يعرّف العدالة بأنها {{اقتباس مضمن|عادةٌ يُمنح الإنسان بموجبها حقَّه بإرادةٍ ثابتةٍ ودائمةٍ}}،<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 58, Article 1|لغة=en}}</ref> وجادل بأن لمفهوم العدالة هذا جذور في القانون الطبيعي. يخلص [[جوزيف شومبيتر]] في كتابه «تاريخ التحليل الاقتصادي» إلى القول: {{اقتباس مضمن|إن جميع الأسئلة الاقتصادية لو جُمِعت لهي أمور أقلَّ بالنسبة إليه من أصغر قضيةٍ في العقيدة اللاهوتية أو الفلسفية، وهو يتطرق إلى الظواهر الاقتصادية فقط عندما تثير أسئلةً في اللاهوت الأخلاقي}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Schumpeter|1955|ص=90|لغة=en}}</ref>
تناول توما الإكويني معظم الأسئلة الاقتصادية في إطار العدالة، وهي التي يرى أنها أسمى الفضائل الأخلاقية.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 64, Article 4|لغة=en}}</ref> وهو يعرّف العدالة بأنها {{اقتباس مضمن|عادةٌ يُمنح الإنسان بموجبها حقَّه بإرادةٍ ثابتةٍ ودائمةٍ}}،<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 58, Article 1|لغة=en}}</ref> وجادل بأن لمفهوم العدالة هذا جذور في القانون الطبيعي. يخلص [[جوزيف شومبيتر]] في كتابه «تاريخ التحليل الاقتصادي» إلى القول: {{اقتباس مضمن|إن جميع الأسئلة الاقتصادية لو جُمِعت لهي أمور أقلَّ بالنسبة إليه من أصغر قضيةٍ في العقيدة اللاهوتية أو الفلسفية، وهو يتطرق إلى الظواهر الاقتصادية فقط عندما تثير أسئلةً في اللاهوت الأخلاقي}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Schumpeter|1955|ص=90|لغة=en}}</ref>


إن وجهات النظر الغربية الحديثة بشأن [[الرأسمالية]]، وممارسات العمل غير العادلة، وأجر المعيشة (أو الحد الأدنى للأجور)، والتلاعب بالأسعار، والاحتكار، وممارسات التجارة العادلة، والتسعير المفترِس (أو اللصوصي) هي -من بين أمورٍ أخرى- بقايا غرس تفسير توما الأكويني للقانون الأخلاقي الطبيعي، على حدِّ تعبير مارسيا كوليش في كتابها «الأسس القُروسطية للتقليد الفكري الغربي».<ref>{{استشهاد مختصر|Colish|1997|ص=333-334|لغة=en}}</ref>
إن وجهات النظر الغربية الحديثة بشأن [[رأسمالية|الرأسمالية]]، وممارسات العمل غير العادلة، وأجر المعيشة (أو الحد الأدنى للأجور)، والتلاعب بالأسعار، والاحتكار، وممارسات التجارة العادلة، والتسعير المفترِس (أو اللصوصي) هي -من بين أمورٍ أخرى- بقايا غرس تفسير توما الأكويني للقانون الأخلاقي الطبيعي، على حدِّ تعبير مارسيا كوليش في كتابها «الأسس القُروسطية للتقليد الفكري الغربي».<ref>{{استشهاد مختصر|Colish|1997|ص=333-334|لغة=en}}</ref>


وتناول الإكويني السعرَ العادلَ، فكان حريصاً على التمييز بين السعر العادل أو الطبيعي لسلعةٍ ما عن ذاك الذي يَتلاعب به طرف آخر. وهو يحدد السعر العادل من خلال روائزَ عدةٍ؛ فأولاً على السعر العادل أن يتناسب مع قيمة السلعة مؤكداً أن سعر السلعة مقياس لجودتها: {{اقتباس مضمن|تُقاس جودة الشيء -الذي يدخل في نطاق الاستخدام البشري- بالسعر المعطى له}}،<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981||ج=II (1st part)|نص= Question 77, Article 1|لغة=en}}</ref> ومضى يقول إن سعر السلعة -مقيساً بقيمتها- يتحدد بمنفعتها للإنسان. هذه القيمة ذاتية لأن كل خيرٍ له سوية مختلفة من المنفعة لكل إنسانٍ. جادل توماس -إذن- بأن على السعر أن يعكس القيمة الحالية لمحتوىً جيدٍ تبعاً لمنفعته للإنسان، ويتابع: {{اقتباس مضمن|إن الذهب والفضة مكلّفان ليس فقط بسبب نفع الأواني وما شابه من الأشياء المصنوعة منهما، ولكن أيضاً بسبب تميز ونقاء جوهرهما}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 77, Article 2|لغة=en}}</ref>
وتناول الإكويني السعرَ العادلَ، فكان حريصاً على التمييز بين السعر العادل أو الطبيعي لسلعةٍ ما عن ذاك الذي يَتلاعب به طرف آخر. وهو يحدد السعر العادل من خلال روائزَ عدةٍ؛ فأولاً على السعر العادل أن يتناسب مع قيمة السلعة مؤكداً أن سعر السلعة مقياس لجودتها: {{اقتباس مضمن|تُقاس جودة الشيء -الذي يدخل في نطاق الاستخدام البشري- بالسعر المعطى له}}،<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981||ج=II (1st part)|نص= Question 77, Article 1|لغة=en}}</ref> ومضى يقول إن سعر السلعة -مقيساً بقيمتها- يتحدد بمنفعتها للإنسان. هذه القيمة ذاتية لأن كل خيرٍ له سوية مختلفة من المنفعة لكل إنسانٍ. جادل توماس -إذن- بأن على السعر أن يعكس القيمة الحالية لمحتوىً جيدٍ تبعاً لمنفعته للإنسان، ويتابع: {{اقتباس مضمن|إن الذهب والفضة مكلّفان ليس فقط بسبب نفع الأواني وما شابه من الأشياء المصنوعة منهما، ولكن أيضاً بسبب تميز ونقاء جوهرهما}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 77, Article 2|لغة=en}}</ref>
سطر 457: سطر 455:
== اللاهوت ==
== اللاهوت ==
{{أيضا|علم الكلام}}
{{أيضا|علم الكلام}}
 
{{شريط جانبي مسيحية}}
نظر توما الأكويني إلى اللاهوت، أو العقيدة المقدسة على أنها علم تتكون المواد الخام [المصادر] الخاصة به من الكتاب المقدس وتقاليد [أعراف] الكنيسة الكاثوليكية. نتجت مصادر البيانات هذه من خلال إعلان الله الذاتي للأفراد والجماعات عبر التاريخ، وعلى الرغم من اختلاف الإيمان والعقل إلا أنهما مرتبطان؛ وهما الأداتان الأساسيتان لمعالجة بيانات اللاهوت. يرى توماس أن كليهما ضروريان -أو بالأحرى أن التقاءَ الاثنين كان ضرورياً- لكي يحصلَ المرء على معرفةٍ حقيقيةٍ عن الله. مزج توماس الفلسفة اليونانية والعقيدة المسيحية من خلال الافتراض بأن التفكيرَ العقلانيَّ ودراسةَ الطبيعة -مثلُهما مثلُ الوحي- كانت طرقاً صحيحةً لفهم الحقائق المتعلقة بالله. ووفقاً للأكويني يكشف الله عن نفسه من خلال الطبيعة، لذا فدراسة الطبيعة تعني دراسة الله. تتمثل الأهداف النهائية للاهوت -في ذهن توما- في استعمال العقل لفهم حقيقة الله واختبار الخلاص من خلال تلك الحقيقة. الفكر المركزي هو {{اقتباس مضمن|الهبة غير المدفوعة بالطبيعة، والكمال}}، ({{اقتباس مضمن|النعمة لا تدمر الطبيعة، بل تُكملها}}).
نظر توما الأكويني إلى اللاهوت، أو العقيدة المقدسة على أنها علم تتكون المواد الخام [المصادر] الخاصة به من الكتاب المقدس وتقاليد [أعراف] الكنيسة الكاثوليكية. نتجت مصادر البيانات هذه من خلال إعلان الله الذاتي للأفراد والجماعات عبر التاريخ، وعلى الرغم من اختلاف الإيمان والعقل إلا أنهما مرتبطان؛ وهما الأداتان الأساسيتان لمعالجة بيانات اللاهوت. يرى توماس أن كليهما ضروريان -أو بالأحرى أن التقاءَ الاثنين كان ضرورياً- لكي يحصلَ المرء على معرفةٍ حقيقيةٍ عن الله. مزج توماس الفلسفة اليونانية والعقيدة المسيحية من خلال الافتراض بأن التفكيرَ العقلانيَّ ودراسةَ الطبيعة -مثلُهما مثلُ الوحي- كانت طرقاً صحيحةً لفهم الحقائق المتعلقة بالله. ووفقاً للأكويني يكشف الله عن نفسه من خلال الطبيعة، لذا فدراسة الطبيعة تعني دراسة الله. تتمثل الأهداف النهائية للاهوت -في ذهن توما- في استعمال العقل لفهم حقيقة الله واختبار الخلاص من خلال تلك الحقيقة. الفكر المركزي هو {{اقتباس مضمن|الهبة غير المدفوعة بالطبيعة، والكمال}}، ({{اقتباس مضمن|النعمة لا تدمر الطبيعة، بل تُكملها}}).


سطر 464: سطر 462:
يعتقد الأكويني أن الحقيقة تُعرف بالعقل والعقلانية (الوحي الطبيعي)، وبالإيمان (الوحي فوق الطبيعي). ينبع الوحي فوق الطبيعي من وحي «الروح القُدُس»<ref group="إنج">Holy Spirit</ref> ويتاح من خلال تعاليم الأنبياء ملخصةً في الكتاب المقدس، وتُنقل بواسطة «السلطة التعليمية»<ref group="إنج">Magisterium</ref> ،<ref group="هامش">"السلطة التعليمية" {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Magisterium''}}}} للكنيسة الرومانية الكاثوليكية هي السلطة التي تدّعي الكنيسة أنها تُقدم تفسيراً صحيحاً لكلمة الله {{اقتباس مضمن|سواءً في شكلها المكتوب أو في شكل تقليد}}. ووفقاً للتعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Catechism of the Catholic Church''}}}} للعام 1992م (الذي أقره البابا [[جان بول الثاني]]) فقد أنيطت مهمة التفسير بشكلٍ فريدٍ بالبابا والأساقفة، مع أن للمفهوم تاريخاً معقداً من التطور. إن الكتاب المقدس والتقليد {{اقتباس مضمن|يشكلان وديعةً مقدسةً واحدةً لكلمة الله التي وُكّلت إلى الكنيسة}}، و"السلطة التعليمية" غير مستقلةٍ عن هذا طالما أن {{اقتباس مضمن|كل ما تقترحه للاعتقاد بأنه وحيٌ إلهيٌّ موجودٌ هو مشتقٌّ من وديعة الإيمان الوحيدة هذه}}.</ref> وهو المجموع الذي يُطلق عليه اسم «التقليد» أو «العُرف».<ref group="إنج">Tradition</ref> الوحي الطبيعي هو الحقيقة المتاحة لجميع الناس من خلال طبيعتهم البشرية وقوى العقل. ولقد شعر توماس -على سبيل المثال- أن هذا ينطبق على الطرق العقلانية لمعرفة وجود الله.
يعتقد الأكويني أن الحقيقة تُعرف بالعقل والعقلانية (الوحي الطبيعي)، وبالإيمان (الوحي فوق الطبيعي). ينبع الوحي فوق الطبيعي من وحي «الروح القُدُس»<ref group="إنج">Holy Spirit</ref> ويتاح من خلال تعاليم الأنبياء ملخصةً في الكتاب المقدس، وتُنقل بواسطة «السلطة التعليمية»<ref group="إنج">Magisterium</ref> ،<ref group="هامش">"السلطة التعليمية" {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Magisterium''}}}} للكنيسة الرومانية الكاثوليكية هي السلطة التي تدّعي الكنيسة أنها تُقدم تفسيراً صحيحاً لكلمة الله {{اقتباس مضمن|سواءً في شكلها المكتوب أو في شكل تقليد}}. ووفقاً للتعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Catechism of the Catholic Church''}}}} للعام 1992م (الذي أقره البابا [[جان بول الثاني]]) فقد أنيطت مهمة التفسير بشكلٍ فريدٍ بالبابا والأساقفة، مع أن للمفهوم تاريخاً معقداً من التطور. إن الكتاب المقدس والتقليد {{اقتباس مضمن|يشكلان وديعةً مقدسةً واحدةً لكلمة الله التي وُكّلت إلى الكنيسة}}، و"السلطة التعليمية" غير مستقلةٍ عن هذا طالما أن {{اقتباس مضمن|كل ما تقترحه للاعتقاد بأنه وحيٌ إلهيٌّ موجودٌ هو مشتقٌّ من وديعة الإيمان الوحيدة هذه}}.</ref> وهو المجموع الذي يُطلق عليه اسم «التقليد» أو «العُرف».<ref group="إنج">Tradition</ref> الوحي الطبيعي هو الحقيقة المتاحة لجميع الناس من خلال طبيعتهم البشرية وقوى العقل. ولقد شعر توماس -على سبيل المثال- أن هذا ينطبق على الطرق العقلانية لمعرفة وجود الله.


ومع أنه يمكن للمرء أن يستنتج وجودَ الله وصفاتِه (الوحدة، والحقيقة، والخير، والقوة، والمعرفة) من خلال العقل، فإن بعض التفاصيل المحددة قد لا تُعرف إلا من خلال الوحي الخاص من الله عبر [[يسوع المسيح]]، فالمكونات اللاهوتية الرئيسية للنصرانية مثل الثالوث<ref group="إنج">Trinity</ref>، والتجسد<ref group="إنج">Incarnation</ref>، والمحبة<ref group="إنج" name="مولد تلقائيا9" /> يُكشف عنِها في تعاليم الكنيسة والكتب المقدسة ولربما لا يمكن استنباطها بطريقةٍ أخرى.<ref>{{استشهاد مختصر|Meister2013|ص=134–135|لغة=en}}</ref>
ومع أنه يمكن للمرء أن يستنتج وجودَ الله وصفاتِه (الوحدة، والحقيقة، والخير، والقوة، والمعرفة) من خلال العقل، فإن بعض التفاصيل المحددة قد لا تُعرف إلا من خلال الوحي الخاص من الله عبر [[يسوع|يسوع المسيح]]، فالمكونات اللاهوتية الرئيسية للنصرانية مثل الثالوث<ref group="إنج">Trinity</ref>، والتجسد<ref group="إنج">Incarnation</ref>، والمحبة<ref group="إنج" name="مولد تلقائيا9" /> يُكشف عنِها في تعاليم الكنيسة والكتب المقدسة ولربما لا يمكن استنباطها بطريقةٍ أخرى.<ref>{{استشهاد مختصر|Meister2013|ص=134–135|لغة=en}}</ref>


=== الحفاظ على الطبيعة في النعمة ===
=== الحفاظ على الطبيعة في النعمة ===


المعرفة الموحى بها لا تنفي حقيقة وكمال العلم الإنساني كإنسان، بل أكثر من ذلك هي ترسخهما.
المعرفة الموحى بها لا تنفي حقيقة وكمال العلم الإنساني كإنسان، بل أكثر من ذلك هي ترسخهما.
<br/>إنها -أولاً- تعترف بأن الأشياء نفسها يمكن أن تعالجَ من منظوريْن مختلفين من دون أن يلغيَ أحدُهما الآخر، ومن ثَمَّ يمكن أن يكون هناك عِلْمان من علوم الله.
<br/>إنها -أولاً- تعترف بأن الأشياء نفسها يمكن أن تعالجَ من منظوريْن مختلفين من دون أن يلغيَ أحدُهما الآخر، ومن ثَمَّ يمكن أن يكون هناك عِلْمان من علوم الله.<br/>ثانياً إنها [أي المعرفة الموحى بها] توفر أساساً لكلا العِلْمين؛ وظيفة واحدة من خلال قوة نور العقل الطبيعي، والأخرى من خلال نور الوحي الإلهي. علاوةً على ذلك يمكن لكلا العلمين -إلى حدٍّ ما على الأقل- الابتعاد عن بعضهما بعضاً لأنهما إنما يختلفان «حسب الجنس»، فالعقيدة المقدسة نوع من مسألةٍ مختلفةٍ جوهرياً عن اللاهوت الذي هو جزء من الفلسفة (الخلاصة اللاهوتية (''ST''): I. 1.1 ad 2).
<br/>ثانياً إنها [أي المعرفة الموحى بها] توفر أساساً لكلا العِلْمين؛ وظيفة واحدة من خلال قوة نور العقل الطبيعي، والأخرى من خلال نور الوحي الإلهي. علاوةً على ذلك يمكن لكلا العلمين -إلى حدٍّ ما على الأقل- الابتعاد عن بعضهما بعضاً لأنهما إنما يختلفان «حسب الجنس»، فالعقيدة المقدسة نوع من مسألةٍ مختلفةٍ جوهرياً عن اللاهوت الذي هو جزء من الفلسفة (الخلاصة اللاهوتية (''ST''): I. 1.1 ad 2).


الإيمان والعقل يكملان بعضهما بعضاً بدلاً من التناقض بينهما حيث يقدم كل منهما وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ عن الحقيقة نفسها.
الإيمان والعقل يكملان بعضهما بعضاً بدلاً من التناقض بينهما حيث يقدم كل منهما وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ عن الحقيقة نفسها.
سطر 520: سطر 517:
* يجب أن تكون الاستجابة متناسبةً مع الشر؛ فالمزيد من العنف أكثر مما هو ضروري للغاية سيكون غير عادلٍ.
* يجب أن تكون الاستجابة متناسبةً مع الشر؛ فالمزيد من العنف أكثر مما هو ضروري للغاية سيكون غير عادلٍ.
* تعلن السلطات الحاكمة الحربَ، لكن قرارَها ليس سبباً كافياً لبدء الحرب، فإذا كان الناس يعارضون الحرب فهي غير شرعية. من حق الشعب أن يودع حكومة تشن حربا ظالمة أو على وشك شنها.
* تعلن السلطات الحاكمة الحربَ، لكن قرارَها ليس سبباً كافياً لبدء الحرب، فإذا كان الناس يعارضون الحرب فهي غير شرعية. من حق الشعب أن يودع حكومة تشن حربا ظالمة أو على وشك شنها.
* بمجرد أن تبدأ الحرب ، لا تزال هناك حدود أخلاقية للعمل. على سبيل المثال ، لا يجوز مهاجمة الأبرياء أو قتل الرهائن.
* بمجرد أن تبدأ الحرب، لا تزال هناك حدود أخلاقية للعمل. على سبيل المثال، لا يجوز مهاجمة الأبرياء أو قتل الرهائن.
* يجب على المتحاربين استنفاد جميع خيارات الحوار والمفاوضات قبل شن الحرب؛ الحرب مشروعة فقط كملاذٍ أخيرٍ.
* يجب على المتحاربين استنفاد جميع خيارات الحوار والمفاوضات قبل شن الحرب؛ الحرب مشروعة فقط كملاذٍ أخيرٍ.
* وبموجب هذه العقيدة فإن الحروب التوسعية، وحروب النهب، والحروب لتحويل [[كفر|الكفار]] أو [[وثنية|الوثنيين]]، والحروب من أجل المجد، كلها ظالمة بطبيعتها.
* وبموجب هذه العقيدة فإن الحروب التوسعية، وحروب النهب، والحروب لتحويل [[كافر|الكفار]] أو [[وثنية|الوثنيين]]، والحروب من أجل المجد، كلها ظالمة بطبيعتها.


=== طبيعة الألوهية ===
=== طبيعة الألوهية ===


[[ملف:Benozzo Gozzoli - Triumph of St Thomas Aquinas - WGA10334.jpg|تصغير|يسار|225 بك|upright=0.7|'''انتصار القديس توما الأكويني'''<br/>«دكتور كومونيس» {{اقتباس مضمن|''Doctor Communis''}} [الأكويني] بين أفلاطون وأرسطو، وربما كان المعمَّمُ المتمدِّدُ تحتهم تصويراً للفيلسوف [[ابن رشد]] الحفيد. لوحة بريشة [[بينوزو غوزولي]] عام 1471.<br/>متحف [[اللوفر|اللوڤر]] - [[باريس|پاريس]].]]
[[ملف:Benozzo Gozzoli - Triumph of St Thomas Aquinas - WGA10334.jpg|تصغير|يسار|225 بك|upright=0.7|'''انتصار القديس توما الأكويني'''<br/>«دكتور كومونيس» {{اقتباس مضمن|''Doctor Communis''}} [الأكويني] بين أفلاطون وأرسطو، وربما كان المعمَّمُ المتمدِّدُ تحتهم تصويراً للفيلسوف [[ابن رشد]] الحفيد. لوحة بريشة {{وإو|بينوزو غوزولي|Benozzo Gozzoli|en}} عام 1471.<br/> [[متحف اللوفر]] - [[باريس|پاريس]].]]


يعتقد الأكويني أن وجود الله أمر بدهيٌّ في حد ذاته، ولكن ليس بالنسبة إلينا. {{اقتباس مضمن|... لذلك أقول إن هذا الافتراض "الله موجود" -في ذاته- بدهي، لأن المحمولَ<ref group="إنج">Predicate</ref> [أو المُسنَد]<ref group="هامش">يشير الإسناد {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Predication''}}}} في الفلسفة إلى فعلٍ من أفعال الحكم (علاقة في الذهن) حيث يندرج مصطلح تحت مصطلحٍ آخر. يصفه التصور المفاهيمي الشامل بأنه فهم للعلاقة التي يتم التعبير عنها بواسطة بنيةٍ تنبؤيةٍ بشكلٍ أساسيٍّ (أي في الأصل وفي المقام الأول) من خلال التعارض بين الخاص والعام أو الواحد والمتعدد. في المنطق يُدعيان الموضوع [[محمول (منطق)|والمحمول]]. مثال: "الإنسان حيوان ناطق"، فالإنسان هو الموضوع، والحيوان الناطق محمولٌ على ذات الإنسان.<br/>
يعتقد الأكويني أن وجود الله أمر بدهيٌّ في حد ذاته، ولكن ليس بالنسبة إلينا. {{اقتباس مضمن|... لذلك أقول إن هذا الافتراض "الله موجود" -في ذاته- بدهي، لأن المحمولَ<ref group="إنج">Predicate</ref> [أو المُسنَد]<ref group="هامش">يشير الإسناد {{إنج|{{اقتباس مضمن|''Predication''}}}} في الفلسفة إلى فعلٍ من أفعال الحكم (علاقة في الذهن) حيث يندرج مصطلح تحت مصطلحٍ آخر. يصفه التصور المفاهيمي الشامل بأنه فهم للعلاقة التي يتم التعبير عنها بواسطة بنيةٍ تنبؤيةٍ بشكلٍ أساسيٍّ (أي في الأصل وفي المقام الأول) من خلال التعارض بين الخاص والعام أو الواحد والمتعدد. في المنطق يُدعيان الموضوع [[محمول (منطق)|والمحمول]]. مثال: "الإنسان حيوان ناطق"، فالإنسان هو الموضوع، والحيوان الناطق محمولٌ على ذات الإنسان.<br/>
سطر 547: سطر 544:
#'''وجود ما هو ضروري وغير ضروري''': تتضمن تجربتنا أشياءً موجودةً بالتأكيد، ولكنها غيرُ ضروريةٍ بحسب الظاهر. لا يمكن أن يكون كل شيءٍ غيرَ ضروريٍّ، لأنه [سيؤدي لافتراض] في وقتٍ ما لم يكُ ثمة شيء ولن يكون ثمة شيء، وعليه فنحن مضطرون إلى افتراض وجود شيءٍ بالضرورة، وهذه الضرورة -التي من تلقاء نفسها- هي في الواقع السبب في وجود أشياءٍ أخر، يطلق على هذه الحجة «'''حجة الوجود'''».
#'''وجود ما هو ضروري وغير ضروري''': تتضمن تجربتنا أشياءً موجودةً بالتأكيد، ولكنها غيرُ ضروريةٍ بحسب الظاهر. لا يمكن أن يكون كل شيءٍ غيرَ ضروريٍّ، لأنه [سيؤدي لافتراض] في وقتٍ ما لم يكُ ثمة شيء ولن يكون ثمة شيء، وعليه فنحن مضطرون إلى افتراض وجود شيءٍ بالضرورة، وهذه الضرورة -التي من تلقاء نفسها- هي في الواقع السبب في وجود أشياءٍ أخر، يطلق على هذه الحجة «'''حجة الوجود'''».
#'''التدرج''': إذا استطعنا ملاحظة تدرجٍ في الأشياء بمعنى أن بعض الأشياء أكثرُ سخونةً وبعضها أكثر جودةً وما إلى ذلك، فلا بد أن تكون هناك صيغة تفضيلٍ تمثل الشيء الأصدق والأنبل، وبناءً عليه فهي موجودة تماماً. هذا [المفهوم] إذن هو ما ندعوه «الله»، يطلق على هذه الحجة «'''حجة الأفضلية المقارَنة'''».
#'''التدرج''': إذا استطعنا ملاحظة تدرجٍ في الأشياء بمعنى أن بعض الأشياء أكثرُ سخونةً وبعضها أكثر جودةً وما إلى ذلك، فلا بد أن تكون هناك صيغة تفضيلٍ تمثل الشيء الأصدق والأنبل، وبناءً عليه فهي موجودة تماماً. هذا [المفهوم] إذن هو ما ندعوه «الله»، يطلق على هذه الحجة «'''حجة الأفضلية المقارَنة'''».
#'''الميول المنظِّمة للطبيعة''': يُلاحَظ توجه الأفعال (الإجراءات) جمعاء نحو هدفٍ ما وذلك في الأجرام بأسرها التي تتَّبع القوانين الطبيعية، وأيُّما جرمٍ لايمتلك وعياً [ذاتياً] فإنه يتجه نحو غايةٍ ما تحت إشراف جرمٍ واعٍ. هذا [المفهوم] هو ما نسميه «الله»، يطلق على هذه الحجة «'''العلة الغائية'''».<ref name="مولد تلقائيا8" /><ref group="هامش">"[[الحجة الغائية|العلة الغائية]]" تعني ببساطةٍ الوظيفة التي يقوم الجَرْم بها، أو الغاية التي وُجد من أجلها.</ref> ويراها برتراند رسل قريبة الشبه كثيراً من البرهان الثاني.<ref name="م8" group="عر"/>
#'''الميول المنظِّمة للطبيعة''': يُلاحَظ توجه الأفعال (الإجراءات) جمعاء نحو هدفٍ ما وذلك في الأجرام بأسرها التي تتَّبع القوانين الطبيعية، وأيُّما جرمٍ لا يمتلك وعياً [ذاتياً] فإنه يتجه نحو غايةٍ ما تحت إشراف جرمٍ واعٍ. هذا [المفهوم] هو ما نسميه «الله»، يطلق على هذه الحجة «'''العلة الغائية'''».<ref name="مولد تلقائيا8" /><ref group="هامش">"[[الحجة الغائية|العلة الغائية]]" تعني ببساطةٍ الوظيفة التي يقوم الجَرْم بها، أو الغاية التي وُجد من أجلها.</ref> ويراها برتراند رسل قريبة الشبه كثيراً من البرهان الثاني.<ref name="م8" group="عر"/>


كان الأكويني مقتنعاً ومتأثراً بما يسمى «الإثبات الحقيقي»<ref group="إنج">Proof of the Truthful</ref>؛ الحجة التي كان [[ابن سينا]] (370-427هـ / 980-1037م) أولَ من أتى بها، والتي تُعرف في الفلسفة الإسلامية باسم «[[برهان الصديقين|برهان الصِدِّيقين]]»،<ref group="هامش">يتلخص [[برهان الصديقين|برهان الصِدِّيقين]] بأن الممكناتِ بأسرها تحتاج في وجودها إلى موجِدٍ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من جرمٍ آخرَ لا يحتاج في وجوده إلى موجِدٍ، ثم يبرهن ابن سينا أن هذا الموجِدَ منه يبدأ الوجود والعدم للموجودات الأخرى جمعاءَ، والتي هي موجودات نسبية (عند وسمها بصفة الوجود، لأن وجودَها خارج عنها غير قائمٍ بذاتها).</ref> وفيما يتعلق بطبيعة الله شعر الأكويني -مثلُ ابنِ سينا- أن أفضل منهجٍ هو اعتبار ما ليس الله عليه، أو ما يُطلق عليه عموماً البرهان «عن طريق النفي»،<ref group="لات">via negativa</ref><ref group="هامش">في [[علم الكلام]] الإسلامي "الصفات السلبية" تدل على ما ليست الذات الإلهية عليه. يذكر [[محمد بن أحمد السفاريني|الإمام السفاريني]] الحنبلي في كتابه "لوامع الأنوار": {{اقتباس مضمن|والصفات السلبية ما [كان] مدلولُها عدمُ أمرٍ لا يليق به تعالى، فقِدَمُه -تعالى- ذاتيٌّ واجبٌ له -تعالى- غيرُ مسبوقٍ بعدمٍ، إذ هو -تعالى- لا ابتداءَ لوجوده}}. أي صفة "القدم" بمعنى عدم الابتداء. انظر: "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" للسفاريني.</ref> ولسوف يقوده ذلك إلى اقتراح خمس عباراتٍ عن الصفات الإلهية:
كان الأكويني مقتنعاً ومتأثراً بما يسمى «الإثبات الحقيقي»<ref group="إنج">Proof of the Truthful</ref>؛ الحجة التي كان [[ابن سينا]] (370-427هـ / 980-1037م) أولَ من أتى بها، والتي تُعرف في الفلسفة الإسلامية باسم «[[برهان الصديقين|برهان الصِدِّيقين]]»،<ref group="هامش">يتلخص [[برهان الصديقين|برهان الصِدِّيقين]] بأن الممكناتِ بأسرها تحتاج في وجودها إلى موجِدٍ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من جرمٍ آخرَ لا يحتاج في وجوده إلى موجِدٍ، ثم يبرهن ابن سينا أن هذا الموجِدَ منه يبدأ الوجود والعدم للموجودات الأخرى جمعاءَ، والتي هي موجودات نسبية (عند وسمها بصفة الوجود، لأن وجودَها خارج عنها غير قائمٍ بذاتها).</ref> وفيما يتعلق بطبيعة الله شعر الأكويني -مثلُ ابنِ سينا- أن أفضل منهجٍ هو اعتبار ما ليس الله عليه، أو ما يُطلق عليه عموماً البرهان «عن طريق النفي»،<ref group="لات">via negativa</ref><ref group="هامش">في [[علم الكلام]] الإسلامي "الصفات السلبية" تدل على ما ليست الذات الإلهية عليه. يذكر [[محمد بن أحمد السفاريني|الإمام السفاريني]] الحنبلي في كتابه "لوامع الأنوار": {{اقتباس مضمن|والصفات السلبية ما [كان] مدلولُها عدمُ أمرٍ لا يليق به تعالى، فقِدَمُه -تعالى- ذاتيٌّ واجبٌ له -تعالى- غيرُ مسبوقٍ بعدمٍ، إذ هو -تعالى- لا ابتداءَ لوجوده}}. أي صفة "القدم" بمعنى عدم الابتداء. انظر: "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" للسفاريني.</ref> ولسوف يقوده ذلك إلى اقتراح خمس عباراتٍ عن الصفات الإلهية:
سطر 583: سطر 580:
أعطى أوطيخا تعريفاً مختلفاً للتجسد، فقد آمن بطبيعتين للمسيح قبل التجسد (ربما يكون شايع أوريجنس الإسكندري في نظرية الوجود الأزلي للأرواح)، إلا أنه لم يعترف سوى بطبيعةٍ وحيدةٍ له بعد التجسد معتقداً أن اللاهوت قد امتص الناسوت الذي ذاب في اللاهوت مثلما تذوب نقطة الخل في محيطٍ من الماء.</ref> وذكر أن هاتين الطبيعتين موجودتان في وقتٍ واحدٍ، ولكن يمكن تمييزهما في جسدٍ بشريٍّ حقيقيٍّ واحدٍ على العكس من تعاليم «مانيكايوس»<ref group="لات">Manichaeus</ref>، و«ڤالنتينوس».<ref group="لات">Valentinus</ref>
أعطى أوطيخا تعريفاً مختلفاً للتجسد، فقد آمن بطبيعتين للمسيح قبل التجسد (ربما يكون شايع أوريجنس الإسكندري في نظرية الوجود الأزلي للأرواح)، إلا أنه لم يعترف سوى بطبيعةٍ وحيدةٍ له بعد التجسد معتقداً أن اللاهوت قد امتص الناسوت الذي ذاب في اللاهوت مثلما تذوب نقطة الخل في محيطٍ من الماء.</ref> وذكر أن هاتين الطبيعتين موجودتان في وقتٍ واحدٍ، ولكن يمكن تمييزهما في جسدٍ بشريٍّ حقيقيٍّ واحدٍ على العكس من تعاليم «مانيكايوس»<ref group="لات">Manichaeus</ref>، و«ڤالنتينوس».<ref group="لات">Valentinus</ref>


وحول تأكيد [[بولس]] أن المسيح {{اقتباس مضمن|على الرغم من أنه كان في صورة الله... أفرغ نفسه}} (فيلبي 2: 6-7) في أن يصبح إنساناً. قدم الأكويني صيغةً للتكوين الإلهي الذي كثيراً ما أُخْبِرَ به في اللاهوت الكاثوليكي اللاحق. متبعاً [[مجمع نيقية]] علاوةً على تأكيدات الكتاب المقدس حمل توماس مثل [[أوغسطينوس]] عقيدة الثبات الإلهي.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
وحول تأكيد [[بولس]] أن المسيح {{اقتباس مضمن|على الرغم من أنه كان في صورة الله... أفرغ نفسه}} (فيلبي 2: 6-7) في أن يصبح إنساناً. قدم الأكويني صيغةً للتكوين الإلهي الذي كثيراً ما أُخْبِرَ به في اللاهوت الكاثوليكي اللاحق. متبعاً [[مجمع نيقية الأول|مجمع نيقية]] علاوةً على تأكيدات الكتاب المقدس حمل توماس مثل [[أوغسطينوس]] عقيدة الثبات الإلهي.<ref group="وب-إنج">{{استشهاد ويب
| مسار= https://www.papalencyclicals.net/councils/ecum01.htm  
| مسار= https://www.papalencyclicals.net/councils/ecum01.htm  
| عنوان= First Council of Nicaea – 325 AD  
| عنوان= First Council of Nicaea – 325 AD  
سطر 619: سطر 616:
{{اقتباس|فيما يتعلق بالزنادقة تجب مراعاة نقطتين: الأولى من جانبهم؛ والأخرى من جانب الكنيسة، فمن جهتهم هناك الخطيئة؛ التي بموجبها لا يستحقون الانفصال عن الكنيسة بالحرمان الكنسي فحسب، بل -كذلك- الانفصال عن العالم بالموت، لأنه أخطر بكثيرٍ أن تفسد العقيدة التي تُقوّي الروح من أن تزوّرَ المال الذي يدعم الحياة الزمنية. لذلك إذا حكمتِ السلطة العلمانية على مزوري المال وغيرهم من الأشرار على الفور بالإعدام، فهناك سبب أكبر بكثيرٍ للزنادقة حالما يُدانون بالهرطقة، ليس فقط للحرمان الكنسي بل حتى إلى الموت. على كلٍّ من جانب الكنيسة ثمة رحمة تتطلع إلى اهتداء التائه، ولذلك فهي لا تدين في الحال، بل "بعد التحذير الأول والثاني". كما يوجه الرسول: "بعد ذلك إذا كان ما يزال عنيداً، ولم تعد الكنيسة تأمل في اهتدائه، وتتطلع إلى خلاص الآخرين عن طريق حرمانه وفصله من الكنيسة، وأكثر من ذاك تُسلمه إلى المحكمة العلمانية لكي يُجتثَّ بواسطتها من العالم بالموت.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 11, Article 3|لغة=en}}</ref></blockquote>}}
{{اقتباس|فيما يتعلق بالزنادقة تجب مراعاة نقطتين: الأولى من جانبهم؛ والأخرى من جانب الكنيسة، فمن جهتهم هناك الخطيئة؛ التي بموجبها لا يستحقون الانفصال عن الكنيسة بالحرمان الكنسي فحسب، بل -كذلك- الانفصال عن العالم بالموت، لأنه أخطر بكثيرٍ أن تفسد العقيدة التي تُقوّي الروح من أن تزوّرَ المال الذي يدعم الحياة الزمنية. لذلك إذا حكمتِ السلطة العلمانية على مزوري المال وغيرهم من الأشرار على الفور بالإعدام، فهناك سبب أكبر بكثيرٍ للزنادقة حالما يُدانون بالهرطقة، ليس فقط للحرمان الكنسي بل حتى إلى الموت. على كلٍّ من جانب الكنيسة ثمة رحمة تتطلع إلى اهتداء التائه، ولذلك فهي لا تدين في الحال، بل "بعد التحذير الأول والثاني". كما يوجه الرسول: "بعد ذلك إذا كان ما يزال عنيداً، ولم تعد الكنيسة تأمل في اهتدائه، وتتطلع إلى خلاص الآخرين عن طريق حرمانه وفصله من الكنيسة، وأكثر من ذاك تُسلمه إلى المحكمة العلمانية لكي يُجتثَّ بواسطتها من العالم بالموت.<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=II (1st part)|نص= Question 11, Article 3|لغة=en}}</ref></blockquote>}}


كانت البدعة جريمةً كبرى ضد القانون العلماني في معظم الدول الأوروبية في [[القرن الثالث عشر]]. فالملوك والأباطرة -حتى أولئك الذين يحاربون البابوية- أدرجوا البدعة في المرتبة الأولى بين الجرائم ضد الدولة. طالب الملوك بالسلطة من الله وفقاً للعقيدة المسيحية. وفي كثيرٍ من الأحيان -ولا سيما في ذاك العصر من المطالبات البابوية بالسلطة الكونية العالمية- كانت سلطة الحكام مشروعةً بشكلٍ ملموسٍ ومرئيٍّ مباشرةً من خلال التتويج من قبل البابا.
كانت البدعة جريمةً كبرى ضد القانون العلماني في معظم الدول الأوروبية في [[القرن 13|القرن الثالث عشر]]. فالملوك والأباطرة -حتى أولئك الذين يحاربون البابوية- أدرجوا البدعة في المرتبة الأولى بين الجرائم ضد الدولة. طالب الملوك بالسلطة من الله وفقاً للعقيدة المسيحية. وفي كثيرٍ من الأحيان -ولا سيما في ذاك العصر من المطالبات البابوية بالسلطة الكونية العالمية- كانت سلطة الحكام مشروعةً بشكلٍ ملموسٍ ومرئيٍّ مباشرةً من خلال التتويج من قبل البابا.


السرقة البسيطة والتزوير والاحتيال وغيرها من الجرائم المماثلة تُعد كذلك جرائمَ كبيرةً؛ ولكن يبدو أن نقطة توماس تكمن في أن خطورة هذه الجريمة -التي لا تمس السلع المادية فقط وإنما أيضاً السلع الروحية للآخرين- أنها على الأقل مثل التزوير. يُطالب اقتراح توماس -على وجه التحديد- بتسليم الزنادقة إلى «محكمةٍ علمانيةٍ» بدلاً من سلطةٍ قضائيةٍ. إن قول الأكويني تحديداً: "الهراطقة {{اقتباس مضمن|يستحقون ... الموت}}" مرتبط بعلمه اللاهوتي، والذي بموجبه ليس للخطاة أجمعين حقٌّ جوهريٌّ في الحياة، ({{اقتباس مضمن|لأن أجرة الإثم هي الموت؛ ولكن هبة الله المجانية هي الحياة الأبدية في المسيح يسوع}})(رومية 6:23])، وإذا كان يلزم إنقاذ حياة الزنديق التائب، إلا أنه يجب إعدام الزنديق الآبق إذا ما ارتد إلى البدعة. يوضح توماس رأيه بخصوص البدعة في المقولة التالية عندما يقول:
السرقة البسيطة والتزوير والاحتيال وغيرها من الجرائم المماثلة تُعد كذلك جرائمَ كبيرةً؛ ولكن يبدو أن نقطة توماس تكمن في أن خطورة هذه الجريمة -التي لا تمس السلع المادية فقط وإنما أيضاً السلع الروحية للآخرين- أنها على الأقل مثل التزوير. يُطالب اقتراح توماس -على وجه التحديد- بتسليم الزنادقة إلى «محكمةٍ علمانيةٍ» بدلاً من سلطةٍ قضائيةٍ. إن قول الأكويني تحديداً: "الهراطقة {{اقتباس مضمن|يستحقون ... الموت}}" مرتبط بعلمه اللاهوتي، والذي بموجبه ليس للخطاة أجمعين حقٌّ جوهريٌّ في الحياة، ({{اقتباس مضمن|لأن أجرة الإثم هي الموت؛ ولكن هبة الله المجانية هي الحياة الأبدية في المسيح يسوع}})(رومية 6:23])، وإذا كان يلزم إنقاذ حياة الزنديق التائب، إلا أنه يجب إعدام الزنديق الآبق إذا ما ارتد إلى البدعة. يوضح توماس رأيه بخصوص البدعة في المقولة التالية عندما يقول:
سطر 649: سطر 646:
ورد ذكر السحر في [[الخلاصة اللاهوتية]]<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=Sup. 3|نص= Question 38, Article 2|لغة=en}}</ref> وفيها يخلص إلى أن الكنيسة لا تعالج العجزَ الجنسيَ المؤقتَ أو الدائمَ المنسوبَ لتعويذةٍ ما بطريقةٍ مختلفةٍ عن تلك الناجمة عن الأسباب الطبيعية، بقدر ما تكون عائقاً أمام الزواج.
ورد ذكر السحر في [[الخلاصة اللاهوتية]]<ref>{{استشهاد مختصر|Aquinas|1981|ج=Sup. 3|نص= Question 38, Article 2|لغة=en}}</ref> وفيها يخلص إلى أن الكنيسة لا تعالج العجزَ الجنسيَ المؤقتَ أو الدائمَ المنسوبَ لتعويذةٍ ما بطريقةٍ مختلفةٍ عن تلك الناجمة عن الأسباب الطبيعية، بقدر ما تكون عائقاً أمام الزواج.


اعتبرت عقيدة الكنيسة -بموجب القانون الأسقفي- أن [[السحر]] غير ممكنٍ، وأن أي ممارسٍين للشعوذة قد جرى خداعهم، وأن أعمالهم وهْم. كان لتوما الأكويني دور فعال في تطوير عقيدةٍ جديدةٍ تضمنتِ الإيمان بقوةٍ حقيقيةٍ للسحرة، وكان هذا خروجاً على تعاليم أستاذه [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرتوس ماغنوس]] الذي كان يرى ما ذهب إليه القانون الأسقفي.<ref name= Burr17374>{{استشهاد مختصر|Burr|1890|ص=37-66|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">في تلك الفترة من تاريخ الكنيسة لم يك يُنظر إلى السحر على أنه هرطقة بطبيعته، بل نتاج للخرافة والمعتقدات الخاطئة، وفي سبتمبر/أيلول 1258 قرر البابا ألكسندر الرابع (حبريته 54-1261) أن الجهة المختصة بالتحقيق في تهم العرافة والشعوذة هي السلطات المحلية (السلطة الزمنية) وليس المحققون الكنسيون (السلطة الروحية) [ما يعني أنها لا تعتبر طعناً في الدين أو العقيدة]، إلا إذا اشتملت على "بدعةٍ واضحةٍ" مثل الصلاة أمام المذابح الوثنية أو تقديم التضحيات لها، والتشاور مع الشياطين، أو الحصول على ردودٍ منهم.
اعتبرت عقيدة الكنيسة -بموجب القانون الأسقفي- أن [[سحر (خارق للطبيعة)|السحر]] غير ممكنٍ، وأن أي ممارسٍين للشعوذة قد جرى خداعهم، وأن أعمالهم وهْم. كان لتوما الأكويني دور فعال في تطوير عقيدةٍ جديدةٍ تضمنتِ الإيمان بقوةٍ حقيقيةٍ للسحرة، وكان هذا خروجاً على تعاليم أستاذه [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرتوس ماغنوس]] الذي كان يرى ما ذهب إليه القانون الأسقفي.<ref name= Burr17374>{{استشهاد مختصر|Burr|1890|ص=37-66|لغة=en}}</ref><ref group="هامش">في تلك الفترة من تاريخ الكنيسة لم يك يُنظر إلى السحر على أنه هرطقة بطبيعته، بل نتاج للخرافة والمعتقدات الخاطئة، وفي سبتمبر/أيلول 1258 قرر البابا ألكسندر الرابع (حبريته 54-1261) أن الجهة المختصة بالتحقيق في تهم العرافة والشعوذة هي السلطات المحلية (السلطة الزمنية) وليس المحققون الكنسيون (السلطة الروحية) [ما يعني أنها لا تعتبر طعناً في الدين أو العقيدة]، إلا إذا اشتملت على "بدعةٍ واضحةٍ" مثل الصلاة أمام المذابح الوثنية أو تقديم التضحيات لها، والتشاور مع الشياطين، أو الحصول على ردودٍ منهم.
(انظر: ''Battling demons: witchcraft, heresy, and reform in the late Middle Ages'' "محاربة الشياطين؛ السحر والبدعة والإصلاح أواخرَ العصور الوسطى"، ميشيل بايلي، مطبعة جامعة بنسلفانيا، 2010، isbn=9780271022260)، تلحط نظرة الشريعة الإسلامية إلى السحر باعتباره أقرب إلى الكفر وعقوبة الساحر القتل.</ref>
(انظر: ''Battling demons: witchcraft, heresy, and reform in the late Middle Ages'' "محاربة الشياطين؛ السحر والبدعة والإصلاح أواخرَ العصور الوسطى"، ميشيل بايلي، مطبعة جامعة بنسلفانيا، 2010، isbn=9780271022260)، تلحط نظرة الشريعة الإسلامية إلى السحر باعتباره أقرب إلى الكفر وعقوبة الساحر القتل.</ref>


سطر 656: سطر 653:
=== أفكار عن الآخرة والقيامة ===
=== أفكار عن الآخرة والقيامة ===


يعد فهم علم نفس توما الأكويني أمراً ضرورياً لفهم معتقداته حول الحياة الآخرة والقيامة. يقبل الأكويني -وفق عقيدة الكنيسة- أن [[الروح]] تستمر في الوجود بعد موت الجسد. وطالما قبل توماس أن الروح هي شكل الجسد، فعليه كذلك الإيمان بأن الكائن البشري -مثل جميع الأشياء المادية- هو مركب «شكل-مادة». يشكّلُ الشكلُ الجوهري (الروحُ) المادةَ الأوليةَ (الجسدَ الماديَّ)، وهو الشكل الذي ينتمي به «المركب المادي» إلى النوع الذي ينتمي إليه؛ وفي حالة البشر ذلك النوع هو «حيوان عاقل».<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=194|لغة=en}}</ref> إذن فالكائن البشري عبارة عن مركب «شكلٍ-مادةٍ» منظمٌ ليكون حيواناً عقلانياً. لا يمكن للمادة أن توجد من دون أن تتكون بالشكل، لكن الشكل يمكن أن يوجد بدون مادةٍ مما يسمح بفصل الروح عن الجسد. يقول الأكويني بأن الروح تشترك في العالمين المادي والروحي، وكذلك لديها بعض سمات المادة وغيرها من السمات غير المادية (مثل الوصول إلى الكليّات). تختلف النفس البشرية عن الأشياء المادية والروحية الأخرى. لقد خلقها الله، ولكنها أيضاً تأتي إلى الوجود فقط في الجسد المادي.
يعد فهم علم نفس توما الأكويني أمراً ضرورياً لفهم معتقداته حول الحياة الآخرة والقيامة. يقبل الأكويني -وفق عقيدة الكنيسة- أن [[روح|الروح]] تستمر في الوجود بعد موت الجسد. وطالما قبل توماس أن الروح هي شكل الجسد، فعليه كذلك الإيمان بأن الكائن البشري -مثل جميع الأشياء المادية- هو مركب «شكل-مادة». يشكّلُ الشكلُ الجوهري (الروحُ) المادةَ الأوليةَ (الجسدَ الماديَّ)، وهو الشكل الذي ينتمي به «المركب المادي» إلى النوع الذي ينتمي إليه؛ وفي حالة البشر ذلك النوع هو «حيوان عاقل».<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=194|لغة=en}}</ref> إذن فالكائن البشري عبارة عن مركب «شكلٍ-مادةٍ» منظمٌ ليكون حيواناً عقلانياً. لا يمكن للمادة أن توجد من دون أن تتكون بالشكل، لكن الشكل يمكن أن يوجد بدون مادةٍ مما يسمح بفصل الروح عن الجسد. يقول الأكويني بأن الروح تشترك في العالمين المادي والروحي، وكذلك لديها بعض سمات المادة وغيرها من السمات غير المادية (مثل الوصول إلى الكليّات). تختلف النفس البشرية عن الأشياء المادية والروحية الأخرى. لقد خلقها الله، ولكنها أيضاً تأتي إلى الوجود فقط في الجسد المادي.


البشر ماديون، لكن الكائن البشري يمكنه أن ينجوَ من موت الجسد عبر الوجود المستمر للروح التي تدوم. تمتد الروح البشرية إلى العالمين الروحي والمادي، وهي في الوقت نفسه شكل جوهري مكوَّن، وكذلك مكوِّن للمادة في شكل كائنٍ بشريٍّ حيٍّ.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=200|لغة=en}}</ref> ولأنها روحانيةً لا تعتمد الروح البشرية على المادة، ويمكن أن توجد منفصلةً، لأن الإنسان هو مركبُ «شكلٍ-مادةٍ»، إن الجسدَ جزءٌ فيما هو عليه ليكون إنساناً. تتكون الطبيعة البشرية الكاملة من الطبيعة البشرية المزدوجة؛ المتجسِدة والفكرية.
البشر ماديون، لكن الكائن البشري يمكنه أن ينجوَ من موت الجسد عبر الوجود المستمر للروح التي تدوم. تمتد الروح البشرية إلى العالمين الروحي والمادي، وهي في الوقت نفسه شكل جوهري مكوَّن، وكذلك مكوِّن للمادة في شكل كائنٍ بشريٍّ حيٍّ.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=200|لغة=en}}</ref> ولأنها روحانيةً لا تعتمد الروح البشرية على المادة، ويمكن أن توجد منفصلةً، لأن الإنسان هو مركبُ «شكلٍ-مادةٍ»، إن الجسدَ جزءٌ فيما هو عليه ليكون إنساناً. تتكون الطبيعة البشرية الكاملة من الطبيعة البشرية المزدوجة؛ المتجسِدة والفكرية.
سطر 662: سطر 659:
يبدو أن [[القيامة]] تتطلب ثنائيةً، وهو ما يرفضه توماس، ومع ذلك فهو يعتقد أن الروحَ تستمر بعد موت الجسد وتحلله، وهي قادرة على الوجود منفصلةً عن الجسد ما بين وقت الموت والقيامة. يؤمن الأكويني بنوعٍ مختلفٍ من الثنائية؛ نوعٍ يسترشد [[الكتاب المقدس|بالكتاب المقدس]] المسيحي. يَعْرف توماس أن البشر هم في الأساس ماديون، لكن الجسدية لها روحٌ قادرةٌ على العودة إلى الله بعد الحياة.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=192|لغة=en}}</ref> وبالنسبة إليه فإن الثواب والعقاب في الآخرة ليسا فقط روحانيَّيْن، وبسبب هذا فالقيامة جزءٌ مهمٌّ من فلسفته حول الروح. الإنسان مكتمل في الجسد، لذلك يجب أن تكون الآخرة بأرواحٍ متجسِّدةٍ في أجسادٍ قائمةٍ. وبالإضافة إلى المكافأة الروحية يمكن للبشر أن يتوقعوا التمتع بالبركات المادية والجسدية، ولأن الروح [بالنسبة إلى] توماس تتطلب جسداً من أجل أفعالها -أثناء الحياة الآخرة- فإن الروح أيضاً ستُعاقَب أو تُكافَأ في الوجود المادي.<ref group="هامش">بناءً على هذا يؤمن توما الأكويني ببعث الأرواح والأجساد معاً، وهو بذا يُخالف عموم الفلاسفة الذين -بحسب الغزالي في كتابه "[[تهافت الفلاسفة]]"- ينكرون بعث الأجساد ويقصرون القيامة على الأرواح فحسب.</ref>
يبدو أن [[القيامة]] تتطلب ثنائيةً، وهو ما يرفضه توماس، ومع ذلك فهو يعتقد أن الروحَ تستمر بعد موت الجسد وتحلله، وهي قادرة على الوجود منفصلةً عن الجسد ما بين وقت الموت والقيامة. يؤمن الأكويني بنوعٍ مختلفٍ من الثنائية؛ نوعٍ يسترشد [[الكتاب المقدس|بالكتاب المقدس]] المسيحي. يَعْرف توماس أن البشر هم في الأساس ماديون، لكن الجسدية لها روحٌ قادرةٌ على العودة إلى الله بعد الحياة.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=192|لغة=en}}</ref> وبالنسبة إليه فإن الثواب والعقاب في الآخرة ليسا فقط روحانيَّيْن، وبسبب هذا فالقيامة جزءٌ مهمٌّ من فلسفته حول الروح. الإنسان مكتمل في الجسد، لذلك يجب أن تكون الآخرة بأرواحٍ متجسِّدةٍ في أجسادٍ قائمةٍ. وبالإضافة إلى المكافأة الروحية يمكن للبشر أن يتوقعوا التمتع بالبركات المادية والجسدية، ولأن الروح [بالنسبة إلى] توماس تتطلب جسداً من أجل أفعالها -أثناء الحياة الآخرة- فإن الروح أيضاً ستُعاقَب أو تُكافَأ في الوجود المادي.<ref group="هامش">بناءً على هذا يؤمن توما الأكويني ببعث الأرواح والأجساد معاً، وهو بذا يُخالف عموم الفلاسفة الذين -بحسب الغزالي في كتابه "[[تهافت الفلاسفة]]"- ينكرون بعث الأجساد ويقصرون القيامة على الأرواح فحسب.</ref>


يبين الأكويني بوضوحٍ موقفه من [[يوم القيامة|القيامة]]، ويوظفه لدعم فلسفته في العدالة؛ بمعنى أن الوعد بالقيامة يعوّض المسيحيين الذين عانَوا في هذا العالم من خلال الاتحاد السماوي مع الإلهية. يقول: {{اقتباس مضمن|إذا لم تكُ ثمةَ قيامةٌ للأموات، فسيترتب على ذلك أنه لا خير للبشر إلا في هذه الحياة}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=461, 473|لغة=en}}</ref> القيامة هي حافز الناس على الأرض للتخلي عن الملذات في هذه الحياة. يعتقد الأكويني أن الإنسان الذي استعد للحياة الآخرة أخلاقياً وفكرياً سيُكافَأ بشكلٍ أكبرَ؛ وعلى كلٍّ فإن الثواب كلُّه هو من خلال نعمة الله.<ref group="هامش">بمعنى أن الثواب فضل من الله وحده وليس بعمل الإنسان. يلحظ تشديد [[مارتن لوثر]] على فكرة الثواب فضل من الله في أفكاره الإصلاحية.</ref> إنه يُصر -أيضاً- على أن التطويب سيُمنح تبعاً للجدارة، وسيجعل المرءَ أكثرَ قدرةً على تصور الإله. وبناءً على ذلك فهو يعتقد أن العقوبة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأرض، وبالاستعداد الحي والنشاط أيضاً. يُركز تصور توماس عن الروح على نظرية المعرفة والميتافيزيقا (ماوراء الطبيعة)، وهو لهذا يَعتقد أنهما تقدمان وصفاً واضحاً للطبيعة غير المادية للروح، ويؤكد -في حرصٍ محافظٍ- على العقيدةَ النصرانيةَ [الكاثوليكية]، وهو بالتالي يحافظ [في معتقداته] على المكافأتين الجسدية والروحية والعقاب بعد الموت. إنه -بقبوله جوهرية الجسد والروح- يسمح بوجود الجنة والجحيم الموصوفَيْن في كلٍّ من [[الكتاب المقدس]] وعقيدة [[الكنيسة الكاثوليكية]].
يبين الأكويني بوضوحٍ موقفه من [[يوم القيامة|القيامة]]، ويوظفه لدعم فلسفته في العدالة؛ بمعنى أن الوعد بالقيامة يعوّض المسيحيين الذين عانَوا في هذا العالم من خلال الاتحاد السماوي مع الإلهية. يقول: {{اقتباس مضمن|إذا لم تكُ ثمةَ قيامةٌ للأموات، فسيترتب على ذلك أنه لا خير للبشر إلا في هذه الحياة}}.<ref>{{استشهاد مختصر|Stump|2003|ص=461, 473|لغة=en}}</ref> القيامة هي حافز الناس على الأرض للتخلي عن الملذات في هذه الحياة. يعتقد الأكويني أن الإنسان الذي استعد للحياة الآخرة أخلاقياً وفكرياً سيُكافَأ بشكلٍ أكبرَ؛ وعلى كلٍّ فإن الثواب كلُّه هو من خلال نعمة الله.<ref group="هامش">بمعنى أن الثواب فضل من الله وحده وليس بعمل الإنسان. يلحظ تشديد [[مارتن لوثر]] على فكرة الثواب فضل من الله في أفكاره الإصلاحية.</ref> إنه يُصر -أيضاً- على أن التطويب سيُمنح تبعاً للجدارة، وسيجعل المرءَ أكثرَ قدرةً على تصور الإله. وبناءً على ذلك فهو يعتقد أن العقوبة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأرض، وبالاستعداد الحي والنشاط أيضاً. يُركز تصور توماس عن الروح على نظرية المعرفة والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، وهو لهذا يَعتقد أنهما تقدمان وصفاً واضحاً للطبيعة غير المادية للروح، ويؤكد -في حرصٍ محافظٍ- على العقيدةَ النصرانيةَ [الكاثوليكية]، وهو بالتالي يحافظ [في معتقداته] على المكافأتين الجسدية والروحية والعقاب بعد الموت. إنه -بقبوله جوهرية الجسد والروح- يسمح بوجود الجنة والجحيم الموصوفَيْن في كلٍّ من [[الكتاب المقدس]] وعقيدة [[الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|الكنيسة الكاثوليكية]].


ويرى [[بيرتراند رسل|رسل]] أنه إذا كانتِ الروح هي التي تقترف الإثم -بحسب الإكويني- وإذا كانت لا تنتقل بالتناسل، بل ثمة روح جديدة تُخلق لكل إنسانٍ جديدٍ، فأنّى لروحٍ مخلوقةٍ جديدةٍ أن ترثَ الخطيئةَ الأصلية.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا10">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=237}}</ref>
ويرى [[بيرتراند رسل|رسل]] أنه إذا كانتِ الروح هي التي تقترف الإثم -بحسب الإكويني- وإذا كانت لا تنتقل بالتناسل، بل ثمة روح جديدة تُخلق لكل إنسانٍ جديدٍ، فأنّى لروحٍ مخلوقةٍ جديدةٍ أن ترثَ الخطيئةَ الأصلية.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا10">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=237}}</ref>
سطر 670: سطر 667:
[[ملف:Saint Joseph's Catholic Church (Central City, Kentucky) - stained glass, St. Thomas Aquinas, detail.jpg|تصغير|معدول|'''نافذة زجاجية ملونة تصور توما الأكويني''' في كنيسة القديس يوسف الكاثوليكية (سنترال سيتي، ولاية [[كنتاكي]]).]]
[[ملف:Saint Joseph's Catholic Church (Central City, Kentucky) - stained glass, St. Thomas Aquinas, detail.jpg|تصغير|معدول|'''نافذة زجاجية ملونة تصور توما الأكويني''' في كنيسة القديس يوسف الكاثوليكية (سنترال سيتي، ولاية [[كنتاكي]]).]]


علق بعض علماء الأخلاق الحديثين من داخل الكنيسة الكاثوليكية (ولا سيما «ألَسداير ماك إنتير»<ref group="إنج">Alasdair MacIntyre</ref>)، ومن خارجها (ولا سيما «فيليبا فوت») مؤخراً على الاستخدام المحتمل لأخلاقيات فضيلة توماس كطريقةٍ لتجنب النفعية أو «الإحساس بالواجب» [[كانط|الكانطي]] (ضمن ما يسمى «علم الأخلاق»). كان مبدأ توماس أكويناس في التأثير المزدوج على وجه الخصوص، ونظريته في النشاط المتعمَّد مؤثريْن على العموم من خلال عمل فلاسفةٍ من [[القرن العشرين]] مثل «إليزابيث أنسكومب» (وخاصةً في كتابها «النية»).
علق بعض علماء الأخلاق الحديثين من داخل الكنيسة الكاثوليكية (ولا سيما «ألَسداير ماك إنتير»<ref group="إنج">Alasdair MacIntyre</ref>)، ومن خارجها (ولا سيما «فيليبا فوت») مؤخراً على الاستخدام المحتمل لأخلاقيات فضيلة توماس كطريقةٍ لتجنب النفعية أو «الإحساس بالواجب» [[إيمانويل كانط|الكانطي]] (ضمن ما يسمى «علم الأخلاق»). كان مبدأ توماس أكويناس في التأثير المزدوج على وجه الخصوص، ونظريته في النشاط المتعمَّد مؤثريْن على العموم من خلال عمل فلاسفةٍ من [[القرن العشرين]] مثل «إليزابيث أنسكومب» (وخاصةً في كتابها «النية»).


في السنوات الأخيرة اقترح عالم الأعصاب الإدراكي «والتر فريمان» أن [[التوماوية]] كنظامٍ فلسفيٍّ هو الذي يشرح الإدراك الأكثر توافقاً مع الحركية (الديناميكا) العصبية، كان ذلك في مقالةٍ له نُشرت في العام [[2008]] في مجلة «العقل والمادة»<ref group="إنج">Mind and Matter</ref> بعنوان «آليات (ديناميكيات) الدماغ اللاخطية والنية وفقاً للأكويني».
في السنوات الأخيرة اقترح عالم الأعصاب الإدراكي «والتر فريمان» أن [[توماوية|التوماوية]] كنظامٍ فلسفيٍّ هو الذي يشرح الإدراك الأكثر توافقاً مع الحركية (الديناميكا) العصبية، كان ذلك في مقالةٍ له نُشرت في العام [[2008]] في مجلة «العقل والمادة»<ref group="إنج">Mind and Matter</ref> بعنوان «آليات (ديناميكيات) الدماغ اللاخطية والنية وفقاً للأكويني».


ينتهي كتاب «مونت سانت ميشيل وشارتر» لـ«هنري آدمز» بفصلٍ بلغ الأوج عن توماس أكويناس، إذ وصفه آدامز بأنه «فنان» ويؤسس تشابهاً واسعاً بين تصميم «الكنيسة الفكرية» لتوماس أكويناس، وتصميم [[كاتدرائية|الكاتدرائيات]] [[عمارة قوطية|القوطية]] في تلك الفترة. قام «إروين بانوفسكي» لاحقاً بترداد هذه الآراء في «[[عمارة قوطية|العمارة القوطية]]» و«المدرسية» (السكولاستيكية) عام [[1951]]م. أثرت نظريات توماس أكويناس الجمالية -ولا سيما مفهوم «كلاريتاس»<ref group="إنج">Claritas</ref> - بعمقٍ على الممارسة الأدبية للكاتب الحداثي [[جيمس جويس|جيمس جُويْس]] (1881-1941) الذي اعتاد أن يمدح الأكويني معتبراً إياه في المرتبة الثانية بعد [[أرسطو]] بين الفلاسفة الغربيين. يشير جويس إلى عقيدة توماس أكويناس في كتاب «عناصر الفلسفة في ذهن المعلم الملائكي د. توما الأكويني»<ref group="لات">Elementaosophiae ad mentem D. Thomae Aquinatis doctoris angelici</ref> من العام 1898 لجيرولامو ماريا مانشيني أستاذ اللاهوت في «كلية توما المقدس في أورْبِه»<ref group="لات">Collegium Divi Thomae de Urbe</ref>، فعلى سبيل المثال جرتِ الإشارة إلى عنصرٍ <ref group="إيط">Elementa</ref> لمانشيني في  رواية جويس «[[صورة الفنان في شبابه]]».<ref>{{استشهاد مختصر|Joyce|1993|ص=1ِ|لغة=en}}</ref>
ينتهي كتاب «مونت سانت ميشيل وشارتر» لـ«هنري آدمز» بفصلٍ بلغ الأوج عن توماس أكويناس، إذ وصفه آدامز بأنه «فنان» ويؤسس تشابهاً واسعاً بين تصميم «الكنيسة الفكرية» لتوماس أكويناس، وتصميم [[كاتدرائية|الكاتدرائيات]] [[عمارة قوطية|القوطية]] في تلك الفترة. قام «إروين بانوفسكي» لاحقاً بترداد هذه الآراء في «[[عمارة قوطية|العمارة القوطية]]» و«المدرسية» (السكولاستيكية) عام [[1951]]م. أثرت نظريات توماس أكويناس الجمالية -ولا سيما مفهوم «كلاريتاس»<ref group="إنج">Claritas</ref> - بعمقٍ على الممارسة الأدبية للكاتب الحداثي [[جيمس جويس|جيمس جُويْس]] (1881-1941) الذي اعتاد أن يمدح الأكويني معتبراً إياه في المرتبة الثانية بعد [[أرسطو]] بين الفلاسفة الغربيين. يشير جويس إلى عقيدة توماس أكويناس في كتاب «عناصر الفلسفة في ذهن المعلم الملائكي د. توما الأكويني»<ref group="لات">Elementaosophiae ad mentem D. Thomae Aquinatis doctoris angelici</ref> من العام 1898 لجيرولامو ماريا مانشيني أستاذ اللاهوت في «كلية توما المقدس في أورْبِه»<ref group="لات">Collegium Divi Thomae de Urbe</ref>، فعلى سبيل المثال جرتِ الإشارة إلى عنصرٍ <ref group="إيط">Elementa</ref> لمانشيني في  رواية جويس «[[صورة الفنان في شبابه]]».<ref>{{استشهاد مختصر|Joyce|1993|ص=1ِ|لغة=en}}</ref>
سطر 682: سطر 679:
== انتقادات ==
== انتقادات ==


شكك فيلسوف [[القرن العشرين]] «[[برتراند راسل|برتراند رَسل]]» (1872-1970) في حيادية توماس أكويناس معتبراً أنه يتتبع النقاش بحيث يؤدي إلى طروحات العقيدة الكاثوليكية على وجه الحصر، وانتقد منهجه قائلاً:<ref group="هامش">في الفصل الثاني من "خلاصة ضد الكفار" يصرح الإكويني أن هدفه هو "إبراز الحقيقة التي تعرضها العقيدة الكاثوليكية". انظر (مونتغمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، تر. حسين أحمد أمين، دار الشروق، القاهرة، 1983، ص. 106).</ref>
شكك فيلسوف القرن العشرين «[[بيرتراند راسل|برتراند رَسل]]» (1872-1970) في حيادية توماس أكويناس معتبراً أنه يتتبع النقاش بحيث يؤدي إلى طروحات العقيدة الكاثوليكية على وجه الحصر، وانتقد منهجه قائلاً:<ref group="هامش">في الفصل الثاني من "خلاصة ضد الكفار" يصرح الإكويني أن هدفه هو "إبراز الحقيقة التي تعرضها العقيدة الكاثوليكية". انظر (مونتغمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، تر. حسين أحمد أمين، دار الشروق، القاهرة، 1983، ص. 106).</ref>


{{اقتباس|إنك لا تصادف عند الأكويني من الروح الفلسفية الصحيحة إلا قليلاً، فهو لا يبدأ الحِجَاجَ -مثل [[سقراط]] الأفلاطوني- ملتزماً أن يتابعه أنّى سار به، وهو لا يشغل نفسه ببحثٍ يستحيل معرفة نتيجته مقدماً. بل تراه -من قبل أن يبدأ التفلسف- ملماً بالحقيقةَ المنشودة؛ لأنها حقيقة تفصح عنها العقيدة الكاثوليكية. فإن وجد حججاً يبدو عليها طابع الدليل العقلي ليؤيد بها بعض أجزاء العقيدة كان خيراً، وإن لم يجد فلا حاجة به إلى أكثر من الرجوع إلى الوحي، وليس من الفلسفة أن تبحث عن حججٍ تؤيد بها نتيجةً معروفةً من قبل، وإنما يكون ذلك من قبيل الدفاع عما تريد الدفاع عنه. وعلى ذلك فلستُ بمستطيعٍ أن أرى فيه من الجدارة ما يستحق به أن يوضع على قدم المساواة مع خيرة الفلاسفةِ سواءً في ذلك اليونان والمحدثون.<ref>{{استشهاد مختصر|Russell|1967|ص=463|لغة=en}}</ref><ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=243}}</ref><ref group="هامش">النص مقتبس بحرفيته في مقالة ''Thomas Aquinas'' في الويكيبديا الإنجليزية، لكن أثبت هنا النص العربي نقلاً من كتاب برتراند رسل "تاريخ الفلسفة الغربية"، وذلك حرصاً على مزيد الدقة في المعنى لأن مترجم الكتاب إلى العربية فيلسوف أيضاً وهو د. [[زكي نجيب محمود]].</ref>}}
{{اقتباس|إنك لا تصادف عند الأكويني من الروح الفلسفية الصحيحة إلا قليلاً، فهو لا يبدأ الحِجَاجَ -مثل [[سقراط]] الأفلاطوني- ملتزماً أن يتابعه أنّى سار به، وهو لا يشغل نفسه ببحثٍ يستحيل معرفة نتيجته مقدماً. بل تراه -من قبل أن يبدأ التفلسف- ملماً بالحقيقةَ المنشودة؛ لأنها حقيقة تفصح عنها العقيدة الكاثوليكية. فإن وجد حججاً يبدو عليها طابع الدليل العقلي ليؤيد بها بعض أجزاء العقيدة كان خيراً، وإن لم يجد فلا حاجة به إلى أكثر من الرجوع إلى الوحي، وليس من الفلسفة أن تبحث عن حججٍ تؤيد بها نتيجةً معروفةً من قبل، وإنما يكون ذلك من قبيل الدفاع عما تريد الدفاع عنه. وعلى ذلك فلستُ بمستطيعٍ أن أرى فيه من الجدارة ما يستحق به أن يوضع على قدم المساواة مع خيرة الفلاسفةِ سواءً في ذلك اليونان والمحدثون.<ref>{{استشهاد مختصر|Russell|1967|ص=463|لغة=en}}</ref><ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=243}}</ref><ref group="هامش">النص مقتبس بحرفيته في مقالة ''Thomas Aquinas'' في الويكيبديا الإنجليزية، لكن أثبت هنا النص العربي نقلاً من كتاب برتراند رسل "تاريخ الفلسفة الغربية"، وذلك حرصاً على مزيد الدقة في المعنى لأن مترجم الكتاب إلى العربية فيلسوف أيضاً وهو د. [[زكي نجيب محمود]].</ref>}}
سطر 693: سطر 690:


يقترح الفيلسوف البريطاني «[[أنتوني كيني|أنطوني كيني]]» أن «راسل» فشل في التفكير فيما يفعله الفلاسفة، بمن فيهم هو نفسه:
يقترح الفيلسوف البريطاني «[[أنتوني كيني|أنطوني كيني]]» أن «راسل» فشل في التفكير فيما يفعله الفلاسفة، بمن فيهم هو نفسه:
{{اقتباس|إنه لمن غير العادي أن يُوجَّهَ هذا الاتهام من قبل "راسل"، الذي استغرق مئات الصفحات في كتاب "مبادئ الرياضيات"<ref group="لات">Principia Mathematica</ref> لكي يثبت أن اثنين واثنين يصبحان أربعة، وهو الأمر الذي كان يؤمن به طيلة حياته.
{{اقتباس|إنه لمن غير العادي أن يُوجَّهَ هذا الاتهام من قبل "راسل"، الذي استغرق مئات الصفحات في كتاب "مبادئ الرياضيات"<ref group="لات">Principia Mathematica</ref> لكي يثبت أن اثنين واثنين يصبحان أربعة، وهو الأمر الذي كان يؤمن به طيلة حياته}}


يوضح الأكويني في الجزء الثاني من «خلاصة ضد الكفار» أن هدفه {{اقتباس مضمن|إبراز الحقيقة التي تعرضها العقيدة الكاثوليكية}}، وأن ليس بوسع المرء التدليل على كل ما تضمنته العقيدة المسيحية، ففي حالة النظريات الخارجة عن نطاق العقل الطبيعي يمكن الإيضاح -وحسب- أن الاعتراضاتِ عليها لا يمكن إثباتها بالعقل.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا2">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=106-107}}</ref><ref group="عر" name="مولد تلقائيا3">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=231}}</ref> ومن ذلك [[العماد]]، فهو يرى استحالة أن يدخل المرء الجنة من دون تعميد، وليس هذا مما يمكن البرهنة عليه بالعقل المجرد، بل يُلجأ فيه إلى الوحي، وقد ورد في [[إنجيل يوحنا]] الإصحاح الثالث.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=240}}</ref>
يوضح الأكويني في الجزء الثاني من «خلاصة ضد الكفار» أن هدفه {{اقتباس مضمن|إبراز الحقيقة التي تعرضها العقيدة الكاثوليكية}}، وأن ليس بوسع المرء التدليل على كل ما تضمنته العقيدة المسيحية، ففي حالة النظريات الخارجة عن نطاق العقل الطبيعي يمكن الإيضاح -وحسب- أن الاعتراضاتِ عليها لا يمكن إثباتها بالعقل.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا2">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=106-107}}</ref><ref group="عر" name="مولد تلقائيا3">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=231}}</ref> ومن ذلك الثالوث [[معمودية|والعماد]]، فهو يرى استحالة أن يدخل المرء الجنة من دون تعميد، وليس هذا مما يمكن البرهنة عليه بالعقل المجرد، بل يُلجأ فيه إلى الوحي، وقد ورد في [[إنجيل يوحنا]] الإصحاح الثالث.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=240}}</ref>


يسوق رسل انتقاداً آخر وهو أن الأكويني لم يتطرق إلى اعتراضٍ أقلق القديس [[أغسطينوس|أغسطين]] من قبل، ألا وهو حول انتقال الخطيئة الأولى، إذ لما كانتِ الروح هي التي تقترف الإثم، ولما كانت لا تنتقل بالتناسل، بل تُخلق روح جديدة لكل إنسانٍ جديدٍ، فكيف لروحٍ مخلوقةٍ جديدةٍ أن ترث الخطيئة الأصلية.<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|راسل|2010|ج=2|ص=237}}</ref>
يسوق رسل انتقاداً آخر؛ أن الأكويني لم يتطرق إلى اعتراضٍ أرّق القديس [[أوغسطينوس|أغسطين]] من قبل، ألا وهو حول انتقال الخطيئة الأولى، إذ لما كانتِ الروح هي التي تقترف الإثم، ولما كانت لا تنتقل بالتناسل، بل تُخلق روح جديدة لكل إنسانٍ جديدٍ، فكيف لروحٍ مخلوقةٍ جديدةٍ أن ترث الخطيئة الأصلية.<ref group="عر" name="مولد تلقائيا10" />


== توما الأكويني في ميزان التاريخ ==
== توما الأكويني في ميزان التاريخ ==
سطر 714: سطر 711:
{{اقتباس|وعليه فإن الهدف من وراء هذا الكتاب ["خلاصة ضد الوثنيين"] هو الدفاع عن العقيدة المسيحية ضد الاعتراضات والانتقادات، وعلى أساس اللجوء إلى العقل الطبيعي دون افتراض قَبولِ المعارضين للكتاب المقدس. ومن هنا جاء تأثير وجود الإسلام -باعتباره مشكلةً تواجه الأوروبيين الغربيين- في إعطاء ذلك الكتابِ صورتَه، أو تشكيلِها على الأقل.}}
{{اقتباس|وعليه فإن الهدف من وراء هذا الكتاب ["خلاصة ضد الوثنيين"] هو الدفاع عن العقيدة المسيحية ضد الاعتراضات والانتقادات، وعلى أساس اللجوء إلى العقل الطبيعي دون افتراض قَبولِ المعارضين للكتاب المقدس. ومن هنا جاء تأثير وجود الإسلام -باعتباره مشكلةً تواجه الأوروبيين الغربيين- في إعطاء ذلك الكتابِ صورتَه، أو تشكيلِها على الأقل.}}


في حين يرى [[ويل ديورانت]] في [[قصة الحضارة|قصته عن الحضارة]] {{اقتباس مضمن|أن الذي دعا توماس أكويناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت "الخلاصة اللاهوتية" هو أن يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية}}.<ref name="م9" group="عر"/> لقد راع الكنيسةَ آراءُ أرسطو وشروحُ المسلمين عليها حتى إن مجمع باريس الكنسي أصدر في العام [[1210]]م قراراً يُحرّم كتاباتِ أرسطو وشروحَها، وتكرر ذلك عدة مراتٍ من بعدُ،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=1|ص=170}}</ref> وتناول التحريم على الأخصَ الآراءَ الرشدية.
في حين يرى [[ويل ديورانت]] في [[قصة الحضارة (كتاب)|قصته عن الحضارة]] {{اقتباس مضمن|أن الذي دعا توماس أكويناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت "الخلاصة اللاهوتية" هو أن يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية}}.<ref name="م9" group="عر"/> لقد راع الكنيسةَ آراءُ أرسطو وشروحُ المسلمين عليها حتى إن مجمع باريس الكنسي أصدر في العام [[1210]]م قراراً يُحرّم كتاباتِ أرسطو وشروحَها، وتكرر ذلك عدة مراتٍ من بعدُ،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|عاشور|2009|ج=1|ص=170}}</ref> وتناول التحريم على الأخصَ الآراءَ الرشدية.


كان التأثير الفلسفي الأعظم في أوروبا الغربية لابن سينا، وتشير الدراسات الحديثة إلى تأثيرٍ ربما يكون أهمَّ مما نعرفه اليوم،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=107}}</ref><ref group="هامش">كان ذلك عام 1972 وقتما نشر واط {{إنج|''W. Montgomery Watt''}}  كتابَه، ويجدر التنويه إلى أن واط ينتمي إلى المدرسة الاستشراقية الكلاسيكية التي لا ترى للمسلمين والعربِ فضلاً في الحضارة الإنسانية، أو أقلَّ ما يمكنُ من فضلٍ، ومع ذلك فهو لا يجد مندوحةَ من الاعترافِ بمثل هذه الآراء.</ref> على أنه بدءاً من [[القرن الثالث عشر]] تزايد أثر أرسطو بفضل ترجمة أعمال ابن رشد. وقد أحلت آراءُ الإكويني وغيرِه (كأستاذِهِ [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت الكبير]] على سبيل المثال) [[أرسطو]] في الصدارة، وهنا علينا ألا نَكتَنه اهتمام الأوروبيين بأرسطو على أنه عائد إلى فلسفته وحسب، إذ يرى واط في أوروبيي ذلك العهد (القرن الثالث عشر) توقاً إلى التمايز عن العالم الإسلامي يعد الفيض الحضاري الهائل الذي كان اجتاح المجتمع الغربي، ولما كانت هذه النزعةُ غيرَ قابلةٍ للإشباع ذاتياً في ظروف الشح الثقافي والحضاري الذي يكابده ذاك المجتمع وقتئذٍ، فقد وجد في الرجعة إلى تبنّي الماضي الهيليني (الأوروبي) والتمسك به وبإنجازاته مَنْفَساً وتمثيلاً لهذا الميل الجارف. يعلق واط:<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=107-108}}</ref>
كان التأثير الفلسفي الأعظم في أوروبا الغربية لابن سينا، وتشير الدراسات الحديثة إلى تأثيرٍ ربما يكون أهمَّ مما نعرفه اليوم،<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=107}}</ref><ref group="هامش">كان ذلك عام 1972 وقتما نشر واط {{إنج|''W. Montgomery Watt''}}  كتابَه، ويجدر التنويه إلى أن واط ينتمي إلى المدرسة الاستشراقية الكلاسيكية التي لا ترى للمسلمين والعربِ فضلاً في الحضارة الإنسانية، أو أقلَّ ما يمكنُ من فضلٍ، ومع ذلك فهو لا يجد مندوحةَ من الاعترافِ بمثل هذه الآراء.</ref> على أنه بدءاً من [[القرن 13|القرن الثالث عشر]] تزايد أثر أرسطو بفضل ترجمة أعمال ابن رشد. وقد أحلت آراءُ الإكويني وغيرِه (كأستاذِهِ [[ألبيرتوس ماغنوس|ألبرت الكبير]] على سبيل المثال) [[أرسطو]] في الصدارة، وهنا علينا ألا نَكتَنه اهتمام الأوروبيين بأرسطو على أنه عائد إلى فلسفته وحسب، إذ يرى واط في أوروبيي ذلك العهد (القرن الثالث عشر) توقاً إلى التمايز عن العالم الإسلامي يعد الفيض الحضاري الهائل الذي كان اجتاح المجتمع الغربي، ولما كانت هذه النزعةُ غيرَ قابلةٍ للإشباع ذاتياً في ظروف الشح الثقافي والحضاري الذي يكابده ذلك المجتمع وقتئذٍ، فقد وجد في الرُّجعى إلى تبنّي الماضي الهيليني ("الأوروبي") والتمسك به وبإنجازاته مَنْفَساً وتمثيلاً لهذا التوق الجارف. يعلق واط:<ref group="عر">{{استشهاد مختصر|واط|1983|ص=107-108}}</ref>


{{اقتباس|إن اهتمام الأوربيين بأرسطو لا يرجع إلى المقومات الأساسية لفلسفته فحسب، وإنما برحع كذلك إلى انتمائه إلى تاريخهم الأوروبي، وبتعبيرٍ آخرَ إن إحلالَ أرسطو مكانَ الصدارةِ في الفلسفة والعلوم ينبغي النظر إليه باعتباره مظهراً لرغبة الأوروبيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين، ولم يكن هذا النشاطُ السلبي تماماً المتمثلُ في التنكر للإسلام أمراً سهلاً، بل كان في الواقع أمراً مستحيلاً -خاصةً بعد كل ما تعلمه الأوروبيون من علوم العرب وفلسفتهم- ما لم يكن قد صاحب هذا التنكرَ نشاطٌ إيجابي. وكان هذا النشاط الإيجابي متمثلاً في الدعوة إلى العودة إلى ماضي أوروبا الكلاسيكي، أي إلى حضارتي الإغريق والرومان.<ref group="هامش">ثم يضرب واط ب[[دانتي]] في [[الكوميديا الإلهية|الملهاة الإلهية]] دليلاً باتعاً آخرَ على محاولةِ أورُبا تاكيدَ تمايُزِها عن الإسلام. يقول: «وفي دانتي ما يُلقي الضوءَ على إحدى مراحل العملية التي سعت بها أوروبا إلى تمييز نفسها عن العالم الإسلامي، وتأكيد ارتباطها بتراثها الكلاسيكي. وقد كان دانتي مدركاً لفضل فلاسفة العرب على أوروبا، بل ربما كان لبعض الأفكار الأساسية في كوميديته الإلهية مصادر إسلامية، غير أنه من بين ما يلفت النظر في كتابه العظيم إهماله النسبي للإسلام، ومما يدلُّ على الرغبة في التميز عن الإسلام إحلاله محمداً في الجحيم في زمرة باذري بذور الشقاق والفتن، ومع ذلك فإن حديثَه عن محمدٍ أقصرُ كثيراً من حديثه عن البطل الكلاسيكي أوليس، ورغم أن هناك اعترافاً بمساهمة الفلاسفة العرب يتمثل في إحلاله ابنَ سينا وابنَ رشدٍ في اليَمْبوس (الأعراف) إلا أنهما اثنين فحسب في حين معهما أكثر من عشرةٍ من اليونانيين والرومان، ونراه يصف أرسطو وهو في "زمرة العائلة الفلسفية" بأنه "سيد العارفين"، أما من الناحية الإيجابية فإن "الكوميديا الإلهية" تغص بالإشارات الكلاسيكية (الإغريقية والرومانية) وكان فيها فرجيل دليل دانتي في رحلته». (انظر: واط: "فضل الإسلام على الحضارة الأوروبية"، تر. حسين أحمد أمين، 1983، ص. 108.}}</ref>}}
{{اقتباس|إن اهتمام الأوربيين بأرسطو لا يرجع إلى المقومات الأساسية لفلسفته فحسب، وإنما برحع كذلك إلى انتمائه إلى تاريخهم الأوروبي، وبتعبيرٍ آخرَ إن إحلالَ أرسطو مكانَ الصدارةِ في الفلسفة والعلوم ينبغي النظر إليه باعتباره مظهراً لرغبة الأوروبيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين، ولم يكن هذا النشاطُ السلبي تماماً المتمثلُ في التنكر للإسلام أمراً سهلاً، بل كان في الواقع أمراً مستحيلاً -خاصةً بعد كل ما تعلمه الأوروبيون من علوم العرب وفلسفتهم- ما لم يكن قد صاحب هذا التنكرَ نشاطٌ إيجابي. وكان هذا النشاط الإيجابي متمثلاً في الدعوة إلى العودة إلى ماضي أوروبا الكلاسيكي، أي إلى حضارتي الإغريق والرومان.<ref group="هامش">ثم يضرب واط ب[[دانتي]] في [[الكوميديا الإلهية|الملهاة الإلهية]] دليلاً باتعاً آخرَ على محاولةِ أورُبا تاكيدَ تمايُزِها عن الإسلام. يقول: «وفي دانتي ما يُلقي الضوءَ على إحدى مراحل العملية التي سعت بها أوروبا إلى تمييز نفسها عن العالم الإسلامي، وتأكيد ارتباطها بتراثها الكلاسيكي. وقد كان دانتي مدركاً لفضل فلاسفة العرب على أوروبا، بل ربما كان لبعض الأفكار الأساسية في كوميديته الإلهية مصادر إسلامية، غير أنه من بين ما يلفت النظر في كتابه العظيم إهماله النسبي للإسلام، ومما يدلُّ على الرغبة في التميز عن الإسلام إحلاله محمداً في الجحيم في زمرة باذري بذور الشقاق والفتن، ومع ذلك فإن حديثَه عن محمدٍ أقصرُ كثيراً من حديثه عن البطل الكلاسيكي أوليس، ورغم أن هناك اعترافاً بمساهمة الفلاسفة العرب يتمثل في إحلاله ابنَ سينا وابنَ رشدٍ في اليَمْبوس (الأعراف) إلا أنهما اثنين فحسب في حين معهما أكثر من عشرةٍ من اليونانيين والرومان، ونراه يصف أرسطو وهو في "زمرة العائلة الفلسفية" بأنه "سيد العارفين"، أما من الناحية الإيجابية فإن "الكوميديا الإلهية" تغص بالإشارات الكلاسيكية (الإغريقية والرومانية) وكان فيها فرجيل دليل دانتي في رحلته». (انظر: واط: "فضل الإسلام على الحضارة الأوروبية"، تر. حسين أحمد أمين، 1983، ص. 108.}}</ref>}}
سطر 752: سطر 749:
|لغة=la
|لغة=la
| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20220207194543/https://www.corpusthomisticum.org/  
| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20220207194543/https://www.corpusthomisticum.org/  
| تاريخ أرشيف = 07-22-2022
| تاريخ أرشيف = 2022-02-07
| تاريخ الوصول = 18-10-2023
| تاريخ الوصول = 18-10-2023
}}</ref> بواسطة «إنريكي ألاركون» من «جامعة نافارا»، وفي «مجموع الوثائق الكاثوليكية».<ref group="لات">Catholica Omnia</ref><ref group="وب-لات">{{استشهاد ويب  
}}</ref> بواسطة «إنريكي ألاركون» من «جامعة نافارا»، وفي «مجموع الوثائق الكاثوليكية».<ref group="لات">Catholica Omnia</ref><ref group="وب-لات">{{استشهاد ويب  
سطر 956: سطر 953:
{{ضبط استنادي}}
{{ضبط استنادي}}
{{شريط بوابات|أخلاقيات|أعلام|التاريخ|السياسة|الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|فلسفة|منطق}}
{{شريط بوابات|أخلاقيات|أعلام|التاريخ|السياسة|الكنيسة الرومانية الكاثوليكية|فلسفة|منطق}}
{{شريط محتوى متميز|1=مختارة|التاريخ=18 مارس 2024|النسخة=66410945|تاريخ مراجعة الزملاء=18 يناير 2024}}
{{لا لربط البوابات المعادل}}
{{لا لربط البوابات المعادل}}


سطر 981: سطر 979:
[[تصنيف:فلاسفة مدرسيون]]
[[تصنيف:فلاسفة مدرسيون]]
[[تصنيف:فلاسفة مسيحيون]]
[[تصنيف:فلاسفة مسيحيون]]
[[تصنيف:فلسفة سياسية]]
[[تصنيف:قديسون أنجليكانيون]]
[[تصنيف:قديسون أنجليكانيون]]
[[تصنيف:قديسون إيطاليون]]
[[تصنيف:قديسون إيطاليون]]
سطر 1٬004: سطر 1٬003:
[[تصنيف:ميتافيزيقيون]]
[[تصنيف:ميتافيزيقيون]]
[[تصنيف:نبلاء إيطاليون]]
[[تصنيف:نبلاء إيطاليون]]
[[تصنيف:نقاد إيطاليون للإسلام]]
[[تصنيف:نقاد مسيحيون للإسلام]]
[[تصنيف:نقاد مسيحيون للإسلام]]
[[تصنيف:وفيات 1274]]
[[تصنيف:وفيات 1274]]
[[تصنيف:وفيات 673 هـ]]
[[تصنيف:وفيات 673 هـ]]

قائمة التصفح