محمد الفاتح: الفرق بين النسختين

لا يوجد ملخص تحرير
ط (استبدال قوالب (بداية قصيدة، بيت ، شطر، نهاية قصيدة) -> أبيات)
 
لا ملخص تعديل
 
سطر 120: سطر 120:
=== الإعداد لِلفتح الكبير ===
=== الإعداد لِلفتح الكبير ===
[[ملف:Rumeli Castle.jpg|تصغير|يمين|قلعة روملِّي حصار كما تبدو اليوم.]]
[[ملف:Rumeli Castle.jpg|تصغير|يمين|قلعة روملِّي حصار كما تبدو اليوم.]]
لمَّا كان الهم الأكبر لِلسُلطان مُحمَّد هو فتح العاصمة الروميَّة العتيقة، كان عليه السيطرة على [[البوسفور (مضيق)|مضيق البوسفور]] وإحكام الرقابة العُثمانيَّة على جميع السُفن المارَّة من المضيق المذكور.<ref name="أوزتونا1"/> ومن أجل هذا، فكَّر بِبناء قلعةٍ حصينةٍ تتحكَّم بِحركة الملاحة في تلك المياه، وكي لا يشرع الرُّوم بِأي أعمالٍ حربيَّةٍ قبل إتمام القلعة، أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منهُ إذن الشُرُوع في البناء بِحُجَّة حماية المُمتلكات العُثمانيَّة وتوفير الأمن بين الأناضول والروملِّي، لكن يبدو أنَّ الإمبراطور فطن لِقصد السُلطان، فاعتذر إليه بِإنَّ الطرف المطلوب ليس من أملاك الروم ولا يجري حُكمه فيه، وإنما هو من أملاك الإفرنج الجنويين، فقال السُلطان أنَّ لا حاجة لِلعُثمانيين في الاستئذان من الإفرنج، فأمر البنَّائين - وكانوا أربعمائة - وأعانهم العسكر أيضًا، فبنوا تلك القلعة الحصينة خِلال فترةٍ وجيزة.<ref name="منجم3"/> وفي إحدى الروايات أنَّ السُلطان لمَّا أظهر مُسالمة الإمبراطور، طلب منه أن يهبه أرضًا من طرف بلاده بِمقدار جلد [[ثور (حيوان)|ثور]]، فتعجَّب ذلك قُسطنطين لكنَّهُ منح نظيره المُسلم ما طلب. فأرسل السُلطان جماعة البنَّائين والصُنَّاع، فاجتازوا المضيق وقدُّوا جلد ثورٍ قدًّا رقيقًا، فبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من فم الخليج، فبنوا على القدر الذي أحاطه ذلك الجلد سورًا منيعًا شامخًا، وحصنًا رفيعًا باذخًا، وركَّبوا فيه المدافع وجعلوا له المزاغل.{{للهامش|4}}<ref name="القرماني"/> وكان السُلطان مُحمَّد قد وصل إلى موقع البناء في يوم الأحد [[5 ربيع الأول|5 ربيع الأوَّل]] [[855 هـ|855هـ]] المُوافق فيه [[26 مارس|26 آذار (مارس)]] [[1451]]م، لِيُشرف بِنفسه على حُسن سير العمل، وقد أمر بهدم أطلال كنيسة القدِّيس ميخائيل الموجودة في تلك الناحية وأضاف أنقاضها إلى المواد التي أتى بها من الأناضول، كما أتى بالأخشاب اللازمة من المناطق الخاضعة له على شواطئ بحر البنطس (الأسود) ومن [[إزميد]]. وبقي السُلطان في هذا الموقع إلى أن اكتملت القلعة بعد بضعة أشهُر. ولمَّا كان العملُ جاريًا على قدمٍ وساقٍ في بناء القلعة العتيدة، كان السُلطان مُحمَّد يُضيف بعض الملاحق إلى [[قلعة الأناضول|قلعة أناضولي حصار]] التي شيَّدها السُلطان بايزيد الأوَّل بِبر آسيا، فرمَّم بعض استحكاماتها، وشحنها بِالمدافع والمُقاتلة، وبِذلك تمكَّن من التحكُّم في البوسفور في أضيق محلٍّ منه من الجانبين.<ref name="منجم4">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[أحمد منجم باشي|مُنجِّم باشي، أحمد بن لُطف الله السلانيكي الرُّومي المولوي الصدِّيقي]]|مؤلف2= دراسة وتحقيق: د. غسَّان بن عليّ الرمَّال|عنوان= كتاب جامع الدُول: قسم سلاطين آل عُثمان إلى سنة 1083هـ|صفحة= 458 - 464|سنة= [[1430 هـ|1430هـ]] - [[2009]]م|ناشر= دار الشفق لِلطباعة والنشر|مكان= [[بيروت]] - [[لبنان|لُبنان]]}}</ref><ref name="نبيل5">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= عليّ، عبدُ الله نبيل|عنوان= الدولة العُثمانيَّة: الدُستور، الإستخلاف والتمكين، سلاطين الدولة العُثمانيَّة، عهد الفوضى|طبعة= الأولى|صفحة= 322 - 327|سنة= [[2018]]|ناشر= مُؤسسة شباب الجامعة|ردمك= 9789772123315|مكان= [[الإسكندرية|الإسكندريَّة]] - [[مصر]]|المجلد= الجُزء الأوَّل}}</ref> ويُذكر أنَّ أعمال الإنشاء والبناء في القلعة الجديدة، التي سُمِّيت في المصادر العُثمانيَّة القديمة «بوغاز كسن حصاري» أي «القلعة قاطعة المضيق»، ثُمَّ عُرفت لاحقًا بِـ«[[قلعة روملي حصار|قلعة روملِّي حصار]]»، تمَّت في أربعة أشهُرٍ؛ وتذكر إحدى الروايات أنَّها اكتملت في أربعين يومًا،<ref name="منجم4"/> في حين تُقدِّرُ دراساتٌ مُعاصرة أنَّ هذا العمل الهائل اكتمل خِلال ثلاثة أشهر ونصف.<ref name="نبيل5"/> ولمَّا اكتملت القلعة، شحنها السُلطان بِأربعمائة جُندي مُختار بِقيادة فيروز آغا، ونُصبت فيها مدافعٌ بِمُختلف الأبعاد. وأمر السُلطان فيروز آغا بِتوقيف جميع السُفن المارَّة بِالمضيق وتفتيشها، وتحصيل رسم مُناسب مع حُمُولاتها، وإغراق أي سفينة لا تُطيع الأوامر. ولقد قام فيروز آغا بِتنفيذ هذا الأمر، حيثُ أغرق سفينة تابعة لِلبُندُقيَّة، في شهر شعبان المُوافق لِشهر آب (أغسطس)، نظرًا لِرفضها امتثال الأوامر.<ref group="ِ">Silburn, P. A. B. (1912). [https://books.google.com/books?id=aRpCAAAAIAAJ ''The evolution of sea-power'']. London: Longmans, Green and Co. {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20200214145901/https://books.google.com/books?id=aRpCAAAAIAAJ |date=14 فبراير 2020}}</ref><ref name="نبيل5"/><ref name="الرشيدي"/> وعاد السُلطان إلى أدرنة يوم الإثنين [[12 شعبان]] المُوافق فيه [[28 أغسطس|28 آب (أغسطس)]]،<ref name="نبيل5"/> لِيُتابع استعدادات فتح القُسطنطينيَّة.
لمَّا كان الهم الأكبر لِلسُلطان مُحمَّد هو فتح العاصمة الروميَّة العتيقة، كان عليه السيطرة على [[البوسفور (مضيق)|مضيق البوسفور]] وإحكام الرقابة العُثمانيَّة على جميع السُفن المارَّة من المضيق المذكور.<ref name="أوزتونا1"/> ومن أجل هذا، فكَّر بِبناء قلعةٍ حصينةٍ تتحكَّم بِحركة الملاحة في تلك المياه، وكي لا يشرع الرُّوم بِأي أعمالٍ حربيَّةٍ قبل إتمام القلعة، أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منهُ إذن الشُرُوع في البناء بِحُجَّة حماية المُمتلكات العُثمانيَّة وتوفير الأمن بين الأناضول والروملِّي، لكن يبدو أنَّ الإمبراطور فطن لِقصد السُلطان، فاعتذر إليه بِإنَّ الطرف المطلوب ليس من أملاك الروم ولا يجري حُكمه فيه، وإنما هو من أملاك الإفرنج الجنويين، فقال السُلطان أنَّ لا حاجة لِلعُثمانيين في الاستئذان من الإفرنج، فأمر البنَّائين - وكانوا أربعمائة - وأعانهم العسكر أيضًا، فبنوا تلك القلعة الحصينة خِلال فترةٍ وجيزة.<ref name="منجم3"/> وفي إحدى الروايات أنَّ السُلطان لمَّا أظهر مُسالمة الإمبراطور، طلب منه أن يهبه أرضًا من طرف بلاده بِمقدار جلد [[ثور (حيوان)|ثور]]، فتعجَّب ذلك قُسطنطين لكنَّهُ منح نظيره المُسلم ما طلب. فأرسل السُلطان جماعة البنَّائين والصُنَّاع، فاجتازوا المضيق وقدُّوا جلد ثورٍ قدًّا رقيقًا، فبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من [[فم الخليج]]، فبنوا على القدر الذي أحاطه ذلك الجلد سورًا منيعًا شامخًا، وحصنًا رفيعًا باذخًا، وركَّبوا فيه المدافع وجعلوا له المزاغل.{{للهامش|4}}<ref name="القرماني"/> وكان السُلطان مُحمَّد قد وصل إلى موقع البناء في يوم الأحد [[5 ربيع الأول|5 ربيع الأوَّل]] [[855 هـ|855هـ]] المُوافق فيه [[26 مارس|26 آذار (مارس)]] [[1451]]م، لِيُشرف بِنفسه على حُسن سير العمل، وقد أمر بهدم أطلال كنيسة القدِّيس ميخائيل الموجودة في تلك الناحية وأضاف أنقاضها إلى المواد التي أتى بها من الأناضول، كما أتى بالأخشاب اللازمة من المناطق الخاضعة له على شواطئ بحر البنطس (الأسود) ومن [[إزميد]]. وبقي السُلطان في هذا الموقع إلى أن اكتملت القلعة بعد بضعة أشهُر. ولمَّا كان العملُ جاريًا على قدمٍ وساقٍ في بناء القلعة العتيدة، كان السُلطان مُحمَّد يُضيف بعض الملاحق إلى [[قلعة الأناضول|قلعة أناضولي حصار]] التي شيَّدها السُلطان بايزيد الأوَّل بِبر آسيا، فرمَّم بعض استحكاماتها، وشحنها بِالمدافع والمُقاتلة، وبِذلك تمكَّن من التحكُّم في البوسفور في أضيق محلٍّ منه من الجانبين.<ref name="منجم4">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[أحمد منجم باشي|مُنجِّم باشي، أحمد بن لُطف الله السلانيكي الرُّومي المولوي الصدِّيقي]]|مؤلف2= دراسة وتحقيق: د. غسَّان بن عليّ الرمَّال|عنوان= كتاب جامع الدُول: قسم سلاطين آل عُثمان إلى سنة 1083هـ|صفحة= 458 - 464|سنة= [[1430 هـ|1430هـ]] - [[2009]]م|ناشر= دار الشفق لِلطباعة والنشر|مكان= [[بيروت]] - [[لبنان|لُبنان]]}}</ref><ref name="نبيل5">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= عليّ، عبدُ الله نبيل|عنوان= الدولة العُثمانيَّة: الدُستور، الإستخلاف والتمكين، سلاطين الدولة العُثمانيَّة، عهد الفوضى|طبعة= الأولى|صفحة= 322 - 327|سنة= [[2018]]|ناشر= مُؤسسة شباب الجامعة|ردمك= 9789772123315|مكان= [[الإسكندرية|الإسكندريَّة]] - [[مصر]]|المجلد= الجُزء الأوَّل}}</ref> ويُذكر أنَّ أعمال الإنشاء والبناء في القلعة الجديدة، التي سُمِّيت في المصادر العُثمانيَّة القديمة «بوغاز كسن حصاري» أي «القلعة قاطعة المضيق»، ثُمَّ عُرفت لاحقًا بِـ«[[قلعة روملي حصار|قلعة روملِّي حصار]]»، تمَّت في أربعة أشهُرٍ؛ وتذكر إحدى الروايات أنَّها اكتملت في أربعين يومًا،<ref name="منجم4"/> في حين تُقدِّرُ دراساتٌ مُعاصرة أنَّ هذا العمل الهائل اكتمل خِلال ثلاثة أشهر ونصف.<ref name="نبيل5"/> ولمَّا اكتملت القلعة، شحنها السُلطان بِأربعمائة جُندي مُختار بِقيادة فيروز آغا، ونُصبت فيها مدافعٌ بِمُختلف الأبعاد. وأمر السُلطان فيروز آغا بِتوقيف جميع السُفن المارَّة بِالمضيق وتفتيشها، وتحصيل رسم مُناسب مع حُمُولاتها، وإغراق أي سفينة لا تُطيع الأوامر. ولقد قام فيروز آغا بِتنفيذ هذا الأمر، حيثُ أغرق سفينة تابعة لِلبُندُقيَّة، في شهر شعبان المُوافق لِشهر آب (أغسطس)، نظرًا لِرفضها امتثال الأوامر.<ref group="ِ">Silburn, P. A. B. (1912). [https://books.google.com/books?id=aRpCAAAAIAAJ ''The evolution of sea-power'']. London: Longmans, Green and Co. {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20200214145901/https://books.google.com/books?id=aRpCAAAAIAAJ |date=14 فبراير 2020}}</ref><ref name="نبيل5"/><ref name="الرشيدي"/> وعاد السُلطان إلى أدرنة يوم الإثنين [[12 شعبان]] المُوافق فيه [[28 أغسطس|28 آب (أغسطس)]]،<ref name="نبيل5"/> لِيُتابع استعدادات فتح القُسطنطينيَّة.


باكتمال القلعة، كسب السُلطان مُحمَّد موقعًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا يحول دون وُصُول الإمدادات القادمة من إمبرطوريَّة طرابزون عن طريق بحر البنطس (الأسود)، وبِالتالي عزل القُسطنطينيَّة اقتصاديًّا، وأصبحت قلعته الجديدة قاعدةً لِأعماله العسكريَّة في أوروپَّا ومُستودعًا لِلزَّاد والعتاد.<ref name="الرشيدي">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= الرشيدي، سالم|عنوان= مُحمَّد الفاتح|طبعة= الثانية|صفحة= 71 - 73|سنة= [[2013]]|ناشر= دار البشير لِلثقافة|تاريخ الوصول= [[6 يناير|6 كانون الثاني (يناير)]] [[2020]]م|مكان= [[القاهرة]] - [[مصر]]|مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20200106222623/https://download-islamic-religion-pdf-ebooks.com/28788-free-book|تاريخ أرشيف=[[6 يناير|6 كانون الثاني (يناير)]] [[2020]]م|مسار= https://download-islamic-religion-pdf-ebooks.com/28788-free-book}}</ref> كان بناء القلعة بِمثابة النُقطة الحرجة التي وصلت إليها العلاقة السلميَّة بين البيزنطيين والعُثمانيين، إذ أدرك الإمبراطور أنَّ بناءها مُقدِّمة لِإسقاط المدينة، فتملَّكهُ الهلع، وأرسل وفدًا إلى السُلطان في أدرنة لِلاحتجاج، لِأنَّ بناء القلعة بِنظره يعني خرق السُلطان لِلمُعاهدة التي سبق أن عقدها والده مع الإمبراطور [[يوحنا الثامن باليولوج|يُوحنَّا الثامن]] ونصَّت على عدم قيام العُثمانيين بِبناء تحصيناتٍ على الساحل الأوروپي لِلبوسفور، إلَّا أنَّ السُلطان أبدى عدم اكتراث، وبيَّن بِصُورةٍ قاطعةٍ أنَّهُ لم يخرق أيَّة مُعاهدة، وأنَّهُ رجل سلام، وأنَّ ما قام به تطلَّبته سلامة دولته وجيشه، وأنَّهُ لم يستهدف نُشُوب الحرب.<ref name="كلتي">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= كلتي، برناردين|مؤلف2= ترجمة: شُكري محمود نديم|عنوان= فتح القُسطنطينيَّة|طبعة= الأولى|صفحة= 74 - 75|سنة= [[1962]]|ناشر= مكتبة النهضة|تاريخ الوصول= [[6 يناير|6 كانون الثاني (يناير)]] [[2020]]م|مكان= [[بغداد]] - [[الجمهورية العراقية (1958–68)|العراق]]|مسار= https://archive.org/details/fath.al.qostntinya1/page/n89| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20200319231057/https://archive.org/details/fath.al.qostntinya1/page/n89 | تاريخ أرشيف = 19 مارس 2020 }}</ref> وذكَّر السُلطان مُحمَّد الوفد أنَّ موقع القلعة لا يتبع بيزنطة ولا الجنويين، وأنَّهُ نُقطة عُبُور تابعة لِلعُثمانيين وحدهم. يُضاف إلى ذلك، أنَّ توفير الأمن اللازم لِلمضيق سوف يقضي على [[قرصنة]] فُرسان الإسبتاريَّة والبنادقة و[[تاج أرغون|القطلونيين]] وغيرهم ممن يُضر بِالتجارة العُثمانيَّة والبيزنطيَّة على حدٍ سواء.<ref name="نبيل5"/> ولمَّا رأى السُلطان إصرار الوفد على موقفه قال لهم: {{اقتباس مضمن|إِنَّ لَكُم القُسطَنطِينِيَّةَ بِأسوَارِهَا وَلَيسَ لَكُم وَرَاءَ ذَلِكَ مِن شَيءٍ، وَهَل نَسِيتُم مَا انتَابَ وَالِدي مِنَ الفَزَعِ عِندَمَا تَحَالَفَ إِمبَرَاطُورُكُم مَعَ المَجَرِ؟... وَقَد ارتَعَد المُسلِمُونَ مِنَ الخَوفِ والفَزَعِ، وكُنتُم تسخَرُونَ مِنهُم وَتشمَتُون...}}، وأعلمهم أنَّهُ ليس لِلرُّومِ الحق أو القُوَّة في منع ما يقوم به، فإنَّ كلا الشاطئين يتبع الدولة العُثمانيَّة، فأمَّا الشاطئ الآسيوي فلِأنَّهُ يسكنه المُسلمون، وأمَّا الشاطئ الأوروپي فلِأنَّ الروم هجروه ولا يقدرون على الدفاع عنه. وطرد السُلطان أعضاء الوفد شرَّ طردة قائلًا لهم: {{اقتباس مضمن|اذْهَبُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ السُّلْطَانَ العُثْمانِيُّ الآنَ يَخْتَلِفُ عَن أَجدَادِهِ فَإِنَّ لِي عَزمًا فَوقَ عَزمِهِم وَقُوَّةً فَوقَ قُوَّتِهم، اِنصَرِفُوا الآنَ إِلَى دِيَارِكُم بِسَلَامٍ، وَواللهِ مَا جَائَنِي أَحَدٌ مِنكُم بَعدَ ذَلِكَ بِمِثلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إلَّا قَتَلتُه}}.<ref name="الرشيدي"/> نتيجةً لِرد السُلطان قرَّر الإمبراطور العمل على تدمير القلعة وقتل حاميتها، فحذَّرهُ رجال بلاطه أنَّ هذا لا يعني سوى الإسراع في إعلان حربٍ غير مُتكافئة، وكان الإمبراطور يُدرك ذلك، إلَّا أنَّهُ اعتقد أنَّ لا قيمة لِتأجيل الحرب.<ref name="كلتي"/> وبِموجب إحدى الروايات فإنَّ الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي حاول إقناع السُلطان مُحمَّد بِعدم مُهاجمة القُسطنطينيَّة، وذلك مُقابل مبلغٍ من المال تلقَّاه من الإمبراطور البيزنطي. وبِحسب هذه الرواية فإنَّ الإمبراطور أرسل إلى خليل باشا، الذي كان على علاقةٍ وثيقةٍ وقديمةٍ بِالإمبراطور، أسماكًا محشُوَّةً [[ذهب|بِالذهب]]؛ فعمل الباشا، مُقابل هذا الذهب، على إقناع السُلطان بِالتخلِّي عن فكرة الفتح. إلَّا أنَّ السُلطان، الذي كان يعلم حقيقة الموضوع، قال أنَّهُ سيُمضي الشتاء في أدرنة ثُمَّ يُفكِّر في الموضوع عند حُلُول الربيع.<ref name="نبيل5"/><ref name="الرشيدي"/> وتُشير المصادر البيزنطيَّة أيضًا، أنَّ العُثمانيين كانوا يُسمُّون خليل باشا بِـ«شريك الكافر». وفي جميع الأحوال، فإنَّ المصادر تتفق بِشكلٍ عام، أنَّ خليل باشا كان مُعارضًا لِلحملة على القُسطنطينيَّة؛ بل يتجاوز الأمر ذلك، حيثُ يوجد ادعاء بأنَّ الصدر الأعظم سالف الذِكر، كان يتجسَّس لِصالح الروم.<ref name="نبيل5"/>
باكتمال القلعة، كسب السُلطان مُحمَّد موقعًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا يحول دون وُصُول الإمدادات القادمة من إمبرطوريَّة طرابزون عن طريق بحر البنطس (الأسود)، وبِالتالي عزل القُسطنطينيَّة اقتصاديًّا، وأصبحت قلعته الجديدة قاعدةً لِأعماله العسكريَّة في أوروپَّا ومُستودعًا لِلزَّاد والعتاد.<ref name="الرشيدي">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= الرشيدي، سالم|عنوان= مُحمَّد الفاتح|طبعة= الثانية|صفحة= 71 - 73|سنة= [[2013]]|ناشر= دار البشير لِلثقافة|تاريخ الوصول= [[6 يناير|6 كانون الثاني (يناير)]] [[2020]]م|مكان= [[القاهرة]] - [[مصر]]|مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20200106222623/https://download-islamic-religion-pdf-ebooks.com/28788-free-book|تاريخ أرشيف=[[6 يناير|6 كانون الثاني (يناير)]] [[2020]]م|مسار= https://download-islamic-religion-pdf-ebooks.com/28788-free-book}}</ref> كان بناء القلعة بِمثابة النُقطة الحرجة التي وصلت إليها العلاقة السلميَّة بين البيزنطيين والعُثمانيين، إذ أدرك الإمبراطور أنَّ بناءها مُقدِّمة لِإسقاط المدينة، فتملَّكهُ الهلع، وأرسل وفدًا إلى السُلطان في أدرنة لِلاحتجاج، لِأنَّ بناء القلعة بِنظره يعني خرق السُلطان لِلمُعاهدة التي سبق أن عقدها والده مع الإمبراطور [[يوحنا الثامن باليولوج|يُوحنَّا الثامن]] ونصَّت على عدم قيام العُثمانيين بِبناء تحصيناتٍ على الساحل الأوروپي لِلبوسفور، إلَّا أنَّ السُلطان أبدى عدم اكتراث، وبيَّن بِصُورةٍ قاطعةٍ أنَّهُ لم يخرق أيَّة مُعاهدة، وأنَّهُ رجل سلام، وأنَّ ما قام به تطلَّبته سلامة دولته وجيشه، وأنَّهُ لم يستهدف نُشُوب الحرب.<ref name="كلتي">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= كلتي، برناردين|مؤلف2= ترجمة: شُكري محمود نديم|عنوان= فتح القُسطنطينيَّة|طبعة= الأولى|صفحة= 74 - 75|سنة= [[1962]]|ناشر= مكتبة النهضة|تاريخ الوصول= [[6 يناير|6 كانون الثاني (يناير)]] [[2020]]م|مكان= [[بغداد]] - [[الجمهورية العراقية (1958–68)|العراق]]|مسار= https://archive.org/details/fath.al.qostntinya1/page/n89| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20200319231057/https://archive.org/details/fath.al.qostntinya1/page/n89 | تاريخ أرشيف = 19 مارس 2020 }}</ref> وذكَّر السُلطان مُحمَّد الوفد أنَّ موقع القلعة لا يتبع بيزنطة ولا الجنويين، وأنَّهُ نُقطة عُبُور تابعة لِلعُثمانيين وحدهم. يُضاف إلى ذلك، أنَّ توفير الأمن اللازم لِلمضيق سوف يقضي على [[قرصنة]] فُرسان الإسبتاريَّة والبنادقة و[[تاج أرغون|القطلونيين]] وغيرهم ممن يُضر بِالتجارة العُثمانيَّة والبيزنطيَّة على حدٍ سواء.<ref name="نبيل5"/> ولمَّا رأى السُلطان إصرار الوفد على موقفه قال لهم: {{اقتباس مضمن|إِنَّ لَكُم القُسطَنطِينِيَّةَ بِأسوَارِهَا وَلَيسَ لَكُم وَرَاءَ ذَلِكَ مِن شَيءٍ، وَهَل نَسِيتُم مَا انتَابَ وَالِدي مِنَ الفَزَعِ عِندَمَا تَحَالَفَ إِمبَرَاطُورُكُم مَعَ المَجَرِ؟... وَقَد ارتَعَد المُسلِمُونَ مِنَ الخَوفِ والفَزَعِ، وكُنتُم تسخَرُونَ مِنهُم وَتشمَتُون...}}، وأعلمهم أنَّهُ ليس لِلرُّومِ الحق أو القُوَّة في منع ما يقوم به، فإنَّ كلا الشاطئين يتبع الدولة العُثمانيَّة، فأمَّا الشاطئ الآسيوي فلِأنَّهُ يسكنه المُسلمون، وأمَّا الشاطئ الأوروپي فلِأنَّ الروم هجروه ولا يقدرون على الدفاع عنه. وطرد السُلطان أعضاء الوفد شرَّ طردة قائلًا لهم: {{اقتباس مضمن|اذْهَبُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ السُّلْطَانَ العُثْمانِيُّ الآنَ يَخْتَلِفُ عَن أَجدَادِهِ فَإِنَّ لِي عَزمًا فَوقَ عَزمِهِم وَقُوَّةً فَوقَ قُوَّتِهم، اِنصَرِفُوا الآنَ إِلَى دِيَارِكُم بِسَلَامٍ، وَواللهِ مَا جَائَنِي أَحَدٌ مِنكُم بَعدَ ذَلِكَ بِمِثلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إلَّا قَتَلتُه}}.<ref name="الرشيدي"/> نتيجةً لِرد السُلطان قرَّر الإمبراطور العمل على تدمير القلعة وقتل حاميتها، فحذَّرهُ رجال بلاطه أنَّ هذا لا يعني سوى الإسراع في إعلان حربٍ غير مُتكافئة، وكان الإمبراطور يُدرك ذلك، إلَّا أنَّهُ اعتقد أنَّ لا قيمة لِتأجيل الحرب.<ref name="كلتي"/> وبِموجب إحدى الروايات فإنَّ الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي حاول إقناع السُلطان مُحمَّد بِعدم مُهاجمة القُسطنطينيَّة، وذلك مُقابل مبلغٍ من المال تلقَّاه من الإمبراطور البيزنطي. وبِحسب هذه الرواية فإنَّ الإمبراطور أرسل إلى خليل باشا، الذي كان على علاقةٍ وثيقةٍ وقديمةٍ بِالإمبراطور، أسماكًا محشُوَّةً [[ذهب|بِالذهب]]؛ فعمل الباشا، مُقابل هذا الذهب، على إقناع السُلطان بِالتخلِّي عن فكرة الفتح. إلَّا أنَّ السُلطان، الذي كان يعلم حقيقة الموضوع، قال أنَّهُ سيُمضي الشتاء في أدرنة ثُمَّ يُفكِّر في الموضوع عند حُلُول الربيع.<ref name="نبيل5"/><ref name="الرشيدي"/> وتُشير المصادر البيزنطيَّة أيضًا، أنَّ العُثمانيين كانوا يُسمُّون خليل باشا بِـ«شريك الكافر». وفي جميع الأحوال، فإنَّ المصادر تتفق بِشكلٍ عام، أنَّ خليل باشا كان مُعارضًا لِلحملة على القُسطنطينيَّة؛ بل يتجاوز الأمر ذلك، حيثُ يوجد ادعاء بأنَّ الصدر الأعظم سالف الذِكر، كان يتجسَّس لِصالح الروم.<ref name="نبيل5"/>
سطر 177: سطر 177:
[[ملف:Battle of Nandorfehervar.jpg|تصغير|يمين|اشتباك المُسلمين والصليبيين عند أسوار بلغراد، ويبدو الراهب يُوحنَّا الكاپسترانوي في وسط الصورة حاملًا الصليب.]]
[[ملف:Battle of Nandorfehervar.jpg|تصغير|يمين|اشتباك المُسلمين والصليبيين عند أسوار بلغراد، ويبدو الراهب يُوحنَّا الكاپسترانوي في وسط الصورة حاملًا الصليب.]]
[[ملف:Siege of Nándorfehérvár.jpg|تصغير|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ حصار العُثمانيين لِمدينة بلغراد.]]
[[ملف:Siege of Nándorfehérvár.jpg|تصغير|مُنمنمة عُثمانيَّة تُصوِّرُ حصار العُثمانيين لِمدينة بلغراد.]]
بعد هذه الانتصارات، اشتدَّ شُعُور الناس في أوروپَّا بِالخطر الإسلامي وتهديده، لا سيَّما وأنَّ ما يقف بِوجه العُثمانيين الآن هو مدينة [[بلغراد]] الحصينة فقط، بعد أن سقطت بقيَّة القلاع والحُصُون الصربيَّة في أيديهم، فإذا ما سقطت بلغراد، المُسمَّاة «باب المجر»، فلن يقف في سبيل الإسلام بعد ذلك شيء، وستتدفَّق جُمُوع المُسلمين على ألمانيا وما يُحيطُ بها. تجاه هذا الخطر المُحدق، راح البابا [[كاليستوس الثالث|كاليكست الثالث]] يدعو المسيحيين إلى الانخراط في حملةٍ صليبيَّةٍ ضدَّ العُثمانيين، وكلَّف الراهب [[فرنسيسكانية|الفرنسيسكاني]] يُوحنَّا الكاپسترانوي {{إيطالية|Giovanni da Capestrano}} لِلتبشير بها، فأخذ الأخير يجول في [[الإمبراطورية الإسبانية|إسپانيا]] و[[مملكة فرنسا|فرنسا]] و[[مملكة بولندا (1385-1569)|بولونيا]] والمجر يُلهب الحماس في صُدُور الناس بِخطبه الناريَّة ويدعوهم إلى شنِّ حربٍ صليبيَّةٍ على العُثمانيين.<ref name="الرشيدي4"/> وشرَّع البابا لِلنصارى صلاة التبشير، فتُدق النواقيس ويتوجَّه النصارى إلى السيِّدة [[مريم العذراء]] يسألون العون ويطلبون النصر على المُسلمين، وطلب إلى الناس في جميع البلاد المسيحيَّة أن لا يغفلوا عن دقِّ هذا الناقوس صباح كُلَّ يوم والذي سمَّاه «ناقوس التُرك». وأرسل كاليكست الثالث مندوبه الكردينال يُوحنَّا أنجيلو إلى الوصيّ على عرش المجر يُوحنَّا هونياد يطلب منهُ قيادة الحملة الصليبيَّة العتيدة، فاستجاب لِهذا النداء. وهكذا تكوَّن حلفٌ صليبيٌّ ضدَّ العُثمانيين اشترك فيه هونياد، و[[ألفونسو الخامس ملك أراغون|ألفونسو الخامس ملك أرغون]]، و[[فيليب الطيب|فيليپ دوق بُرغُونية]]، وعددٌ من أُمراء وقادة [[شبه الجزيرة الإيطالية|إيطاليا]] والبُندُقيَّة وجنوة وألمانيا و[[بوهيميا]] وبولونيا والصرب وفُرسان الإسبتاريَّة. ولم ينتظر السُلطان مُحمَّد حتَّى يدهمه الهُجُوم، بل سارع إلى إعداد جيشٍ عرمرميّ في سبيل فتح بلغراد ومُباغتة الأعداء.<ref name="الرشيدي4"/> وفي صيف سنة [[860 هـ|860هـ]] المُوافقة لِسنة [[1456]]م، توجَّه السُلطان في عدَّةٍ كاملةٍ وجيشٍ عظيمٍ، يُقدَّرُ تعداده بين 30,000 و100,000 جُندي بِالإضافة إلى 200 سفينة،<ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = Kenneth M. Setton|عنوان = The Papacy and the Levant, 1204-1571, Vol. 3: The Sixteenth Century to the Reign of Julius III|ردمك= 978-0871691613 |سنة = 1984|صفحة = 174}}</ref><ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = Andrew Ayton|مؤلف2 = Leslie Price|عنوان = The Medieval Military Revolution: State, Society and Military Change in Medieval and Early Modern Society|مسار الفصل = http://www.deremilitari.org/resources/articles/ayton1.htm|تاريخ الوصول = 1 October 2010|ناشر = I.B. Tauris|مكان = London, England|سنة = 1998|ردمك= 1-86064-353-1|الفصل = The Military Revolution from a Medieval Perspective|تاريخ أرشيف = 12 نوفمبر 2010|مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20101112045107/http://www.deremilitari.org/RESOURCES/ARTICLES/ayton1.htm|حالة المسار = dead}}</ref><ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = John Julius Norwich|عنوان = A History of Venice|ناشر = Alfred B. Knopf|مكان = [[نيويورك|New York]], United States|سلسلة = Lecture Notes in Mathematics 1358|سنة = 1982|صفحة = 269|ردمك= 0-679-72197-5}}</ref><ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = Kenneth M. Setton|عنوان = The Papacy and the Levant, 1204-1571, Vol. 3: The Sixteenth Century to the Reign of Julius III|ردمك= 978-0871691613 |سنة = 1984|صفحة = 175}}</ref> وسار إلى فتح بلغراد، فمرَّ من جنوب بلاد الصرب إلى شمالها بدون أن يلقى أقل مُعارضة حتَّى وصل المدينة الحصينة، فحاصرها من جهة البرِّ ونهريّ الطونة و[[سافا|صوه]]، وكان هونياد قد دخل المدينة في جمعٍ عظيمٍ قبل إتمام الحصار عليها، واستعدَّ لِدفع المُسلمين عنها.<ref name="محمد فريد4"/><ref name="منجم5"/> وقاتل السُلطان حامية بلغراد قتالًا شديدًا مديدًا، ودافع هونياد عنها دفاع الأبطال، رُغم القصف المدفعي العُثماني لِلأسوار ومُحاولة العُثمانيين تلغيمها وتفجيرها. ويُحكى أنَّ السُلطان قاتل بِنفسه في هذه الواقعة وأُصيب بِجُرحٍ بالغٍ في فخذه، وقُتل كُلٌ من قراجة باشا وحسن آغا مُقدِّم الإنكشاريَّة ممَّا أوقع الجيش العُثماني في اضطرابٍ كبير، فيئس السُلطان من فتح المدينة ورفع عنها الحصار، وعاد إلى أدرنة خائبًا، وأتلف الصليبيُّون السُفن العُثمانيَّة التي كانت في نهريّ الطونة وصوه مع الرجال والمدافع التي فيها.<ref name="محمد فريد4"/><ref name="منجم5"/>
بعد هذه الانتصارات، اشتدَّ شُعُور الناس في أوروپَّا بِالخطر الإسلامي وتهديده، لا سيَّما وأنَّ ما يقف بِوجه العُثمانيين الآن هو مدينة [[بلغراد]] الحصينة فقط، بعد أن سقطت بقيَّة القلاع والحُصُون الصربيَّة في أيديهم، فإذا ما سقطت بلغراد، المُسمَّاة «باب المجر»، فلن يقف في سبيل الإسلام بعد ذلك شيء، وستتدفَّق جُمُوع المُسلمين على ألمانيا وما يُحيطُ بها. تجاه هذا الخطر المُحدق، راح البابا [[كاليستوس الثالث|كاليكست الثالث]] يدعو المسيحيين إلى الانخراط في حملةٍ صليبيَّةٍ ضدَّ العُثمانيين، وكلَّف الراهب [[فرنسيسكانية|الفرنسيسكاني]] يُوحنَّا الكاپسترانوي {{إيطالية|Giovanni da Capestrano}} لِلتبشير بها، فأخذ الأخير يجول في [[الإمبراطورية الإسبانية|إسپانيا]] و[[مملكة فرنسا|فرنسا]] و[[مملكة بولندا (1385-1569)|بولونيا]] والمجر يُلهب الحماس في صُدُور الناس بِخطبه الناريَّة ويدعوهم إلى شنِّ حربٍ صليبيَّةٍ على العُثمانيين.<ref name="الرشيدي4"/> وشرَّع البابا لِلنصارى صلاة التبشير، فتُدق النواقيس ويتوجَّه النصارى إلى السيِّدة [[مريم العذراء]] يسألون العون ويطلبون النصر على المُسلمين، وطلب إلى الناس في جميع البلاد المسيحيَّة أن لا يغفلوا عن دقِّ هذا الناقوس صباح كُلَّ يوم والذي سمَّاه «ناقوس التُرك». وأرسل كاليكست الثالث مندوبه الكردينال يُوحنَّا أنجيلو إلى الوصيّ على عرش المجر يُوحنَّا هونياد يطلب منهُ قيادة الحملة الصليبيَّة العتيدة، فاستجاب لِهذا النداء. وهكذا تكوَّن حلفٌ صليبيٌّ ضدَّ العُثمانيين اشترك فيه هونياد، و[[ألفونسو الخامس ملك أراغون|ألفونسو الخامس ملك أرغون]]، و[[فيليب الطيب|فيليپ دوق بُرغُونية]]، وعددٌ من أُمراء وقادة [[شبه الجزيرة الإيطالية|إيطاليا]] والبُندُقيَّة وجنوة وألمانيا و[[بوهيميا]] وبولونيا والصرب وفُرسان الإسبتاريَّة. ولم ينتظر السُلطان مُحمَّد حتَّى يدهمه الهُجُوم، بل سارع إلى إعداد جيشٍ عرمرميّ في سبيل فتح بلغراد ومُباغتة الأعداء.<ref name="الرشيدي4"/> وفي صيف سنة [[860 هـ|860هـ]] المُوافقة لِسنة [[1456]]م، توجَّه السُلطان في عدَّةٍ كاملةٍ وجيشٍ عظيمٍ، يُقدَّرُ تعداده بين 30,000 و100,000 جُندي بِالإضافة إلى 200 سفينة،<ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = Kenneth M. Setton|عنوان = The Papacy and the Levant, 1204-1571, Vol. 3: The Sixteenth Century to the Reign of Julius III|وصلة = https://archive.org/details/papacylevant12040003unse|ردمك= 978-0871691613 |سنة = 1984|صفحة = [https://archive.org/details/papacylevant12040003unse/page/174 174]}}</ref><ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = Andrew Ayton|مؤلف2 = Leslie Price|عنوان = The Medieval Military Revolution: State, Society and Military Change in Medieval and Early Modern Society|مسار الفصل = http://www.deremilitari.org/resources/articles/ayton1.htm|تاريخ الوصول = 1 October 2010|ناشر = I.B. Tauris|مكان = London, England|سنة = 1998|ردمك= 1-86064-353-1|الفصل = The Military Revolution from a Medieval Perspective|تاريخ أرشيف = 12 نوفمبر 2010|مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20101112045107/http://www.deremilitari.org/RESOURCES/ARTICLES/ayton1.htm|حالة المسار = dead}}</ref><ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = John Julius Norwich|عنوان = A History of Venice|ناشر = Alfred B. Knopf|مكان = [[نيويورك|New York]], United States|سلسلة = Lecture Notes in Mathematics 1358|سنة = 1982|صفحة = 269|ردمك= 0-679-72197-5}}</ref><ref group="ِ">{{استشهاد بكتاب|مؤلف = Kenneth M. Setton|عنوان = The Papacy and the Levant, 1204-1571, Vol. 3: The Sixteenth Century to the Reign of Julius III|وصلة = https://archive.org/details/papacylevant12040003unse|ردمك= 978-0871691613 |سنة = 1984|صفحة = [https://archive.org/details/papacylevant12040003unse/page/175 175]}}</ref> وسار إلى فتح بلغراد، فمرَّ من جنوب بلاد الصرب إلى شمالها بدون أن يلقى أقل مُعارضة حتَّى وصل المدينة الحصينة، فحاصرها من جهة البرِّ ونهريّ الطونة و[[سافا|صوه]]، وكان هونياد قد دخل المدينة في جمعٍ عظيمٍ قبل إتمام الحصار عليها، واستعدَّ لِدفع المُسلمين عنها.<ref name="محمد فريد4"/><ref name="منجم5"/> وقاتل السُلطان حامية بلغراد قتالًا شديدًا مديدًا، ودافع هونياد عنها دفاع الأبطال، رُغم القصف المدفعي العُثماني لِلأسوار ومُحاولة العُثمانيين تلغيمها وتفجيرها. ويُحكى أنَّ السُلطان قاتل بِنفسه في هذه الواقعة وأُصيب بِجُرحٍ بالغٍ في فخذه، وقُتل كُلٌ من قراجة باشا وحسن آغا مُقدِّم الإنكشاريَّة ممَّا أوقع الجيش العُثماني في اضطرابٍ كبير، فيئس السُلطان من فتح المدينة ورفع عنها الحصار، وعاد إلى أدرنة خائبًا، وأتلف الصليبيُّون السُفن العُثمانيَّة التي كانت في نهريّ الطونة وصوه مع الرجال والمدافع التي فيها.<ref name="محمد فريد4"/><ref name="منجم5"/>
[[ملف:Golubac Fortress (27379120351).jpg|تصغير|قلعة گورجنيلك. استرجعها الصدر الأعظم محمود باشا لِلعُثمانيين.]]
[[ملف:Golubac Fortress (27379120351).jpg|تصغير|قلعة گورجنيلك. استرجعها الصدر الأعظم محمود باشا لِلعُثمانيين.]]
وعلى الرُغم من أنَّ العُثمانيين لم يتمكنوا من فتح بلغراد في هذه الحملة، إلَّا أنَّهم ربحوا أمرًا عظيمًا وهو إصابة هونياد بِجراحٍ بليغةٍ مات بِسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بِنحو عشرين يومًا، وتحديدًا يوم [[9 رمضان]] [[860 هـ|860هـ]] المُوافق فيه [[11 أغسطس|11 آب (أغسطس)]] [[1456]]م. وفي يوم [[6 محرم|6 مُحرَّم]] [[862 هـ|862هـ]] المُوافق فيه [[24 ديسمبر|24 كانون الأوَّل (ديسمبر)]] [[1457]]م، أرسل عيسى بك بن إسحٰق إلى السُلطان يُعلمه أنَّ قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ قد تُوفي هو الآخر، وبقي ما بيده من البلاد خالية عن الحاكم والدافع، وقد دبَّت الفوضى في حُكُومة الصرب بِسبب تنازع ورثة برانكوڤيچ فيما بينهم، فأمر السُلطان بِإعداد حملةٍ أُخرى وإرسالها إلى بلاد الصرب لاستكمال فتحها.<ref name="منجم6">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[أحمد منجم باشي|مُنجِّم باشي، أحمد بن لُطف الله السلانيكي الرُّومي المولوي الصدِّيقي]]|مؤلف2= دراسة وتحقيق: د. غسَّان بن عليّ الرمَّال|عنوان= كتاب جامع الدُول: قسم سلاطين آل عُثمان إلى سنة 1083هـ|صفحة= 471 - 477|سنة= [[1430 هـ|1430هـ]] - [[2009]]م|ناشر= دار الشفق لِلطباعة والنشر|مكان= [[بيروت]] - [[لبنان|لُبنان]]}}</ref><ref name="طقوش3">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[محمد سهيل طقوش|طقّوش، مُحمَّد سُهيل]]|عنوان= تاريخ العثمانيين: من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة|طبعة= الثالثة|صفحة= 116 - 117|سنة= [[1434 هـ|1434هـ]] - [[2013]]م|ناشر= دار النفائس|ردمك= 9789953184432|تاريخ الوصول= [[28 أبريل|28 نيسان (أبريل)]] [[2019]]م|مكان= [[بيروت]] - [[لبنان|لُبنان]]|مسار=https://ia600309.us.archive.org/19/items/ottn_hist7/ottoman.pdf| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20190428194857/https://ia600309.us.archive.org/19/items/ottn_hist7/ottoman.pdf | تاريخ أرشيف = 28 أبريل 2019 }}</ref> وكان السُلطان مُحمَّد قد عزل زغانوس باشا عن الصدارة العُظمى وعيَّن مكانه محمود باشا الصربي،<ref group="ِ" name="مولد تلقائيا1" /> فسيَّره في عسكر الأناضول وألفٍ من الإنكشاريَّة إلى تسخير بقيَّة بلاد الصرب، فأسرع السير وكبس أهالي تلك البلاد على حين غفلة، وفتح من الحُصُون المنيعة: «وضة» و«أمولة» و«[[كرويه]]» و«ترايجة» و«صوه»، ثُمَّ توجَّه إلى قلعة سمندريَّة وحاصرها أيَّامًا، وخرَّب نواحيها، وقُتل من حامية القلعة خلقُ كثيرٌ حين المُحاصرة. إلَّا أنَّهُ لمَّا رأى أنَّ فتحها يحتاج إلى زمانٍ مديدٍ انعطف إلى صوب بلغراد، وابتنى بِجانبها بُرجًا حصينًا لِتضييق الخناق عليها، ثُمَّ توجَّه لِلسيطرة على المناجم الواقعة في نواحي بلدة [[زفورنيك|إزورنيق]]، ثُمَّ توجَّه لِاسترداد قلعة «گورجنيلك» التي افتُتحت زمن السُلطان مُراد الثاني وعاد الصربيُّون وأخذوها مُجددًا في وقتٍ لاحق، فحاصرها أيَّامًا وقاتل حاميتها قتالًا شديدًا حتَّى طلبوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك واستلم القلعة، فرتَّب لوازمها من الجُنُود والمُؤمن، وعمَّرها وحصَّنها، ومكث فيها عدَّة أيَّام، وأرسل إلى السُلطان يُعمله بِفُتُوحاته وما اغتنمه، فسُرَّ الأخير سُرورًا عظيمًا.<ref name="منجم6"/>
وعلى الرُغم من أنَّ العُثمانيين لم يتمكنوا من فتح بلغراد في هذه الحملة، إلَّا أنَّهم ربحوا أمرًا عظيمًا وهو إصابة هونياد بِجراحٍ بليغةٍ مات بِسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بِنحو عشرين يومًا، وتحديدًا يوم [[9 رمضان]] [[860 هـ|860هـ]] المُوافق فيه [[11 أغسطس|11 آب (أغسطس)]] [[1456]]م. وفي يوم [[6 محرم|6 مُحرَّم]] [[862 هـ|862هـ]] المُوافق فيه [[24 ديسمبر|24 كانون الأوَّل (ديسمبر)]] [[1457]]م، أرسل عيسى بك بن إسحٰق إلى السُلطان يُعلمه أنَّ قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ قد تُوفي هو الآخر، وبقي ما بيده من البلاد خالية عن الحاكم والدافع، وقد دبَّت الفوضى في حُكُومة الصرب بِسبب تنازع ورثة برانكوڤيچ فيما بينهم، فأمر السُلطان بِإعداد حملةٍ أُخرى وإرسالها إلى بلاد الصرب لاستكمال فتحها.<ref name="منجم6">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[أحمد منجم باشي|مُنجِّم باشي، أحمد بن لُطف الله السلانيكي الرُّومي المولوي الصدِّيقي]]|مؤلف2= دراسة وتحقيق: د. غسَّان بن عليّ الرمَّال|عنوان= كتاب جامع الدُول: قسم سلاطين آل عُثمان إلى سنة 1083هـ|صفحة= 471 - 477|سنة= [[1430 هـ|1430هـ]] - [[2009]]م|ناشر= دار الشفق لِلطباعة والنشر|مكان= [[بيروت]] - [[لبنان|لُبنان]]}}</ref><ref name="طقوش3">{{استشهاد بكتاب|مؤلف1= [[محمد سهيل طقوش|طقّوش، مُحمَّد سُهيل]]|عنوان= تاريخ العثمانيين: من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة|طبعة= الثالثة|صفحة= 116 - 117|سنة= [[1434 هـ|1434هـ]] - [[2013]]م|ناشر= دار النفائس|ردمك= 9789953184432|تاريخ الوصول= [[28 أبريل|28 نيسان (أبريل)]] [[2019]]م|مكان= [[بيروت]] - [[لبنان|لُبنان]]|مسار=https://ia600309.us.archive.org/19/items/ottn_hist7/ottoman.pdf| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20190428194857/https://ia600309.us.archive.org/19/items/ottn_hist7/ottoman.pdf | تاريخ أرشيف = 28 أبريل 2019 }}</ref> وكان السُلطان مُحمَّد قد عزل زغانوس باشا عن الصدارة العُظمى وعيَّن مكانه محمود باشا الصربي،<ref group="ِ" name="مولد تلقائيا1" /> فسيَّره في عسكر الأناضول وألفٍ من الإنكشاريَّة إلى تسخير بقيَّة بلاد الصرب، فأسرع السير وكبس أهالي تلك البلاد على حين غفلة، وفتح من الحُصُون المنيعة: «وضة» و«أمولة» و«[[كرويه]]» و«ترايجة» و«صوه»، ثُمَّ توجَّه إلى قلعة سمندريَّة وحاصرها أيَّامًا، وخرَّب نواحيها، وقُتل من حامية القلعة خلقُ كثيرٌ حين المُحاصرة. إلَّا أنَّهُ لمَّا رأى أنَّ فتحها يحتاج إلى زمانٍ مديدٍ انعطف إلى صوب بلغراد، وابتنى بِجانبها بُرجًا حصينًا لِتضييق الخناق عليها، ثُمَّ توجَّه لِلسيطرة على المناجم الواقعة في نواحي بلدة [[زفورنيك|إزورنيق]]، ثُمَّ توجَّه لِاسترداد قلعة «گورجنيلك» التي افتُتحت زمن السُلطان مُراد الثاني وعاد الصربيُّون وأخذوها مُجددًا في وقتٍ لاحق، فحاصرها أيَّامًا وقاتل حاميتها قتالًا شديدًا حتَّى طلبوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك واستلم القلعة، فرتَّب لوازمها من الجُنُود والمُؤمن، وعمَّرها وحصَّنها، ومكث فيها عدَّة أيَّام، وأرسل إلى السُلطان يُعمله بِفُتُوحاته وما اغتنمه، فسُرَّ الأخير سُرورًا عظيمًا.<ref name="منجم6"/>