أرابيكا:علم زائف

من أرابيكا، الموسوعة الحرة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

يتطلب إنتاج المعرفة البشرية الالتزام بمناهج بحث تخص الموضوع المدروس، ومنهج البحث هو مجموعة من القواعد الصارمة التي تحدد طريقة إجراء الدراسة وكيفية جمع البيانات وقواعد تحليلها وأسلوب استخلاص النتائج، وهي تهدف إلى إنتاج معرفة حيادية وسليمة محصنة من المغالطات ولا تتأثر بفكر الباحث. بخلاف ذلك، فإن النتيجة هي معرفة مُوجّهة ومتلاعبُ بها بواسطة علم زائف. والعلم الزائف هو طريقة لإنتاج مادة معرفية موجهة لخدمة أغراض معنية، سياسية أو ثقافية أو تجارية، وهو يتبع منهجية غير سوية، وتبدو منتجاته علمية لكنها ليست كذلك، بل تعج بالمغالطات التي تتعارض مع بعضها البعض ومع منهج البحث السوي.

وللفلسفة فرع يهتم بتنظيم المعرفة البشرية، وهو فلسفة المعرفة. وموضوعها تحديد ماهية المعرفة، وكيف يمكن تحديد المعرفة السليمة من الفاسدة. وفي حين قد تبدو المعرفة الفاسدة واضحة جلية في بعض الظروف، فإن كشفها يكون صعباً معقداً في أحيان كثيرة أخرى، وغالباً ما يتطلب كشف العلم الزائف تدخل مختصين وفلاسفة لتبيان مواضع الخلل في المنهجية والنتيجة، في الوقت الذي يصعب فيه كشف العلم الزائف على العامة فيغرقون فيه بدون حول لا قوة، كيف لا وهم الشريحة المستهدفة به أساساً.

فيما سيأتي، مجموعة من الطرق المتبعة في العلوم الزائفة بغرض توليد معرفة فاسدة، وذلك عن طريق التلاعب بالمصادر أو بالأسلوب أو بالمنهجية، وقد أضفت أمثلة من تجربتي الشخصية الخاصة لتوضيح كل بند، ولكن يجب الانتباه إلى أن هذه الطرق عامة وقد تطبق في مواضع أخرى:

أولاً: التلاعب بالمصادر
  1. اعتماد مصدر لا يمكن التحقق منه: يجب أن تكون المصادر جميعها منشورة ومتاحة للعامة للعودة إليها والتحقق منها. ويحصل التلاعب هنا بالاستناد إلى مصدر غير متوافر، مثل منشور محلي أو كتاب قديم فقدت جميع نسخه، أو لشاهد عيان لا يمكن التحقق منه أو وضع مصدر عام مثل موسوعة مكونة من عدد كبير من الأجزاء بدون تحديد رقم الجزء والصفحة.
  2. اعتماد مصدر واحد: وهنا يبنى البحث كله على مصدر واحد فقط، وهذه الطريقة متبعة في التدليس على الروايات التاريخية بشكل خاص، ومثالها اعتماد رواية ابن إياس فقط عند الحديث عن انتصار العثمانيين على المماليك ودخولهم لسوريا ومصر، على الرغم من وجود مصادر أخرى تقدم روايات متنوعة للحادثة نفسها.
  3. اعتماد مصادر متنوعة تتبنى وجهة نظر واحدة: وهو شكل متطور عن اعتماد المصدر الواحد، وفيه يكون هناك تنوع في المصادر، ولكنها جميعها تتبنى وجهة النظر نفسها أو وجهات نظر قريبة إليها أو مشتقة عنها. ومثال ذلك اعتماد مصادر الرواية السريانية فقط عند الحديث عن الفتوحات الإسلامية للشام والعراق، على الرغم من وجود مصادر أخرى متنوعة لنفس الحدث لكنهما يتبعان الروايتين البيزنطية والإسلامية.
  4. ادعاء استثنائي بدون مصدر استثنائي: يتطلب الادعاء الاستثنائي مصادر استثنائية، وإجماع أكاديمي واسع عليه وإلا فهو عبارة عن رأي شخصي لا قيمة معرفية له. ومثاله ادعاء أن الإسلام ظهر في جنوب الأردن وأن مدينة مكة هي البتراء، ثم الاستناد لبرهان ذلك على مقالات مجهولة المصدر وغير منشورة أكاديمياً وضعها أشخاص غير معروفين أو لا يمكن التحقق من شخصياتهم.
ثانياً:
التلاعب بالأسلوب
  1. استعمال لغة عاطفية: يجب أن يكون البحث مكتوباً بلغة واضحة لا تجيّش المشاعر وتخاطب عقل القارئ لا قلبه. ومثاله استعمال لفظ "مذابح الأرمن" عند الحديث عن الإبادة الجماعية للأرمن، بغرض التأثير على مشاعر القارئ بدلاً من مخاطبة عقله بالحجة والدليل.
  2. استعمال لغة ذاتية: يجب أن يكون الكاتب والقارئ خارج موضوع البحث للحفاظ على الموضوعية، وفي هذه الطريقة يُستعمل خطاب ذاتي يجعل من القارئ جزء من موضوع البحث ويفقده الموضوعية، وتستخدم فيها ضمائر المتكلم وكلمات وتصانيف معدة مسبقاً مثل "نحن" و"الآخرون".
  3. استعمال كلمات مبهمة وغير قابلة للقياس: مثل أجمل وأفضل وأسوء، وهذه الكلمات نسبية تعبر عن آراء تختلف من شخص لآخر، وأيضاً تعابير مثل: "من الواضح" و"من المعروف" وهي تعابير نسبية كذلك، وأيضاً عبارات مثل "تُؤكِّد كثير من المصادر" أو "يُؤكِّد مجموعة من العلماء" بدون تحديد ما هي هذه المصادر أو من هم هؤلاء العلماء.
  4. إقحام وجهة النظر الشخصية: يجب على الباحث عن أن يكون معزولاً عن موضوع دراسته، وألا يكون له رأي شخصي في المسألة المدروسة، ومثال ذلك قيام شخص بوضع دراسات تخص موضوعاً محدداً، على الرغم من امتلاكه برامج معروفة بدعم هذه الفكرة أو انتقادها على حد سواء، على التلفاز أو مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الدراسة فاسدة ولا تصح لأن واضعها منحاز أصلاً.
ثالثاً:
التلاعب بالمنهجية
  1. مناقشة الموضوع بشكل مباشر، بدون خلفية عامة أو مقدمة تعريفية لتوضيح الإطار الزماني والمكاني والسياقي، ويجب على الباحث أن يوضح موقع بحثه من مجمل الأبحاث السابقة، وهذا يتطلب مراجعة للأعمال السابقة، وتقديم ملخص سريع وشامل يمثل خلاصة ما توصل إليه السابقون. ومثاله خطاب الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) في مطلع القرن العشرين، وفيه يتم عمداً تجاهل سياق الأحداث التاريخي والاجتماعي، والتركيز مباشرة على وجهة نظر الكراهية لإظهار مجموعة الأحداث التي تجري دراستها وكأنها حصلت كنتيجة حتمية للاختلاف بدون الانتباه لوجود أسباب سياسية أو خلفيات اقتصادية أو سياق اجتماعي ولدها فنتجت عنه.
  2. الانطلاق من النتيجة: وهنا يقوم الباحث بوضع نتيجة مسبقة للبحث قبل بدئه، ويفترض صحتها المطلقة، ثم يبدأ البحث عن الأدلة التي تؤكدها متجاهلاً كل ما يتعارض معها. ومثاله النقاش الدائر بين العوام حول نظرية التطور، نفياً أو تأكيداً، فكل طرف ينطلق من قناعته باعتبارها حقيقة صحيحة لا تحتاج إلى دليل أو برهان، ويتجاهل تماماً حجج وبراهين الطرف المقابل مركزاً فقط على الأدلة التي تدعم نظرته.
  3. استعمال منهجية غير مناسبة: لكل مبحث من مباحث العلوم منهجه الخاص الذي يتوافق مع طبيعة المعرفة فيه، فما يصلح في العلوم التطبيقية قد لا يصلح للعلوم الإنسانية، فطريقة التجربة والقياس التي لا غنى عنها في مناهج بعض العلوم، كالفيزياء ليست ذات أهمية في مناهج الأخلاق والقانون، ومثاله استعمال منهجية البحث الخاصة في العلوم التطبيقية لإثبات أو نفي وجود الله، وهذا منهج فاسد، لأن هذه قضية فلسفية لها منهج فلسفي خاص في تناولها، ولا يمكن الإجابة على سؤال كهذا بتجربة مخبرية أو بقياس قيمة فيزيائية. وأيضاً تقع محاولة الإجابة عن سؤال أيهما أفضل الاشتراكية أم الرأسمالية باستعمال منهج العلوم التطبيقية تحت نفس التصنيف، فهذه مسألة اقتصادية، لها منهج اقتصادي خاص يعالجها.
  4. الاجتزاء: ويعني اقتطاع جزء من البيانات من سياقها وعرضها منفردة بطريقة تؤدي إلى تغيير في دلالتها. ومثاله اقتطاع الجزء الأول من الآية ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء:43] وعرضه منفرداً للقول بأن القرآن ينهى عن الصلاة.
  5. افتقار الحيادية: يجب على الباحث أن يتناول كل وجهات النظر في موضوع بحثه، فيفرد لها مساحات كافية لتبيانها بشكل واضح دون أن يُركز على وجهة نظر واحدة دون البقية أو يفرد لها مساحة مضاعفة أو يدعمها بالصور والأشكال دون غيرها، ومثاله بعض المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ منطقة معينة، فتتناول أحداث حقبة محددة فيها بالتفصيل والتوسع ثم تختصر وتفترض في بقية الحقب.