عرض مصدر أبو بكر الصديق

{{محمية|1}}
{{عن|3=أبو بكر الصديق (توضيح)}}
{{عن|أبي بكر الصدّيق أوَّل الخلفاء الراشدين||أبو بكر (توضيح)}}
{{شخصية دينية
| الاسم          = أبو بكر الصّدّيق<br />عبد الله بن أبي قحافة
| صورة          = أبو بكر الصديق.gif
| تعليق         = تخطيط لاسم أبي بكر الصديق ملحوق بدعاء الرضا عنه
| ألقاب         = الصِّدِّيِق، العَتِيق، الصَّاحِب، الأَتْقَى، الأَوَّاه، ثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَار، خَلِيْفَةُ رَسُوْلِ اللّٰه، سَيَدُنَا أَبُو بَكْرٍ {{رضي الله عنه}}
| تاريخ_الولادة  =  (50 ق.هـ / [[573]]م)
| مكان_الولادة   = [[مكة]]، [[تهامة]]، [[شبه الجزيرة العربية]]
| تاريخ_الوفاة  =  الإثنين [[22 جمادى الآخرة]] [[13 هـ|13هـ]] - [[22 أغسطس]] [[634]]م
| مكان_الوفاة   = [[المدينة المنورة]]، [[الحجاز]]، [[شبه الجزيرة العربية]]، {{الخلافة الراشدة}}
|مكان الدفن=[[المسجد النبوي]]
| مبجل(ة)_في    = [[الإسلام]]: [[أهل السنة والجماعة]]، [[الإباضية]]، [[موحدون دروز|الدروز]]، [[زيدية|الشيعة الزيدية]]
| المقام_الرئيسي= [[المسجد النبوي]]، إلى جانب [[محمد|النبي محمد]] و[[عمر بن الخطاب]]، [[المدينة المنورة]]
| النسب         = '''أبوه:''' [[أبو قحافة|أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو التيمي القرشي]]<br />'''أمه:''' [[سلمى بنت صخر بن عامر|أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر التيمية القرشية]]<br />'''اخواته:''' [[قريبة بنت أبي قحافة]]، و[[أم عامر بنت أبي قحافة]]، و[[أم فروة بنت أبي قحافة]]<br />'''زوجاته:''' [[قتيلة بنت عبد العزى]]، و[[أم رومان الكنانية|أم رومان بنت عامر]]، و[[أسماء بنت عميس]]، و[[حبيبة بنت خارجة]].<br />'''ذريته:''' [[عبد الرحمن بن أبي بكر|عبد الرحمن]]، و[[عبد الله بن أبي بكر|عبد الله]]، و[[محمد بن أبي بكر|محمد]]، و[[أسماء بنت أبي بكر|أسماء]]، و[[عائشة بنت أبي بكر|عائشة]]، و[[أم كلثوم بنت أبي بكر|أم كلثوم]].
|كنية=أبو بكر}}
'''أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَبدُ اللّٰهِ بنُ أَبي قُحَافةَ عُثْمَان بن عَامِر التَّيمي القُرَشيّ'''<ref>{{استشهاد ويب|صحيفة=موقع إسلام ويب|تاريخ=2023-12-27|عنوان=موقع إسلام ويب - نسب أبو بكر الصديق|تاريخ أرشيف=27 ديسمبر 2023|مسار=https://www.islamweb.net/amp/ar/library/content/60/6429/%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A3%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D9%8A%D9%82-%D9%88%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%A8%D9%87|مسار أرشيف=https://web.archive.org/web/20231227021538/https://www.islamweb.net/amp/ar/library/content/60/6429/%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A3%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D9%8A%D9%82-%D9%88%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%A8%D9%87}}</ref> (50 ق هـ - [[13 هـ|13هـ]] / [[573]]م - [[634]]م) هو أولُ [[الخلفاء الراشدون|الخُلفاء الراشدين]]، وأحد [[العشرة المبشرون بالجنة|العشرة المُبشرين بالجنَّة]]، وهو وزيرُ [[محمد|الرسول مُحمد]] وصاحبهُ، ورفيقهُ عند [[الهجرة النبوية|هجرته]] إلى [[المدينة المنورة]]. يَعدُّه [[أهل السنة والجماعة]] خيرَ الناس بعد [[نبي|الأنبياء]] و[[رسول|الرسل]]، وأكثرَ [[الصحابة|الصَّحابة]] إيمانًا وزهدًا، وأحبَّ الناس إلى النبي مُحمد بعد زوجته [[عائشة بنت أبي بكر|عائشة]]. عادة ما يُلحَق اسمُ أبي بكرٍ بلقب الصّدِّيق، وهو لقبٌ لقَّبه إياه النبي مُحمد لكثرةِ تصديقه إياه.

ولد أبو بكر الصدِّيق في [[مكة]] سنة [[573]]م بعد [[عام الفيل]] بسنتين وستة أشهر،<ref>فتح الباري (7/9)</ref><ref>الإصابة (2/341)</ref> وكان من أغنياء [[قريش|قُريش]] في [[جاهلية|الجاهليَّة]]، فلما دعاه النبي مُحمد إلى [[الإسلام]] أسلمَ دون تردد، فكان أول من أسلم مِن الرجال الأحرار. ثم هاجر أبو بكر مُرافقًا للنبي مُحمد من مكة إلى المدينة، وشَهِد [[غزوة بدر]] و[[غزوات الرسول محمد|المشاهد]] كلها مع النبي مُحمد، ولما مرض النبي مرضه الذي مات فيه أمر أبا بكر أن يَؤمَّ الناس في [[الصلاة في الإسلام|الصلاة]]. توفي النبي مُحمد يوم الإثنين [[12 ربيع الأول]] سنة [[11 هـ|11هـ]]، وبويع أبو بكر بالخِلافة في اليوم نفسه، فبدأ بإدارة شؤون [[الدولة الإسلامية]] من تعيين الولاة والقضاء وتسيير الجيوش، وارتدت كثير من القبائل العربية عن الإسلام، فأخذ يقاتلها ويُرسل الجيوش لمحاربتها حتى أخضع [[شبه الجزيرة العربية|الجزيرة العربية]] بأكملها تحت الحُكم الإسلامي، ولما انتهت [[حروب الردة|حروب الرِّدة]]، بدأ أبو بكر بتوجيه الجيوش الإسلامية لفتح [[العراق]] و[[بلاد الشام|بلاد الشَّام]]، ففتح مُعظم العراق وجزءًا كبيرًا من أرض الشَّام. توفي أبو بكر يوم الإثنين [[22 جمادى الآخرة]] سنة [[13 هـ|13هـ]]، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، فخلفه من بعده [[عمر بن الخطاب|عمر بن الخطَّاب]].

== حياته قبل الإسلام ==
=== نسبه ===
[[ملف:Abu Bakr1.png|تصغير|تخطيط لاسم أبي بكر الصديق ملحوق بدعاء الرضا عنه]]
* هو: {{اقتباس مضمن|عبد الله بن [[أبو قحافة|عثمان]] بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن [[بنو تيم|تيم]] بن [[مرة بن كعب|مرة]] بن [[كعب بن لؤي|كعب]] بن [[لؤي بن غالب|لؤي]] بن [[غالب بن فهر|غالب]] بن [[فهر بن مالك|فهر]] بن [[مالك بن النضر|مالك]] بن [[النضر بن كنانة|النضر]] وهو [[قريش]] بن [[كنانة بن خزيمة|كنانة]] بن [[خزيمة بن مدركة|خزيمة]] بن [[مدركة بن إلياس|مدركة]] بن [[إلياس بن مضر|إلياس]] بن [[مضر]] بن [[نزار بن معد|نزار]] بن [[معد بن عدنان|معد]] بن [[عدنان]] التيمي القرشي}}،<ref>[[أسد الغابة في معرفة الصحابة]]، [[ابن الأثير الجزري]]، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م، ج3 ص310</ref><ref>[[الإصابة في تمييز الصحابة]]، [[ابن حجر العسقلاني]]، 4/ 144-145</ref> يلتقي مع النبي محمد في الجد السادس [[مرة بن كعب]].<ref>سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص27</ref>
* أبوه: {{اقتباس مضمن|[[أبو قحافة|أبو قحافة عثمان]] بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن [[بنو تيم|تيم]] بن [[مرة بن كعب|مرة]] التيمي القرشي}}، وأم أبي قحافة: {{اقتباس مضمن|قيلة بنت أذاة بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب}}.<ref>إكمال الكمال - ابن ماكولا، ج7 ص 30</ref><ref>نسب قريش - مصعب الزبيري ، ج1 ص122</ref> أسلم يوم [[فتح مكة]]، وعاش بعد ابنه أبي بكر وورثه، وهو أول من ورث خليفة في الإسلام، إلا أنه رد نصيبه من الميراث على ولد أبي بكر، وتوفي سنة [[14 هـ|14هـ]] وله سبع وتسعون سنة.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج3 ص575</ref>
* أمه: {{اقتباس مضمن|[[سلمى بنت صخر بن عامر|أم الخير سلمى]] بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن [[بنو تيم|تيم]] بن [[مرة بن كعب|مرة]] التيمية القرشية}}. أسلمت في مكة قبل الهجرة مع ابنها أبي بكر، وتوفيت قبل أبي قحافة.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص314</ref>

=== مولده ونشأته ===
[[ملف:Mecca from Jabal Nur.JPG|تصغير|يمين|منظر عام [[مكة|لمكة]]، حيث ولد أبو بكر وترعرع.]]
ولد أبو بكر في [[مكة]] سنة [[573]]م بعد [[عام الفيل]] الذي وُلد فيه [[محمد|النبي محمد]] بسنتين وستة أشهر،<ref>فتح الباري (7/9)، الإصابة (2/341)</ref> فكان أصغر عُمراً منه، ولم يختلف العلماء في أن أبا بكر وُلد بعد [[عام الفيل]]، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم قال بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر.<ref>سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص29</ref><ref>تاريخ الخلفاء، للإمام [[جلال الدين السيوطي]]، تحقيق إبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ- 1997م، ص56</ref>

وقد نشأ أبو بكر وترعرع في مكة، وكان من رؤساء قريش وأشرافها في الجاهلية، محبباً فيهم، مألفاً لهم، وكان إليه الأشناق في الجاهلية، والأشناق هي الدِّيات، وكان إذا حمل شيئاً صدَّقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه، وإن احتملها غيرُه خذلوه ولم يصدقوه.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج3 ص310</ref> ويُقال أن الشرف في قريش في الجاهلية كان قد انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن، منهم [[العباس بن عبد المطلب]] من [[بنو هاشم|بني هاشم]]، و[[أبو سفيان بن حرب]] من [[بنو أمية (قبيلة)|بني أمية]]، و[[عثمان بن طلحة|عثمان بن طلحة بن زمعة بن الأسود]] من [[بنو أسد|بني أسد]]، وأبو بكر من [[بنو تيم|بني تيم]]، و[[خالد بن الوليد]] من [[بنو مخزوم|بني مخزوم]]، و[[عمر بن الخطاب]] من [[بنو عدي|بني عدي]]، و[[صفوان بن أمية بن خلف|صفوان بن أمية]] من [[بنو جمح|بني جمح]]، وغيرهم.<ref>أشهر مشاهير الإسلام، 1/ 10</ref>
[[ملف:Bahira.jpg|تصغير|يسار|[[دير]] [[بحيرى|الراهب بحيرى]] في [[بصرى]] في [[بلاد الشام|الشام]].]]
وقد اشتهر أبو بكر في [[جاهلية|الجاهلية]] بصفات عدة، منها العلم بالأنساب، فقد كان عالماً من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باعٌ طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين [[عقيل بن أبي طالب|كعقيل بن أبي طالب]] و[[جبير بن مطعم]] وغيرهما، وكانت له صفة حببته إلى قلوب العرب، وهي أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولا يذكر المثالب بخلاف غيره،<ref>التهذيب، 2/ 183</ref> وقد كان أبو بكر أنسبَ قريش لقريش وأعلمَ قريش بها وبما فيها من خير وشر،<ref>[[الإصابة في تمييز الصحابة]]، [[ابن حجر العسقلاني]]، 4/ 146</ref><ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير]]، [[دار إحياء التراث العربي]]، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م، ج3 ص39</ref> وقد رُوي أن النبي محمداً قال: {{اقتباس مضمن|إن أبا بكر أعلمُ قريش بأنسابها}}».<ref>[[صحيح مسلم]]، رقم: 2490</ref><ref>الطبراني في الكبير، رقم: 3582</ref>

وقد كان أبو بكر تاجراً، قال [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]: «وكان رجلاً تاجراً ذا خُلُق ومعروف، وكان رجالُ قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته».<ref name="abc1">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص39</ref> وقد ارتحل أبو بكر للتجارة بين البلدان حتى وصل [[بصرى]] من [[بلاد الشام|أرض الشام]]، وكان رأس ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية.<ref>أبو بكر الصديق، علي طنطاوي، دار المنارة، جدة، السعودية، 1406هـ-1986م، ص66</ref><ref>التاريخ الإسلامي، الخلفاء الراشدون، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، 1411هـ، ص30</ref> ويروى أن أبا بكر قد رأى رؤيا عندما كان في الشام، فقصها على [[بحيرى|بحيرى الراهب]]، فقال له: «من أين أنت؟» قال: «من مكة»، قال: «من أيها؟» قال: «من قريش»، قال: «فأي شيء أنت؟» قال: «تاجر»، قال: {{اقتباس مضمن|إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته}}، فأَسرَّ أبو بكر ذلك في نفسه.<ref>الخلفاء الراشدون، محمود شاكر، ص34</ref>

ويقال أن أبا بكر لم يكن يشرب [[مشروب كحولي|الخمر]] في الجاهلية، فقد حرمها على نفسه قبل الإسلام، وكان من أعف الناس في الجاهلية،<ref>تاريخ الخلفاء، [[جلال الدين السيوطي]]، ص48</ref> قالت [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]]: «حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه، فقال أبو بكر: إن هذا لا يدري ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها».<ref>سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص34</ref> وقد سأل أحدُ الناس أبا بكر: «هل شربت الخمر في الجاهلية؟»، فقال: «أعوذ بالله»، فقيل: «ولمَ؟» قال: {{اقتباس مضمن|كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً لعرضه ومروءته}}.<ref>تاريخ الخلفاء، [[جلال الدين السيوطي]]، ص49</ref> كما رُوي أن أبا بكر لم يسجد لصنم قط، فقد قال أبو بكر في مجمع من [[الصحابة]]: «ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني [[أبو قحافة]] بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: «هذه آلهتُك الشمُّ العوالي»، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: «إني جائع فأطعمني» فلم يجبني، فقلت: «إني عار فاكسني» فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه».<ref>أصحاب الرسول، محمود المصري، مكتبة أبي حذيفة السلفي، 1420هـ-1999م، 1/ 58</ref><ref>الخلفاء الراشدين، محمود شاكر، ص31</ref>

== حياته بعد الإسلام في مكة ==
=== إسلامه ===
كان إسلام أبي بكر وليد رحلة طويلة في البحث عن الدين الذي يراه الحق، والذي ينسجم برأيه مع [[بديهية (مفهوم)|الفطرة السليمة]] ويلبي رغباتها، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قطع الفيافي والصحاري، والمدن والقرى في [[شبه الجزيرة العربية|الجزيرة العربية]]، وتنقل من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً بأصحاب [[دين (معتقد)|الديانات]] المختلفة وبخاصة [[المسيحية|النصرانية]]،<ref>مواقف الصديق مع النبي بمكة، عاطف لماضة، ص6</ref> وقد حدث أبو بكر عن ذلك فقال: كنت جالساً بفناء [[الكعبة]]، وكان [[زيد بن عمرو بن نفيل]] قاعداً، فمر [[أمية بن أبي الصلت]]، فقال: «كيف أصبحت يا باغي الخير؟»، قال: «بخير»، قال: «وهل وجدت؟»، قال: «لا»، فقال:<ref name="abc2">تاريخ الخلفاء، [[جلال الدين السيوطي]]، ص52</ref>{{إسلام}}
{{أبيات|
'''كل دين [[نهاية الزمان|يوم القيامة]] إلا'''\\'''ما مضى في [[حنيفية|الحنيفية]] بورُ'''}}
أما إن هذا النبي الذي يُنتظر منا أو منكم، يقول أبو بكر: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، فخرجت أريد [[ورقة بن نوفل]]، وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر، فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: «نعم يا ابن أخي، إنا أهلُ الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً»، قلت: «يا عم، وما يقول النبي؟»، قال: «يقول ما قيل له، إلا أنه لا يظلم ولا يظلم ولا يظالم»، فلما بُعث رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} آمنت به وصدقته.<ref name="abc2"/>

وقد كان أبو بكر يَعرف النبي محمداً معرفة عميقة في الجاهلية، وكانت الصلة بينهما قوية، وقد ذكر [[ابن إسحاق]] وغيره أنه كان صاحب النبي محمد قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الناس.<ref name="abc3">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص37</ref> قال [[ابن إسحاق]]: «ثم إن أبا بكر الصدِّيق لقي رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} فقال: «أحق ما تقول قريش يا محمد؟ مِن تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟»، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|بلى، إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته}}، وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق».<ref name="abc3"/> وقد روي عن النبي محمد أنه قال: {{اقتباس مضمن|ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه}}.<ref name="abc3"/><ref>دلائل النبوة للبيهقي 2 / 163-164 عن ابن اسحاق</ref> كما روي عن النبي أنه قال: {{اقتباس مضمن|إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟}} مرتين.<ref name="abc3"/>

فكان أبو بكر أول من أسلم من الرجال الأحرار، وبذلك قال [[إبراهيم بن يزيد النخعي|إبراهيم النخعي]] و[[حسان بن ثابت]] و[[عبد الله بن عباس|ابن عباس]] و[[أسماء بنت أبي بكر]] و[[محمد بن سيرين]]، وهو المشهور عن جمهور [[أهل السنة والجماعة|أهل السنة]].<ref>صفة الصفوة، 1/ 237</ref><ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص38</ref> وروى [[أحمد بن حنبل|الإمام أحمد]] و[[ابن ماجه|محمد بن ماجه]] عن [[عبد الله بن مسعود|ابن مسعود]] أنه قال: {{اقتباس مضمن|أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، وأبو بكر، و[[عمار بن ياسر|عمار]]، وأمه سمية، و[[صهيب بن سنان|صهيب]]، و[[بلال بن رباح|بلال]]، و[[المقداد بن عمرو|المقداد]]، فأما رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس}}.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص38-39، صحيح الإسناد</ref> وقد جمع [[أبو حنيفة النعمان|الإمام أبو حنيفة]] بين الأقوال المختلفة في ذِكر أول من أسلم بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن النساء [[خديجة بنت خويلد]]، ومن الموالي [[زيد بن حارثة]]، ومن الغلمان [[علي بن أبي طالب]].<ref name="abc1"/> ويُقال أن أبا بكر أول من صلى مع النبي محمد، فعن [[زيد بن أرقم]] أنه قال: {{اقتباس مضمن|أول من صلى مع النبي {{صلى الله عليه وسلم}} أبو بكر الصديق}}.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص37، وقال: رواه أحمد والترمذي والنسائي</ref>

وعندما أسلم أبو بكر سُرَّ النبيُّ محمدٌ سروراً كبيراً، فعن [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]] أنها قالت: «خرج أبو بكر يريد رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، وكان له صديقاً في الجاهلية، فلقيه فقال: «يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها»، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|إني رسول الله أدعوك إلى الله}}، فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وما بين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر».<ref name="abc4">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص40</ref>

=== الدعوة إلى الإسلام ===
بعد إسلام أبي بكر، بدأ يدعو إلى الإسلام مَن وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه: [[الزبير بن العوام]]، و[[عثمان بن عفان]]، و[[طلحة بن عبيد الله]]، و[[سعد بن أبي وقاص]]، و[[عبد الرحمن بن عوف]]، فانطلقوا إلى النبي محمد ومعهم أبو بكر، فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا،<ref name="abc1"/> ثم جاء [[عثمان بن مظعون|بعثمان بن مظعون]]، و[[أبو عبيدة بن الجراح|أبي عبيدة بن الجراح]]، و[[أبو سلمة بن عبد الأسد|أبي سلمة بن عبد الأسد]]، و[[الأرقم بن أبي الأرقم]] فأسلموا،<ref name="abc4"/> كما دعا أبو بكر أسرته وعائلته، فأسلمت بناته [[أسماء بنت أبي بكر|أسماء]] و[[عائشة بنت أبي بكر|عائشة]]، وابنه [[عبد الله بن أبي بكر|عبد الله]]، وزوجته [[أم رومان الكنانية|أم رومان]]، وخادمه [[عامر بن فهيرة]].<ref>السيرة الحلبية، 1/ 442</ref>

ولما اجتمع أصحاب النبي محمد، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً، ألحَّ أبو بكر على النبي في الظهور، فقال: {{اقتباس مضمن|يا أبا بكر إنا قليل}}، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر الرسول، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً والرسول جالس، فكان أولَ خطيب دعا إلى الإسلام، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووُطئ أبو بكر وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه [[عتبة بن ربيعة]] فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وجاءت [[بنو تيم]] يتعادون، فأجْلَت المشركين عن أبي بكر، وحملت [[بنو تيم]] أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشُكُّون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن [[عتبة بن ربيعة]]، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل [[أبو قحافة]] (والد أبي بكر) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: {{اقتباس مضمن|ما فعل رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}؟}}، فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه [[سلمى بنت صخر بن عامر|أم الخير]]: «انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه»، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: {{اقتباس مضمن|ما فعل رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}؟}}، فقالت: «والله ما لي علم بصاحبك»، فقال: «اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه»، فخرجت حتى جاءت أم جميل (وكانت تخفي إٍسلامها)، فقالت: «إن أبا بكر يسألك عن [[محمد|محمد بن عبد الله]]»، فقالت: «ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟»، قالت: «نعم»، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح وقالت: «والله إن قوماً نالوا منك لأهلُ فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم»، قال: {{اقتباس مضمن|فما فعل رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}؟}} قالت: «هذه أمك تسمع»، قال: «فلا شيء عليك منها»، قالت: «سالمٌ صالحٌ»، قال: «أين هو؟»، قالت: «في [[دار الأرقم]]»، قال: {{اقتباس مضمن|فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}}}، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على الرسول محمد، فأكب عليه الرسولُ فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له الرسولُ محمدٌ رقةً شديدةً، فقال أبو بكر: {{اقتباس مضمن|بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار}}، فدعا لها النبي محمد ودعاها إلى الله فأسلمت.<ref>[[السيرة النبوية لابن كثير]]، [[ابن كثير الدمشقي|أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير]]، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار الفكر [[بيروت]]، الطبعة الثانية 1398هـ، 1/ 439-441</ref><ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص40-41</ref>

=== مساعدة المسلمين المستضعفين ===
تضاعف أذى المشركين للرسول محمد وأصحابه مع انتشار الدعوة الإسلامية في [[مكة]]، وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، وقد تعرض [[بلال بن رباح]] لعذاب عظيم، ولم يكن له ظهرٌ يسنده، ولا عشيرةٌ تحميه، ولا سيوفٌ تذود عنه.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، [[علي الصلابي]]، ص39</ref>

فعندما علم سيده [[أمية بن خلف]] بأنه أسلم، راح يهدده تارة ويغريه تارة أخرى، فأبى بلال أن يترك الإسلام، فحنق عليه أمية بن خلف وقرر أن يعذبه عذاباً شديداً، فأخرجه إلى شمس الظهيرة في [[صحراء|الصحراء]] بعد أن منع عنه الطعام والشراب يوماً وليلة، ثم ألقاه على ظهره فوق [[رمل|الرمال]] المحرقة الملتهبة، ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها فوق صدر بلال وهو مقيد اليدين، ثم قال له: «لا تزال هكذا حتى تموتَ أو تكفرَ بمحمد وتعبدَ [[اللات]] و[[العزى]]»، وأجاب بلال: {{اقتباس مضمن|أحدٌ أحدٌ}}، وبقي [[أمية بن خلف]] مدة وهو يعذب بلالاً بتلك الطريقة البشعة،<ref>عتيق العتقاء أبو بكر الصديق، محمود البغدادي، ص39-40</ref>

عندما علم أبو بكر بذلك قصد موقع التعذيب، وفاوض أمية بن خلف وقال له: «ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟» قال: «أنت أفسدته فأنقذه مما ترى»، فقال أبو بكر: «أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك، أعطيكه به»، قال: «قد قبلت»، فقال: «هو لك»، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذه فأعتقه<ref>[[السيرة النبوية لابن هشام]]، دار إحياء التراث، الطبعة الثانية، 1417هـ-1997م، 1/ 394</ref>، وفي رواية أخرى: اشتراه بسبع [[أوقية|أواق]] أو بأربعين أوقية ذهباً.<ref>من كتاب [[التربية القيادية]]، 1/ 140</ref>

واستمر أبو بكر بعد ذلك في شراء [[عبودية|العبيد]] و[[جارية|الإماء]] و[[الدولة المملوكية|المملوكين]] من المسلمين والمسلمات وعتقهم،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص40</ref> ومنهم: [[عامر بن فهيرة]]، و[[أم عبيس]] (أو أم عميس)، [[زنيرة الرومية|وزنيرة]]، وقد أصيب بصرها حين أعتقها فقالت [[قريش]]: «ما أذهب بصرَها إلا [[اللات]] و[[العزى]]»، فقالت: «كذبوا، وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان»، فرد الله بصرها، كما أعتق النهدية وبنتها، وابتاع [[لبينة]] جارية بني مؤمل وكانت مسلمة فأعتقها أيضا.<ref>[[السيرة النبوية لابن هشام]]، 1/ 393</ref>

== هجرته وحياته في المدينة ==
=== هجرته ===
{{مفصلة|هجرة المدينة}}[[ملف:Madina old.jpg|تصغير|250بك|يسار|منظر عام [[المدينة المنورة|للمدينة المنورة]] قديماً، مهجر النبي محمد وأبي بكر، والعاصمة الأولى [[الدولة الإسلامية|للدولة الإسلامية]].]]
لما اشتد البلاء على [[مسلم|المسلمين]] بعد [[بيعة العقبة|بيعة العقبة الثانية]]، أذن الرسولُ محمد لأصحابه بالهجرة إلى [[المدينة المنورة]]، فجعلوا يخرجون ويُخفون ذلك، فنزلوا على [[الأنصار]] في دورهم فآووهم ونصروهم،<ref>الطبقات الكبرى، [[محمد بن سعد البغدادي|ابن سعد البغدادي]]، ج1، ص224-238، دار صادر [[بيروت]]</ref> وأقام النبي محمد بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يُؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة إلا من حُبس أو فُتن، إلا [[علي بن أبي طالب]] وأبو بكر، وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن النبي محمداً في الهجرة فيقول النبي له: {{اقتباس مضمن|لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً}}، فيطمع أبو بكر أن يكونه.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص214</ref> ولما رأت قريش أن النبي محمداً قد صار له أصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم مَنعة، فحذِروا خروج النبي محمد إليهم، فاجتمعوا في [[دار الندوة]] يتشاورون فيما يصنعون في أمره، فاتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً ليعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فيتفرَّق دمُه في القبائل جميعها، ولكن النبي محمداً علم بأمرهم وتمكن من الخروج من بيته سالماً.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص214-216</ref>

كانت هجرة النبي محمد من [[مكة]] إلى [[المدينة المنورة|المدينة]] في يوم الاثنين في شهر [[ربيع الأول]] سنة ثلاث عشرة من بعثته،<ref name="abc5">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص218</ref> وكان أبو بكر حين استأذن النبي في الهجرة فقال له: {{اقتباس مضمن|لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحباً}}، قد طمع بأن يكون النبيُّ إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين، فاحتبسهما في دار يعلفهما إعداداً لذلك، قالت [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]]:
{{اقتباس|كان لا يخطئ رسولُ الله {{صلى الله عليه وسلم}} أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله {{صلى الله عليه وسلم}} في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: «ما جاء رسولُ الله {{صلى الله عليه وسلم}} في هذه الساعة إلا لأمر حدث»، فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وليس عند رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} أحد إلا أنا وأختي [[أسماء بنت أبي بكر]]، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|أخرج عني مَن عندك}}، قال: «يا رسول الله إنما هما ابنتاي،<ref>في [[صحيح البخاري]]: إنما هما أهلك.</ref> وما ذاك فداك أبي وأمي؟»، قال: {{اقتباس مضمن|إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة}}، فقال أبو بكر: «الصحبة يا رسول الله؟»، قال: {{اقتباس مضمن|الصحبة}}، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.<ref name="abc5"/>}}
[[ملف:Mecca 9.jpg|تصغير|260بك|يمين|[[غار ثور]] الذي مكث به النبي محمد وأبو بكر ثلاث ليال أثناء هجرتهما إلى [[المدينة المنورة|المدينة]].]]
ثم قال أبو بكر: «يا نبي الله، إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا»، فاستأجرا [[عبد الله بن أريقط]] الكناني، رجلاً من بني الدئل بن بكر من كنانة، وكان مشركاً يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما، ولم يعلم بخروج النبي أحد حين خرج إلا [[علي بن أبي طالب]] وأبو بكر وآل أبي بكر،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص218-219</ref> فلما أجمع النبي الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى [[غار ثور|غار بثور]]، وهو [[جبل]] بأسفل مكة فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه [[عبد الله بن أبي بكر|عبد الله]] أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر مولاه [[عامر بن فهيرة]] أن يرعى [[ضأن (جنس)|غنمه]] نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى في الغار، فكان [[عبد الله بن أبي بكر]] يكون في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن النبي محمد وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان [[عامر بن فهيرة]] يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص219</ref>

وكانت [[أسماء بنت أبي بكر]] تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، قالت أسماء: ولما خرج رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم [[أبو جهل|أبو جهل بن هشام]]، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجتُ إليهم فقالوا: «أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟»، قلت: «لا أدري والله أين أبي»، فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا.<ref name="abc6">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص219-220</ref> وقالت أسماء بنت أبي بكر: «لما خرج رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه، فدخل علينا جدي [[أبو قحافة]] وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قلت: «كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً»، قالت: وأخذتُ أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده فقلت: «يا أبت ضع يدك على هذا المال»، قالت: فوضع يده عليه فقال: «لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك».<ref name="abc6"/>

وبدأ المشركون باقتفاء أثر النبي، فلما بلغوا [[جبل ثور]] اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج [[عنكبوت|العنكبوت]]، فقالوا: «لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه»،<ref name="abc7">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص221، وقال: وهذا إسناد حسن.</ref> وعن [[أنس بن مالك]] أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي {{صلى الله عليه وسلم}} ونحن في الغار: «لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟»، فقال: {{اقتباس مضمن|يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟}}.<ref name="abc7"/><ref>[[صحيح البخاري]]، كتاب فضائل الصحابة، رقم: 3653</ref>

{{صندوق اقتباس|اقتباس=قال الله تعالى: {{قرآن|التوبة|40|لا تخريج=1}}<ref>سورة التوبة، الآية: 40</ref>|المصدر='' التوبة: 40''}}

ومكث النبي وأبو بكر في الغار ثلاث ليال، ثم خرجا حتى وصلا [[المدينة المنورة]]، قال [[محمد بن إسماعيل البخاري|الإمام البخاري]] بسنده إلى [[ابن شهاب الزهري|ابن شهاب]]:
{{اقتباس|فأخبرني [[عروة بن الزبير]] أن رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} لقي [[الزبير بن العوام|الزبير]] في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من [[بلاد الشام|الشام]] (إلى مكة)، فكسى الزبيرُ رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من [[يهود|اليهود]] على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: «يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون»، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر [[ربيع الأول]]، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} صامتاً، فطفق من جاء من [[الأنصار]] ممن لم ير رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمسُ رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناسُ رسولَ الله {{صلى الله عليه وسلم}} عند ذلك، فلبث رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناسُ حتى بركت عند [[المسجد النبوي|مسجد رسول الله]] {{صلى الله عليه وسلم}} بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر [[أسعد بن زرارة]]، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} حين بركت به راحلته: {{اقتباس مضمن|هذا إن شاء الله المنزل}}، ثم عاد رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: «بل نهبه لك يا رسول الله»، فأبى رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً، فطفق رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن:
{{أبيات|
'''هذا الحمال لا حمال خيبر'''\\'''هذا أبر ربنا وأطهر'''}}
ويقول: 
{{أبيات|
'''لا هم إن الأجر أجر الآخرة'''\\'''فارحم الأنصار والمهاجره'''}}
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يُسَمَّ لي.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص228-229</ref><ref>[[صحيح البخاري]]، كتاب مناقب الانصار،  باب هجرة النبي {{صلى الله عليه وسلم}} إلى المدينة</ref>}}

ونزل أبو بكر على [[خبيب بن إساف]] الخزرجي بالسنح، وقيل على [[خارجة بن زيد بن أبي زهير]] الخزرجي.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج3 ص242</ref>

=== جهاده ===
{{مفصلة|غزوات الرسول محمد|سرايا الرسول محمد}}
[[ملف:Battle of Badr2.jpg|تصغير|250بك|يسار|رسم فارسي يصوّر [[غزوة بدر]] التي شهدها أبو بكر.]]
شهد أبو بكر مع النبي محمد [[غزوة بدر]] والمشاهد كلها، ولم يَفُتْه منها مشهد،<ref>الطبقات الكبرى، [[محمد بن سعد البغدادي|ابن سعد البغدادي]]، 1/ 124</ref><ref>صفة الصفوة، 1/ 242</ref> فقد شارك أبو بكر في [[غزوة بدر]] سنة [[2 هـ|2هـ]]، وكانت له فيها مواقف مشهورة، فلما بلغ النبيَّ محمداً نجاةُ القافلة وإصرارُ زعماء مكة على قتال النبي، استشار أصحابه في الأمر،<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3952</ref> فقام أبو بكر أولاً فقال وأحسن، ثم قام [[عمر بن الخطاب]] فقال وأحسن.<ref>[[السيرة النبوية لابن هشام]]، 2/ 447</ref> وقد ظهرت من أبي بكر شجاعة وبسالة، وقد شارك ابنه [[عبد الرحمن بن أبي بكر|عبد الرحمن]] في هذه المعركة مع المشركين، فلما أسلم قال لأبيه: «لقد أهدفت لي (أي ظهرت أمامي) يوم بدر، فملت عنك ولم أقتلك»، فقال له أبو بكر: «لو أهدفت لي لم أمل عنك».<ref>تاريخ الخلفاء، [[جلال الدين السيوطي]]، ص94</ref>
[[ملف:Mohammed receiving the submission of the Banu Nadir.jpg|تصغير|250بك|يمين|رسم من [[القرن 14|القرن الرابع عشر]] يُظهر استسلام [[بنو النضير|بني النضير]] للمسلمين.]]
وشهد أبو بكر [[غزوة أحد]] سنة [[3 هـ|3هـ]]، ولما تفرق المسلمون من حول النبي محمد، وتبعثر [[الصحابة]] في أرجاء الميدان، وشاع أن الرسولَ محمداً قد قُتل، شقَّ أبو بكر الصفوف، وكان أولَ من وصل إلى الرسول محمد، وقد اجتمع إلى الرسول محمد آنذاك كلُّ من: أبو بكر، و[[أبو عبيدة بن الجراح]]، و[[علي بن أبي طالب]]، و[[طلحة بن عبيد الله]]، و[[الزبير بن العوام]]، و[[عمر بن الخطاب]]، و[[الحارث بن الصمة]]، و[[أبو دجانة]]، و[[سعد بن أبي وقاص]]، وغيرهم.<ref>مواقف الصديق مع النبي في المدينة، عاطف لماضة، ص27</ref>

وشهد أبو بكر [[غزوة بني النضير]] سنة [[4 هـ|4هـ]]، و[[غزوة بني المصطلق]] سنة [[5 هـ|5هـ]]، وكانت معه فيها راية [[المهاجرون|المهاجرين]]، وشهد [[غزوة الخندق]] سنة [[5 هـ|5هـ]]، و[[غزوة بني قريظة]] سنة [[5 هـ|5هـ]]، وكان فيهما مرافقاً للنبي محمد، كما شهد [[صلح الحديبية]] سنة [[6 هـ|6هـ]]،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص74</ref> وشهد [[غزوة خيبر]] سنة [[7 هـ|7هـ]]، وكان أولَ قائد يرسله النبي محمد، كما شهد سرية نجد، وكان الأمير على المسلمين فيها، وكان الأمير على المسلمين في غزوة بني فزارة أيضاً،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص77</ref> وكان أبو بكر من المسلمين الذين ذهبوا مع الرسول محمد ليعتمروا [[عمرة القضاء]] سنة [[7 هـ|7هـ]]،<ref>تاريخ الدعوة الإسلامية، ص142</ref> كما شهد [[سرية عمرو بن العاص (ذات السلاسل)|سرية ذات السلاسل]] سنة [[8 هـ|8هـ]].<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص78</ref>
{{شريط جانبي غزوات الرسول}}{{شريط جانبي سرايا الرسول}}
ولما نقضت قريش [[صلح الحديبية]]، وتجهز النبي محمدٌ مع صحابته للخروج إلى مكة، خرج [[أبو سفيان بن حرب]] من مكة إلى الرسول محمد فقال: «يا محمد، اشدد العقد، وزدنا في المدة»، فقال النبي محمد: {{اقتباس مضمن|ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم؟}}، فقال: «معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا يوم الدية لا نغيّر ولا نبدّل»، فخرج من عند النبي محمد يقصد مقابلة [[الصحابة]]،<ref>التاريخ السياسي والعسكري، علي معطي، ص365</ref><ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، [[دار الفكر]] [[بيروت]]، 1407هـ-1987م، 3/ 43</ref> فطلب من أبي بكر أن يجدد العقد ويزيدهم في المدة، فقال أبو بكر: {{اقتباس مضمن|جواري في جوار رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم}}.<ref>تاريخ الدعوة الإسلامية، ص145</ref> ولما دخل النبيُّ محمدٌ مكة في عام الفتح سنة [[8 هـ|8هـ]]، كان أبو بكر بجانبه، وقد تمت النعمة على أبي بكر في ذلك الوقت بإسلام أبيه [[أبو قحافة|أبي قحافة]].<ref>تاريخ الدعوة الإسلامية، ص147</ref> وشهد أبو بكر [[غزوة حنين]] سنة [[8 هـ|8هـ]]، وكانت قد صبرت مع النبي فئةٌ من الصحابة يتقدمهم أبو بكر، ثم انتصروا بعد ذلك.<ref>مواقف الصديق مع النبي في المدينة، ص43</ref>

كما شهد أبو بكر [[غزوة تبوك]]، ولما اختار الرسولُ الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، أعطى لواءه الأعظم لأبي بكر، وحث الرسولُ محمدٌ الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق، فأنفق كل حسب مقدرته، وكان [[عثمان بن عفان]] أكثر من أنفق في هذه الغزوة.<ref>السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615</ref> وقد قال [[عمر بن الخطاب]] في ذلك: أمرَنا رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: «اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً»، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|ما أبقيت لأهلك؟}}، قلت: «مثله»، وأتى أبو بكر رضيَ الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|ما أبقيت لأهلك؟}}، قال: «أبقيت لهم الله ورسوله»، قلت: «لا أسابقك إلى شيء أبداً».<ref>سنن أبي داود، كتاب الزكاة، رقم: 1678، وحسنه الألباني</ref> وفي سنة [[9 هـ|9هـ]]، أرسل النبي محمد أبا بكر أميراً على الحج، فخرج أبو بكر أميراً بركب الحجيج، كما شهد أبو بكر [[حجة الوداع]] سنة [[10 هـ|10هـ]].<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص87-89</ref>

=== مرض النبي محمد ووفاته ===
[[ملف:Abu bakr.png|تصغير|275بك|يسار|تخطيط لاسم أبي بكر الصديق.]]
ابتدأ مرض النبي محمد الذي تُوفّي فيه في أواخر شهر [[صفر (شهر)|صفر]] سنة [[11 هـ]] بعد أن أمر [[أسامة بن زيد]] بالمسير إلى أرض [[فلسطين]]، لمحاربة [[الإمبراطورية البيزنطية|الروم]]،<ref>[[السيرة النبوية لابن هشام]]، ج6 ص55-93</ref> فاستبطأ الناسُ في الخروج لوجع النبي محمد، وكان من شدّة وجعه أنّه كان يُغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة.<ref>السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، [[علي الصلابي]]، ج4، ص281</ref> وفي أحد الأيام، خطب النبي محمد الناس وقال: {{اقتباس مضمن|إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله}}، فبكى أبو بكر، قال [[أبو سعيد الخدري]]: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسولُ الله {{صلى الله عليه وسلم}} عن عبد خُيِّر، فكان رسولُ الله {{صلى الله عليه وسلم}} هو المُخيَّر، وكان أبو بكر أعلمَنا، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|إن من أَمَنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذاً خليلاً غير ربي لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر}}،<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3654</ref> وقالت [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]]: قال لي رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} في مرضه: {{اقتباس مضمن|ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر}}.<ref>[[صحيح مسلم]]، 4/ 1857</ref> ولما ثقُل على النبي محمد المرض، أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، قالت السيدة عائشة: لما مرض النبي {{صلى الله عليه وسلم}} مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن [[بلال بن رباح|بلال]]، فقال: {{اقتباس مضمن|مروا أبا بكر فليصل بالناس}}، فقيل له: «إن أبا بكر رجل أسيف (أي رقيق القلب)، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس»، وأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة، فقال: {{اقتباس مضمن|إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس}}، فخرج أبو بكر، فوجد النبيُّ {{صلى الله عليه وسلم}} في نفسه خفة، فخرج يهادى بين رَجُلَين كأني أنظر إلى رجليه تخطّان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي {{صلى الله عليه وسلم}} أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، ج5 ص253</ref>

ولما كان يوم الاثنين الذي توفي فيه، بعد ثلاثة عشر يوماً على مرضه،<ref>الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية، يوسف النبهاني، ص575-595</ref> خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح ففرحوا به، ثم رجع فاضطجع في حجر [[عائشة بنت أبي بكر]]، فتُوفي وهو يقول {{اقتباس مضمن|بل الرفيق الأعلى من [[جنة|الجنة]]}}، وكان ذلك ضحى يوم الاثنين [[ربيع الأول]] سنة [[11 هـ]]،<ref>الروض الأنف، السهيلي، ج4 ص432-447</ref> الموافق [[8 يونيو]] سنة [[632]]م وقد تّم له ثلاث وستون سنة.<ref>الطبقات الكبرى، [[محمد بن سعد البغدادي|ابن سعد البغدادي]]، ج2، ص308</ref> فلما توفي قام [[عمر بن الخطاب]]، فقال {{اقتباس مضمن|والله ما مات رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، وليبعثنه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم}}،<ref name="abc8">[[صحيح البخاري]]، رقم: 3667</ref> وجاء أبو بكر مسرعاً فكشف عن وجهه وقبّله، وقال {{اقتباس مضمن|بأبي أنت وأمّي، طبتَ حياً وميتاً}}، ثم خرج وخطب بالنّاس قائلاً:
{{اقتباس خاص|ألا من كان يعبد محمدًا {{صلى الله عليه وسلم}}، فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، وقرأ {{قرآن|آل عمران|144|لا تخريج=1}}.<ref name="abc8"/><ref>سورة آل عمران، الآية: 144</ref>}}
قالت [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]]: «فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضيَ الله عنه، فتلقاها منه الناس، فما يُسمع بشر إلا يتلوها».<ref>[[صحيح البخاري]]، كتاب الجنائز، رقم: 1241، 1242</ref> ثم أقبل الناس يوم الثلاثاء على [[غسل الميت (إسلام)|تجهيز]] النبي محمد، فقام [[علي بن أبي طالب]] و[[العباس بن عبد المطلب|العباس بن عبدالمطلب]] و[[الفضل بن العباس]] وقثم بن العباس و[[أسامة بن زيد]] وشقران مولى محمد، بتغسيله وعليه ثيابه.<ref>سنن أبي داود، رقم: 3141</ref>

== مبايعته بالخلافة ==
=== سقيفة بني ساعدة والبيعة الخاصة ===
{{مفصلة|سقيفة بني ساعدة}}{{أهل السنة}}
لما علم الصحابة بوفاة الرسول محمد، اجتمع [[الأنصار]] في [[سقيفة بني ساعدة]] في اليوم نفسه، وهو يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده،<ref>التاريخ الإسلامي، 9/ 21</ref> والتف الأنصار حول زعيم [[الأنصار|الخزرج]] [[سعد بن عبادة]]، ولما بلغ خبرُ اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى [[المهاجرون|المهاجرين]]، وهم مجتمعون مع أبي بكر لترشيح من يتولى [[خلافة إسلامية|الخلافة]]، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من [[الأنصار]]، فإن لهم في هذا الحق نصيباً.<ref>عصر الخلافة الراشدة للعمري، ص40</ref>

قال [[عمر بن الخطاب]]: فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلين صالحين، فذكر ما تمالأ عليه القوم، فقالا: «أين تريدون يا معشر المهاجرين؟» قلنا: «نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار»، فقالا: «لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم»، فقلت: «والله لنأتينهم»، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: «من هذا؟»، فقالوا: «هذا [[سعد بن عبادة]]»، فقلت: «ما له؟»، قالوا: «يوعك»، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشرَ المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم (أي عدد قليل)، فإذاً هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر (أي يخرجونا من أمر الخلافة)»، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: «على رسلك»، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: {{اقتباس مضمن|ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم}}، فأخذ بيدي ويد [[أبو عبيدة بن الجراح|أبي عبيدة بن الجراح]] وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدَّم فتُضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن، فقال قائل من [[الأنصار]]: «أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش»، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت (لأبي بكر): «ابسط يدك»، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار.<ref>[[صحيح البخاري]]، كتاب الحدود، رقم: 6830</ref><ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص118</ref> وفي رواية أخرى قال عمر: {{اقتباس مضمن|يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضيَ الله عنه؟}} فقالت الأنصار: {{اقتباس مضمن|نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر}}.<ref>مسند أحمد، 1/ 21، وصحح إسناده أحمد شاكر، 1/ 213، رقم: 133</ref>

وفي رواية أخرى: فتكلم أبو بكر رضيَ الله عنه، فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} من شأنهم إلا وذكره، وقال: {{اقتباس مضمن|ولقد علمتم أن رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} قال: {{اقتباس مضمن|لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار}}، ولقد علمت يا سعد (يعني [[سعد بن عبادة|سعد بن عبادة الخزرجي]]) أن رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} قال وأنت قاعد: {{اقتباس مضمن|قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم}}}}، فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء.<ref>مسند أحمد، 1/ 5</ref><ref>الخلافة والخلفاء، البهنساوي، ص50</ref>

وخطب أبو بكر معتذراً من قبول [[خلافة إسلامية|الخلافة]] فقال: {{اقتباس مضمن|والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلةً قط، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله عز وجل في سر وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني}}.<ref>المستدرك، 3/ 66، قال الحاكم: حديث صحيح وأقره الذهبي</ref> وقد ثبت أنه قال: {{اقتباس مضمن|وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، فكان أميرَ المؤمنين وكنت وزيراً}}،<ref>الأنصار في العهد الراشد، حامد محمد الخليفة، ص108</ref><ref>تاريخ الخلفاء، [[جلال الدين السيوطي]]، ص91</ref> كما قال: {{اقتباس مضمن|أيها الناس، هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم على ذلك، وأكون كأحدكم}}، فأجابه الناس: رضينا بك قسماً وحظاً، وأنت ثاني اثنين مع رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}.<ref>الخلافة الراشدة للعمري، ص13</ref> وقد قام باستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلافته، واستحلفهم على ذلك فقال: {{اقتباس مضمن|أيها الناس، أذكركم الله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه}}، فقام [[علي بن أبي طالب]] ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رجلاً على عتبة المنبر والأخرى على الحصى وقال: {{اقتباس مضمن|والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك؟}}.<ref>الأنصار في العصر الراشدي، ص108</ref>

=== البيعة العامة وخلافته ===
بعد أن تمت بيعة أبي بكر البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، اجتمع المسلمون في اليوم التالي للبيعة العامة، قال [[أنس بن مالك]]: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: {{اقتباس مضمن|أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إلي رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} سيدبر أمرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله {{صلى الله عليه وسلم}}، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه}}، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص138</ref>

ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال:
{{اقتباس خاص|أما بعد أيها الناس، فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 305-306، إسناد صحيح</ref>}}
[[ملف:Mescidi nebevi.JPG|تصغير|200بك|يسار|[[المسجد النبوي]]، حيث تقع قبورُ كل من [[محمد|النبي محمد]] وأبي بكر و[[عمر بن الخطاب]] في المبنى ذي القبة الخضراء.]]
[[ملف:Abu Baker Khawkha.jpg|تصغير|225بك|يمين|"خوخة أبي بكر" في [[المسجد النبوي]].]]
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: «اصعد المنبر»، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة.<ref>[[صحيح البخاري]]، الأحكام، رقم: 7219</ref> وقد سأل عمرو بن حريث [[سعيد بن زيد]] فقال له: {{اقتباس مضمن|أشهدت وفاة رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}؟}}، قال: «نعم»، قال له: «متى بويع أبو بكر؟»، قال سعيد: {{اقتباس مضمن|يوم مات رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة}}، قال: «هل خالف أحد أبا بكر؟» قال سعيد: «لا، لم يخالفه إلا مرتد أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه»، قال: «هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟»، قال سعيد: «لا، لقد تتابع المهاجرون على بيعته».<ref name="abc9">الخلفاء الراشدون للخالدي، ص56</ref>

وقد وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر [[علي بن أبي طالب]] عن مبايعة أبي بكر، وكذا تأخر [[الزبير بن العوام]]، قال [[عبد الله بن عباس|ابن عباس]]: إن علياً والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت [[فاطمة الزهراء|فاطمة بنت رسول الله]] {{صلى الله عليه وسلم}}،<ref name="abc10">صحيح التوثيق في سيرة الصديق، ص98</ref> فقد انشغلت جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز الرسول من تغسيل وتكفين، وقد روى الصحابي سالم بن عبيد أن أبا بكر قال لأهل بيت النبي وعلى رأسهم علي: «عندكم صاحبكم»، فأمرهم يغسلونه.<ref name="abc10"/>

وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول محمد، وهو يوم الثلاثاء، قال [[أبو سعيد الخدري]]: لما صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء، فقال له أبو بكر: {{اقتباس مضمن|يا ابن عمة رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وحواريه، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟}}، فقال الزبير: {{اقتباس مضمن|لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}}}، فقام الزبير فبايع أبا بكر، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علياً بن أبي طالب، فدعا بعلي فجاء، فقال له أبو بكر: {{اقتباس مضمن|يا ابن عم رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟}}، فقال علي: {{اقتباس مضمن|لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}}}، فقام علي فبايع أبا بكر.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 5/ 249، وقال ابن كثير: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جلية.</ref> وفي رواية [[حبيب بن أبي ثابت]] قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: «قد جلس أبو بكر للبيعة»، فخرج علي إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء وهو متعجل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر ثم جلس، وبعث في ردائه، فجاؤوه به فلبسه فوق قميصه.<ref name="abc9"/>

== إدارة شؤون الدولة ==
بدأ أبو بكر إدارة شؤون الدولة بعد مبايعته بالخلافة، واتخذ من الصحابة أعواناً يساعدونه على ذلك، فأسند إلى [[أبو عبيدة بن الجراح|أبي عبيدة بن الجراح]] شؤونَ [[بيت المال]]، وتولى [[عمر بن الخطاب]] القضاء، وباشر أبو بكر القضاءَ بنفسه أيضاً، وتولى [[زيد بن ثابت]] الكتابة (البريد)،<ref>في التاريخ الإسلامي، شوقي أبو خليل، ص218</ref> وأحياناً يكتب له من يكون حاضراً من الصحابة [[علي بن أبي طالب|كعلي بن أبي طالب]] أو [[عثمان بن عفان]].<ref>سيرة أبي بكر الصديق، على الصلابي، ص151</ref>

=== الولاية والولايات ===
استعمل أبو بكر الولاة في البلدان المختلفة، وكان ينظر إلى حسن اختيار النبي محمد للأمراء والولاة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا فقد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحداً منهم إلا ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول ويرضاه، كما حدث
[[عمرو بن العاص|لعمرو بن العاص]].<ref>الولاية على البلدان، عبد العزيز إبراهيم العمري، 1/ 55</ref> وكانت مسؤوليات الولاة في عهد أبي بكر بالدرجة الأولى امتداداً لصلاحياتهم في عهد النبي محمد، أما أهم مسؤولياتهم في عهد أبي بكر فهي: إقامة الصلاة وإمامة الناس، والجهاد، وإدارة شئون البلاد المفتوحة، وتعيين القضاة والعمال عليها، وأخذ البيعة للخليفة، وبعض الأمور المالية [[زكاة|كالزكاة]] و[[جزية|الجزية]]، وإقامة الحدود، وتأمين البلاد، وكان لهم دور في تعليم الناس أمور دينهم، وفي نشر الإسلام في البلاد التي يتولَّون عليها، وكان الكثير من هؤلاء الولاة يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والأحكام.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، على الصلابي، ص164-165</ref>
[[ملف:Abubakr'sreign.png|تصغير|250بك|يسار|الدولة الإسلامية في ذروة اتساعها خلال عهد أبي بكر.]]
[[ملف:Caliph Abu Bakr's empire at its peak 634-mohammad adil rais.PNG|تصغير|250بك|يسار|صورة أخرى للدولة الإسلامية في عهد أبي بكر.]]
وقد قُسمت الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى عدة ولايات، وهذه أسماء الولايات والولاة:<ref>سيرة أبي بكر الصديق، على الصلابي، ص167-168</ref><ref>الدول العربية الإسلامية، منصور الحرابي، ص 96-97</ref>
# [[المدينة المنورة]]: عاصمة الدولة الإسلامية، وبها الخليفة أبو بكر.
# [[مكة|مكة المكرمة]]: وأميرها [[عتاب بن أسيد]] الأموي القرشي، ولاه الرسول محمد، واستمر مدة حكم أبي بكر.
# [[الطائف]]: وأميرها [[عثمان بن أبي العاص]] الثقفي، ولاه الرسول محمد، وأقره أبو بكر عليها.
# [[صنعاء]]: وأميرها [[المهاجر بن أبي أمية]] المخزومي القرشي، وهو الذي فتحها ووليها بعد انتهاء أمر الردة.
# [[حضرموت (محافظة)|حضرموت]]: وأميرها زياد بن لبيد الخزرجي.
# [[زبيد (الحديدة)|زبيد]] ورقع: وأميرها [[أبو موسى الأشعري]].
# خولان: وأميرها يعلى بن أبي أمية.
# [[الجند (تعز)|الجند]]: وأميرها [[معاذ بن جبل]] الخزرجي.
# [[منطقة نجران|نجران]]: وأميرها [[جرير بن عبد الله البجلي]].
# جرش: وأميرها عبد الله بن ثور الغوثي.
# [[البحرين]]: وأميرها [[العلاء بن الحضرمي]].
# [[العراق]] و[[بلاد الشام|الشام]]: كان أمراء الجند هم ولاة الأمر فيها.
# [[سلطنة عمان]]: وأميرها [[حذيفة بن محصن]] القلعاني.
# [[اليمامة (إقليم)|اليمامة]]: وأميرها [[سليط بن قيس]] الخزرجي.

=== القضاء ===
يعد عهدُ أبي بكر بدايةَ العهد الراشدي القريب من العهد النبوي، فكان العهدُ الراشدي عامة والجانبُ القضائي خاصة امتداداً للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، على الصلابي، ص159-160</ref> وقد كان أبو بكر يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم تُفصَل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولايةٌ خاصة مستقلة، كما كان الأمر في عهد الرسول محمد، ففي المدينة عهِدَ أبو بكر إلى [[عمر بن الخطاب]] بالقضاء ليستعين به في بعض الأقضية، ولكن هذا لم يُعطِ لعمر صفة الاستقلال بالقضاء.<ref>وقائع ندوة النظم الإسلامية، أبو ظبي، 1/ 366</ref> وأقر أبو بكر معظم القضاة والولاة الذين عينهم الرسول محمد، واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحدهما في عهده.<ref>تاريخ القضاء في الإسلام، د.محمد الزحيلي، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1415هـ - 1995م، ص134</ref>

وأصبحت الأحكام القضائية في عهد أبي بكر موئلاً للباحثين، ومحطاً لأنظار [[فقيه|الفقهاء]]، وصارت الأحكام القضائية لتلك الفترة مصدراً للأحكام الشرعية والاجتهادات القضائية والآراء الفقهية في مختلف العصور.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، على الصلابي، ص163</ref> وقد ساهمت فترة خلافة أبي بكر في ظهور مصادر جديدةٍ للقضاء في العهد الراشدي، فقد صارت مصادرُ الأحكام القضائية هي: [[القرآن|القرآن الكريم]]، و[[الحديث النبوي|السنة النبوية]]، و[[إجماع (فقه)|الإجماع]]، و[[قياس (إسلام)|القياس]]، والسوابق القضائية أو [[تقليد|التقليد]]، و[[اجتهاد (إسلام)|الرأي الاجتهادي]] مع [[شورى|الشورى]].<ref>تاريخ القضاء في الإسلام، ص157-158</ref>

== حروب الردة وجيش أسامة بن زيد ==
{{أبو بكر الصديق}}
=== إرسال جيش أسامة بن زيد إلى الشام ===
ندب [[محمد|النبي محمد]] المسلمين لغزو [[الإمبراطورية البيزنطية|الروم]] [[البلقاء (محافظة)|بالبلقاء]] و[[فلسطين]] سنة [[11 هـ|11هـ]]، وأمَّر عليهم [[أسامة بن زيد]]،<ref>قصة بعث جيش أسامة، فضل إلهي، ص8</ref> ولكن النبي مرض بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين، فلم يخرج الجيش وظل معسكراً بالجُرْف، وهي موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة نحو [[بلاد الشام|الشام]]، ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي.<ref>السيرة النبوية الصحيحة، 2/ 552</ref><ref>السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص685</ref> ولما تولى أبو بكر الخلافة أمر أن يُبعث [[أسامة بن زيد]] الكلبي، وألا يبقى بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 307</ref> واقترح بعض الصحابة على أبي بكر بأن يبقي الجيش فقالوا: «إن هؤلاء جلُّ المسلمين، والعربُ على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين»،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 308</ref> فقال أبو بكر: {{اقتباس مضمن|والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته}}.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 45</ref> ثم خرج أبو بكر حتى أتى الجيش فقال:
{{اقتباس خاص|يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منه شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 46</ref>}}

وأوصى أبو بكر أسامة فقال: {{اقتباس مضمن|اصنع ما أمرك به نبي الله {{صلى الله عليه وسلم}}؛ ابدأ ببلاد [[قضاعة (قبيلة)|قضاعة]] ثم إيت آبل (منطقة جنوب [[الأردن]])، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده}}.<ref name="abc11">[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 47</ref> ومضى أسامة بجيشه، فبثّ الخيول في قبائلِ [[قضاعة (قبيلة)|قضاعة]] وأغار على آبل، فسلِم وغنِم، وكان مسيره ذاهباً وقافلاً أربعين يوماً،<ref name="abc11"/><ref>تاريخ خليفة بن خياط، ص101</ref> فزادت هيبة المسلمين في نفوس أعدائهم وقالوا: «لو لم يكن لهم قوةٌ لما أرسلوا هذا الجيش»،<ref>قصة بعث أبي بكر جيش أسامة، فضل إلهي، ص14</ref> فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه،<ref>[[الكامل في التاريخ]]، [[ابن الأثير الجزري|أبو الحسن علي بن أبي المكارم الشيباني الجزري (ابن الأثير)]]، تحقيق علي شيري، [[دار إحياء التراث العربي]] [[بيروت]]، 1408هـ-1989م، 2/ 227</ref> وأصاب القبائلَ العربيةَ في الشمال الرعبُ والفزعُ من سطوة [[الدولة الإسلامية]].<ref>تاريخ الدعوة إلى الإسلام، ص270</ref>

=== حروب الردة ===
{{مفصلة|حروب الردة}}
بعد وفاة النبي محمد ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام، وكان المرتدون على ثلاثة أقسام: صنف عادوا إلى عبادة [[صنم|الأوثان]]، وصنف تبعوا الذين ادعوا النبوة [[مسيلمة الكذاب|كمسيلمة الكذاب]] و[[الأسود العنسي]]، وصنف ثالث استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا [[زكاة|الزكاة]]، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي محمد.<ref>فتح الباري، 12/ 276</ref> فلما تولى أبو بكر الخلافة قام في الناس خطيباً فقال: {{اقتباس مضمن|والله لا أدعُ أن أقاتلَ على أمر الله حتى ينجزَ الله وعده ويوفيَ لنا عهده، ويُقتل من قُتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له، وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض»<ref>سورة النور، الآية 55</ref><ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 316</ref>}}، وقال أيضاً: {{اقتباس مضمن|والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً (الأنثى من ولد المعز) كانوا يؤدونها إلى رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} لقاتلتهم على منعها}}، وفي رواية: {{اقتباس مضمن|والله لو منعوني عقالاً (الحبل الذي يعقل به البعير) كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه}}، قال عمر: «فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق».<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 1400</ref><ref>[[صحيح مسلم]]، رقم: 20</ref>

==== محاولة المرتدين غزو المدينة ====
حاول المرتدون الهجوم على المدينة للقضاء على [[الدولة الإسلامية]]،<ref>تاريخ الدعوة إلى الإسلام، ص280</ref> ولكن أبا بكر استعد لحماية المدينة، فألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع، ونظم الحرس على أنقاب المدينة لدفع أي غارة قادمة، وعين على الحرس أمراءهم: [[علي بن أبي طالب]]، و[[الزبير بن العوام]]، و[[طلحة بن عبيد الله]]، و[[سعد بن أبي وقاص]]، و[[عبد الرحمن بن عوف]]، و[[عبد الله بن مسعود]]،<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 64</ref> وبعث إلى القبائل القريبة التي ثبتت على الإسلام من [[قبيلة أسلم|أسلم]] وغفار و[[مزينة (قبيلة)|مزينة]] و[[أشجع (توضيح)|أشجع]] و[[جهينة (قبيلة)|جهينة]] وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة، فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم.<ref>الثابتون على الإسلام أيام فتنة الردة، مهدي رزق الله، ص21</ref> ولما اقترب المرتدون وهم بعض قبائل [[بنو أسد|أسد]] و[[بنو غطفان|غطفان]] و[[بنو غطفان|عبس]] و[[بنو ذبيان|ذبيان]] وبني [[بكر بن عبد مناة]] من المدينة ليلاً، خرج أبو بكر في أهل المسجد إليهم فانهزموا، فأتبعهم المسلمون على إبلهم، ولكن المرتدين تمكنوا من صد إبل المسلمين فعادت بهم إلى المدينة، ولم يُصرع مسلم ولم يُصَب،<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 65</ref> ثم تهيأ أبو بكر وجهز الناس ثم خرج، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همساً ولا حساً حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذرَّ قرنُ الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلب المسلمون المرتدين ورجعوا إلى المدينة.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 66</ref> وخلال ذلك عاد [[أسامة بن زيد]] بجيشه ظافراً، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: «أريحوا وأريحوا ظهركم»،<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 37</ref> ثم خرج أبو بكر بنفسه حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق، فهزم قبيلتي [[بنو غطفان|عبس]] وبني [[بكر بن عبد مناة]]، وأقام على الأبرق أياماً.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص204</ref>

==== إرسال الجيوش الإسلامية إلى المرتدين ====
خرج أبو بكر بالصحابة لقتال المرتدين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على القيادة وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة، وجاء [[علي بن أبي طالب]] فأخذ بزمام راحلته، فقال: {{اقتباس مضمن|إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} يوم أحد (يقصد قول الرسول لأبي بكر): شم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً}}، فرجع.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 319</ref> وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواءً، وجعل على كل لواء أميراً، وأمر كل أمير باستنفار من مر به من المسلمين، وهذه الجيوش هي:
# جيش [[خالد بن الوليد]] (وهو القائد العام للجيوش) إلى [[بنو أسد|بني أسد]]، ثم إلى [[بنو تميم|تميم]]، ثم إلى [[اليمامة (إقليم)|اليمامة]].
# جيش [[عكرمة بن أبي جهل]] إلى [[مسيلمة الكذاب]] في [[بنو حنيفة|بني حنيفة]]، ثم إلى [[سلطنة عمان]] و[[محافظة المهرة|المهرة]]، [[حضرموت (محافظة)|فحضرموت]] [[اليمن|فاليمن]].
# جيش [[شرحبيل بن حسنة]] إلى [[اليمامة (إقليم)|اليمامة]] في إثر عكرمة، ثم [[حضرموت (محافظة)|حضرموت]].
# جيش طريفة بن حاجر إلى [[بنو سليم|بني سليم]] و[[هوازن]].
# جيش [[عمرو بن العاص]] إلى [[قضاعة (قبيلة)|قضاعة]].
# جيش [[خالد بن سعيد|خالد بن سعيد بن العاص]] إلى مشارف [[بلاد الشام|الشام]].
# جيش [[العلاء بن الحضرمي]] إلى [[البحرين]].
# جيش [[حذيفة بن محصن|حذيفة بن محصن الغلفائي]] إلى [[سلطنة عمان]].
# جيش [[عرفجة بن هرثمة البارقي|عرفجة بن هرثمة]] إلى [[محافظة المهرة|المهرة]].
# جيش [[المهاجر بن أبي أمية]] إلى [[اليمن]]، [[صنعاء]] ثم [[حضرموت (محافظة)|حضرموت]].
# جيش سويد بن مقرن إلى [[تهامة]] [[اليمن]].<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 86</ref><ref>دراسات في عصر النبوة، ص321</ref>

وكتب أبو بكر كتاباً عاماً لنشره في أوساط من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه جميعاً قبل تسيير جيوشه لمحاربة الردة، وبعث رجالاً إلى القبائل وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع، وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه، وجاء في الكتاب:
{{اقتباس خاص|وقد بلغني رجوعُ من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {{قرآن|الكهف|50}}، وقال تعالى: {{قرآن|فاطر|6}}. وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من [[المهاجرون|المهاجرين]] و[[الأنصار]] و[[التابعون|التابعين]] بإحسان، وأمرته ألا يقاتلَ أحداً ولا يقتلَه حتى يدعُوَه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قَبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم لا يُبقي على أحد منهم قَدِر عليه، وأن يحرقَهم بالنار ويقتلَهم كل قتلة، وأن يسبيَ النساء والذراري ولا يقبلَ من أحد إلا الإسلام، فمن تبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجزَ الله.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 70-71</ref>}}

==== محاربة الردة في اليمن ====
في عهد النبي محمد ظهر رجل في [[اليمن]] يُسمى [[الأسود العنسي]] ادعى النبوة، وتبعه أبناء قبيلته وهم [[قبيلة عنس|عنس]]، وتبعته [[مذحج|قبيلة مذحج]] و[[بنو الحارث (اليمن)|بنو الحارث بن كعب]] وغيرهم، فاحتل [[منطقة نجران]] ثم [[صنعاء]]،<ref>تاريخ الردة للكلاعي، ص151-152</ref> وقتل واليها شهر بن باذان الفارسي،<ref>البدء والتاريخ، 5/ 229</ref> ولكن المسلمين تمكنوا من قتله، فخاف أصحابه وفروا هاربين، ووصل الخبر إلى النبي محمد.<ref>اليمن في صدر الإسلام، ص273</ref> ولما تولى أبو بكر الخلافة، عين [[فيروز الديلمي]] والياً على [[صنعاء]]، و[[قيس بن المكشوح المرادي|قيس بن مكشوح المرادي]] مساعداً لفيروز، ولكن قيس بن مكشوح انقلب على [[فيروز الديلمي]]، فهرب فيروز، وكاتب قيس بن مكشوح فلول الأسود العنسي، وطلب منهم الالتقاء ليتوحدوا، فتمكنوا من محاصرة [[صنعاء]]،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص222</ref> فكتب أبو بكر إلى زعماء القبائل القريبة من صنعاء وأمرهم أن يقاتلوا المرتدين، وجعل [[فيروز الديلمي]] أميراً عليهم،<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 140</ref> فتوجهوا نحو صنعاء، وقاتلوا [[قيس بن المكشوح المرادي|قيس بن مكشوح]] حتى اضطر إلى ترك صنعاء، وعاد إلى التذبذب بين [[منطقة نجران|نجران]] و[[صنعاء]] و[[محافظة لحج|لحج]]، إلا أنه انضم إلى [[عمرو بن معديكرب|عمرو بن معديكرب الزبيدي]]، وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية إلى الهدوء والاستقرار.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 142</ref>

وتوجه جيش [[عكرمة بن أبي جهل]] نحو [[محافظة المهرة|المهرة]]، وكان معه سبعمئة فارس،<ref>تاريخ الردة للكلاعي، ص177</ref> فوق ما جمع حوله من قبائل [[سلطنة عمان]]، وحينما دخل منطقة المهرة وجدها مقسمة بين زعيمين متناحرين: «شخريت» و«المصبح»، فدعاهما عكرمة إلى الإسلام فاستجاب شخريت وأبى المصبح، فصادمه عكرمة ومعه شخريت، فلحقته الهزيمة وقُتل ومعه الكثير من أصحابه، ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم حتى بايعوا على الإسلام وآمنوا واستقروا،<ref>تاريخ الردة للكلاعي، ص155</ref> وكان قد تلقى كتاباً من أبي بكر يأمره بالاجتماع مع [[المهاجر بن أبي أمية]] القادم من صنعاء ليتوجها معاً إلى [[كندة (قبيلة)|قبيلة كندة]]، فخرج من المهرة حتى نزل [[أبين (محافظة)|أبين]] وبقي هناك ينتظر [[المهاجر بن أبي أمية|المهاجر]]، وعمل وهو هناك على جمع قبائل النخع وحمير وتثبيتهم على الإسلام.<ref>اليمن في صدر الإسلام، ص281</ref> وأما جيش [[المهاجر بن أبي أمية]] فقد كان آخرَ من خرج من المدينة من الجيوش الأحد عشر،<ref>تاريخ الردة للكلاعي، ص54-58</ref> ولما وصل [[نجران]] قسم جيشه إلى فرقتين: فرقة تولت القضاء على فلول [[الأسود العنسي]] المتناثرة بين [[نجران]] و[[صنعاء]]، وكان المهاجر نفسه على هذه الفرقة، وفرقة عليها أخوه [[عبد الله بن أبي أمية|عبد الله]] مهمتها القضاء على بقية المرتدين في [[تهامة]] [[اليمن]].<ref>طبقات فقهاء اليمن، ص36</ref> واستقر المهاجر في صنعاء حتى تلقى الأمر بالتوجه لملاقاة عكرمة، وأن يسيرا معاً إلى [[حضرموت (محافظة)|حضرموت]] لمعاونة زياد بن لبيد الأنصاري (والي [[مملكة كندة|كندة]] بحضرموت)،<ref>اليمن في صدر الإسلام، ص283</ref> فقد كان [[الأشعث بن قيس]] قد هاجم زياداً، فأرسل زيادٌ إلى المهاجر وعكرمة يستعجلهما النجدة، فما كان من المهاجر إلا أن ترك عكرمة إلى الجيش وأخذ أسرعَ الناس ليكونا بجانب زياد، فاستطاع أن يفك الحصار عنه، وهربت [[كندة (قبيلة)|قبائل كندة]] إلى حصن من حصونها يسمى النجير، فنزل زياد والمهاجر عليه، ثم قدم عكرمة فنزل عليه فحاصروهم من جميع الجهات، ثم بعث المهاجر الطلائع إلى قبائل كندة والمتفرقين يدعوهم إلى الإسلام ومن أبى قاتلوه، فلم يبقَ منهم إلا مَن في الحصن المحاصر،<ref>اليمن في صدر الإسلام، ص284</ref><ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 152</ref> وعمل جيشا زياد والمهاجر على التضييق على من في الحصن، فاتفق زعماؤهم على أن يقوم [[الأشعث بن قيس]] بطلب الأمان والنزول على حكم المسلمين،<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 3/ 152</ref> ولكن الأشعث غدر بهم ولم يطلب الأمان لجميع من في الحصن، فكان من جراء ذلك أن قُتل من قبائل كندة في الحصن سبعمائة قتيل.<ref>اليمن في صدر الإسلام، ص286</ref><ref>تاريخ الردة للكلاعي، ص167</ref>

==== محاربة طليحة الأسدي ====
ادعى [[طليحة بن خويلد الأسدي]] النبوة في آخر عهد النبي محمد، وعسكر في منطقة تسمى [[سميراء]] واتبعه العوام وقويت شوكته، فبعث النبي محمد [[ضرار بن الأزور|ضرار بن الأزور الأسدي]] لمقاتلته،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص236</ref> وتوفي النبي محمد ولم يُحسم أمر طليحة،<ref>حركة الردة للعتوم، ص78</ref> فلما تولى أبو بكر الخلافة وجه إليه جيشاً بقيادة [[خالد بن الوليد]]، وكان طليحة الأسدي في قومه [[بنو أسد|بني أسد]] وفي [[بنو غطفان|غطفان]]، وانضم إليهم [[بنو عبس]] و[[بنو ذبيان|ذبيان]]، وبعث إلى بني جديلة والغوث من [[طيء]] يستدعيهم إليه، فبعثوا أقواماً منهم ليلحقوهم على أثرهم سريعاً،<ref>ترتيب وتهذيب كتاب البداية والنهاية، خلافة أبي بكر، محمد بن صامل السلمي، ص101</ref> وجاء خالد في الجنود، وعلى مقدمة الأنصار الذين معه [[ثابت بن قيس بن شماس]]، والتقى خالد مع طليحة الأسدي بمكان يقال له بزاخة، فكانت [[معركة بزاخة]]، وجاء طليحة فيمن معه، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطف الناس، وجعل عيينة يقاتل حتى انهزم وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدها له وأركب امرأته النوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى [[بلاد الشام|الشام]] وتفرق جمعه.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 2/ 322</ref> وبعد ذلك أسلم عيينة بن حصن وطليحة الأسدي وحسن إسلامهما، وندم طليحة على ما فعل.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص244-245</ref>

==== محاربة سجاح التغلبية ====
ادعت امرأة تسمى [[سجاح بنت الحارث]] النبوة، وهي من [[مسيحيون عرب|نصارى العرب]]، وكان معها جنودٌ من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو الخليفة أبي بكر، فلما مرت ببلاد [[بنو تميم|بني تميم]] دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها [[مالك بن نويرة|مالك بن نويرة التميمي]]، وتخلف آخرون منهم عنها، ثم أقنعها بنو تميم بقصد [[اليمامة (إقليم)|اليمامة]] لتأخذها من [[مسيلمة الكذاب]]، فلما سمع مسيلمة بمسيرها إليه خافها على بلاده، فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش لو عدلت، فقبلت ذلك، ثم قال لها: «هل لك أن أتزوجَك وآكلَ بقومي وقومِك العربَ؟»، قالت: «نعم»، وأقامت عنده ثلاثة أيام ثم رجعت إلى قومها، ثم انثنت راجعة إلى بلادها، فرجعت إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها [[تغلب|بني تغلب]] إلى زمان [[معاوية بن أبي سفيان]]، فأجلاهم منها [[عام الجماعة]].<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 326</ref>

==== محاربة الردة في عمان والبحرين ====
كان أهل [[سلطنة عمان]] قد استجابوا لدعوة الإسلام، ولكن بعد وفاة النبي محمد ادعى منهم رجل يقال له «ذو التاج» لقيط بن مالك الأزدي النبوة، وتابعه بعض أهل عمان فتغلَّب عليها، وكان عليها [[جيفر بن الجلندي|جيفر]] وعباد ابنا الجلندي،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 334</ref> فألجأهما إلى أطرافها من نواحي الجبال والبحر، فبعث أبو بكر إلى جيفر أميرين هما: [[حذيفة بن محصن|حذيفة بن محصن الغلفاني]] و[[عرفجة بن هرثمة البارقي|عرفجة بن هرثمة]] البارقي، وأرسل [[عكرمة بن أبي جهل]] القرشي مدداً لهم، وبلغ لقيطَ بن مالك مجيءُ الجيش، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له [[دبار (يوم)|دبار]]، وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، واجتمع [[جيفر بن الجلندي|جيفر]] وعباد ابنا الجلندي بمكان يقال له [[ولاية صحار|صحار]]، فعسكروا فيه وبعثا إلى أمراء أبي بكر فقدموا، فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتالاً شديداً، وابتلي المسلمون وكادوا أن يُولوا، فبُعث إليهم مددٌ من بني ناجية و[[عبد القيس]] في جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إليهم كان النصر للمسلمين، فولى المشركون مدبرين، ولحقهم المسلمون فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذراري وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 335</ref>

وأما أهل [[البحرين]] فقد أسلموا بعدما أرسل النبيُّ محمدٌ [[العلاء بن الحضرمي]] إلى ملكها وحاكمها المنذر بن ساوي العبدي، وقد أسلم هو وقومه وأقام فيهم الإسلام والعدل،<ref>التراتيب الإدارية، 1/ 19</ref> فلما توفي النبي محمد وتوفي المنذر بعده بمدة قصيرة، ارتد أهل البحرين وملَّكوا عليهم [[المنذر بن النعمان|المنذر بن النعمان الغرور]]،<ref>حروب الردة، أحمد سعيد، ص146</ref> وبقيت بلدة [[جواثا]] على الإسلام، وكانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة، فحاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم الأقوات وجاعوا جوعاً شديداً حتى فُرِّج عنهم، وبعث أبو بكر بجيش إلى البحرين بقيادة [[العلاء بن الحضرمي]]، فلما دنا من البحرين انضم إليه كثير من المسلمين، فاجتمع إليه جيش كبير قاتل به المرتدين، وتم النصر للمسلمين.<ref>الثابتون على الإسلام، ص63</ref>

==== مسيلمة الكذاب ومعركة اليمامة ====
{{مفصلة|مسيلمة الكذاب|معركة اليمامة}}
[[ملف:يامحمداه.gif|تصغير|250بك|يسار|{{اقتباس مضمن|'''يَا مُحمّدَاه'''}} شعار المسلمين في [[معركة اليمامة]] بقيادة [[خالد بن الوليد]].]]
ادعى [[مسيلمة الكذاب|مسيلمة بن حبيب الحنفي]] النبوة في عهد النبي محمد، وكان قومه بنو حنيفة في [[اليمامة (إقليم)|اليمامة]] قرب [[العيينة]] [[وادي حنيفة|بوادي حنيفة]] في [[نجد]]،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص261</ref> فلما تولى أبو بكر الخلافة أمر [[خالد بن الوليد]] إذا فرغ من [[بنو أسد|بني أسد]] و[[بنو غطفان|غطفان]] أن يقصد [[اليمامة (إقليم)|اليمامة]]، فسار خالد إلى اليمامة وجهَّز معه المسلمين، وكان على الأنصار [[ثابت بن قيس بن شماس]]، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكل به، وسيَّر أبو بكر جيشاً كثيفاً ليحمي ظهر خالد، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له عقرباء في طرف اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشه: [[محكم بن الطفيل الحنفي|المحكم بن الطفيل]]، [[الرجال بن عنفوة الحنفي|والرجال بن عنفوة]]. والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل، فتقدم وقد جعل على مقدمة الجيش [[شرحبيل بن حسنة]] وعلى المجنبتين [[زيد بن الخطاب]] و[[أبو حذيفة بن عتبة|أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة]].<ref>حروب الردة، شوفي أبو خليل، ص80</ref> ومرت مقدمة جيش خالد بنحو من أربعين أو ستين فارساً عليهم مجاعة بين مرارة الحنفي، وكان في طريق عودته إلى قومه، فأسرهم المسلمون، فلما جيء بهم إلى خالد قال لهم: «ماذا تقولون يا بني حنيفة؟»، قالوا: «نقول منا نبي ومنكم نبي»، فقتلهم،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 328</ref> ويقال أنه استبقى مجاعة بن مرارة وقتل الآخرين.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 106</ref><ref>الصديق أول الخلفاء، عبد الرحمن الشرقاوي، دار الكتاب العربي، 1410هـ - 1990م، ص105</ref> وتقدم خالد بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكره، واصطدم المسلمون والمرتدون فكانت جولة، وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يُعهد مثله، وحمل خالد حتى جاوزهم وسار لقتال مسيلمة، وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ووقف بين الصفين ودعا البراز وقال: {{اقتباس مضمن|أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد}}، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: {{اقتباس مضمن|يا محمداه}}، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، وصبر الصحابة في هذه المواطن صبراً لم يُعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى انتصروا، وولى المرتدون الأدبار، واتبعهم المسلمون حتى ألجأوهم إلى «حديقة الموت»، وقد أشار عليهم محكم بن الطفيل بدخولها، فدخلوها وفيها [[مسيلمة الكذاب]]، وأدرك [[عبد الرحمن بن أبي بكر|عبدُ الرحمن بن أبي بكر]] محكمَ بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 329</ref> فقال [[البراء بن مالك]]: «يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة»، فاحتملوه فوق الجحف (أي [[ترس|التروس]]) ورفعوها [[رمح|بالرماح]] حتى ألقوه عليهم، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي فتحه البراء وفتحوا الأبواب الأخرى وحوصر المرتدون،<ref>حروب الردة، لشوقي أبو خليل، ص92</ref> وخلص المسلمون إلى مسيلمة الكذاب، فتقدم إليه [[وحشي بن حرب]] فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه [[أبو دجانة|أبو دجانة سماك بن خرشة]] فضربه بالسيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: «وا أمير الوضاءة قتله العبد الأسود»، فكانت جملةُ من قُتلوا في الحديقة وفي المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل وقيل إحدى وعشرون ألفاً، وقُتل من المسلمين ستمائة وقيل خمسمائة، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 330</ref>

== فتوحات العراق في عهد أبي بكر ==
{{مفصلة|فتح العراق}}
لما انتهت حروب الردة واستقرت الأمور في [[شبه الجزيرة العربية|الجزيرة العربية]]، بدأ أبو بكر بتوجيه الجيوش لفتح البلاد، فجيَّش لفتح [[العراق]] جيشين:
* الجيش الأول بقيادة [[خالد بن الوليد]]، وكان يومئذ باليمامة، فكتب إليه يأمره بأن يغزو العراق من جنوبه الغربي، وقال له: «سر إلى العراق حتى تدخلها وابدأ بفرج الهند (يقصد مدينة [[الأبلة]])»، وأمره بأن يأتي العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم [[جزية|الجزية]]، فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره أن لا يُكره أحداً على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام وإن كان عاد إليه، وأمره أن يستصحب كل امرئ مر به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمداداً لخالد.<ref name="abc12">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 347</ref> كان تاريخ بعث خالد إلى العراق في شهر [[رجب]] وقيل في [[المحرم (شهر)|المحرم]] سنة [[12 هـ|12هـ]].<ref name="abc12"/>
* الجيش الثاني بقيادة [[عياض بن غنم]]، وكان بين النباج (قرية في منتصف الطريق بين [[مكة]] و[[البصرة]]) و[[الحجاز]]، فكتب إليه بأن يغزو العراق من شماله الشرقي بادئاً بالمصيخ، وهي موضع على حدود [[بلاد الشام|الشام]] مما يلي العراق، وقال له: «سر حتى المصيخ وابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها حتى تلقى خالداً».<ref>الفن العسكري الإسلامي، ياسين سويد، ص83</ref><ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 162</ref>
{{معارك خالد بن الوليد}}
وكتب أبو بكر إلى خالد وعياض: «ثم يستبقان إلى [[الحيرة]]، فأيهما سبق إلى الحيرة أمير على صاحبه»، وقال: «إذا اجتمعتما إلى الحيرة وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءاً للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخرُ على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارَهم ومستقرَّ عزهم: [[المدائن]]».<ref name="abc13">[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 163</ref> كان هدفُ الخليفة أبي بكر السيطرةَ على [[الحيرة]] لأهميتها العسكرية،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص307-308</ref> فقد كانت قلب العراق وأقرب منطقة مهمة إلى المدائن عاصمة [[الإمبراطورية الفارسية]]، كما كانت مهمة للقوات الإسلامية في قتالها [[الإمبراطورية البيزنطية|الروم]] في [[بلاد الشام]].<ref>معارك خالد بن الوليد ضد الفرس، عبد الجبار السامرائي، ص35</ref>

كان [[المثنى بن حارثة الشيباني|المثنى بن حارثة]] قد قدم على أبي بكر وحثه على محاربة الفرس وقال له: «ابعثني على قومي»، ففعل أبو بكر ذلك، فشرع المثنى في الجهاد بالعراق، ثم بعث إلى أبي بكر يستمده فكتب إليه أبو بكر: «أما بعد، فإني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق، فاستقبله بمن معك من قومك، ثم ساعده ووازره وكانفه، ولا تعصين له أمراً ولا تخالفن له رأياً، فإنه من الذين وصف الله تبارك وتعالى في كتابه: {{اقتباس مضمن|محمدٌ رسولُ الله والذين معه أشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تراهم ركعاً سجداً}}، فما أقام معك فهو الأمير، فإن شخص عنك فأنت على ما كنت عليه».<ref>الوثائق السياسية، حميد الله، ص371</ref> لم يلبث خالد أن قدم العراق ومعه ألفا رجل ممن قاتل المرتدين، وحشد ثمانية آلاف رجل من قبائل ربيعة، وكتب إلى ثلاثة من الأمراء في العراق قد اجتمعت لهم جيوش لغرض الجهاد فاستجابوا وضموا جيوشهم التي بلغ تعدادها مع جيش المثنى ثمانية آلاف، فأصبح جيش المسلمين ثمانية عشر ألفاً.<ref name="abc13"/> وقد اتفقوا على أن يكون مكان تجمع الجيوش [[الأبلة]]،<ref>أبو بكر الصديق، د.نزار الحديثي، د.خالد جاسم الجنابي، دار الشئون الثقافية العامة، العراق، الطبعة الأولى 1989م، ص46</ref> وقبل أن يسير خالد إلى العراق كتب إلى هرمز صاحب ثغر الأبلة كتابَ إنذار يقول فيه: {{اقتباس مضمن|أما بعد، فأسلم تسلم أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة}}.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 164</ref> وحين قارب خالد العدو جعل الجيش ثلاث فرق، وأمر أن تسلكَ كلُّ فرقة طريقاً، فجعل المثنى على فرقة المقدمة، ثم تلتها فرقة عليها [[عدي بن حاتم الطائي]]، وخرج خالد بعدهما وواعدهما الحضير، ليجتمعوا به ويصمدوا لعدوهم.<ref>أبو بكر الصديق، خالد الجنابي، ص46</ref>

=== معركة ذات السلاسل ===
{{مفصلة|معركة ذات السلاسل}}
سمع هرمز بمسير خالد بن الوليد، وعلم أن المسلمين تواعدوا الحضير، فسبقهم إليه وجعل على مقدمته القائدين «قباذ» و«أنو شجان»، فلما بلغ خالداً أنهم يمموا الحضير عدل عنها إلى [[كاظمة]]، فسبقه هرمز إليها ونزل على الماء، وجاء خالد فنزل على غير ماء، فقال لأصحابه: «حطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين».<ref>[[الكامل في التاريخ]]، [[ابن الأثير الجزري]]، 2/ 51</ref><ref name="abc14">[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 165</ref> وحط المسلمون أثقالهم والخيل وقوف، وتقدم الراجلون وزحفوا إلى الفرس، وجاءت سحابة فأمطرت وراء صفوف المسلمين فنهلوا من غدرانها وتقوَّوا، وواجه المسلمون هرمز، فاتفق هرمز مع حاميته على أن يبارز خالداً ثم يغدروا به ويهجموا عليه، فبرز بين الصفين ودعا خالداً إلى البراز فبرز إليه، والتقيا فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد فحملت حامية هرمز على خالد وأحدقوا به، فما شغله ذلك عن قتل هرمز، وما أن لمح ذلك [[القعقاع بن عمرو التميمي|القعقاع بن عمرو]] حتى حمل بجماعة من الفرسان على حامية هرمز، وكان خالد يجالدهم فأناموهم، وحمل المسلمون من وراء القعقاع حتى هزموا الفرس.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 163-165</ref> وقد كان الفرس قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا، فلم تغن عنهم شيئاً أمام المسلمين، وسميت هذه المعركة بذات السلاسل.<ref name="abc14"/><ref>التاريخ الإسلامي، 9/ 133</ref> وغنم المسلمون من الفرس حمل ألف بعير، وبعث خالد سرايا تفتح ما حول الحيرة من حصون فغنموا أموالاً كثيرة، ولم يعرض خالد لمن لم يقاتلوه من الفلاحين بل أحسن معاملتهم كما أوصاه أبو بكر، وأبقاهم في الأرض التي يفلحونها.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص312</ref>

=== معركة الثني ومعركة الولجة ===
{{مفصلة|معركة الثني|معركة الولجة}}
[[ملف:معارك خالد بن الوليد في فتح العراق.PNG|تصغير|250بك|يسار|خريطة تبين معارك [[خالد بن الوليد]] في [[الفتح الإسلامي لفارس|فتح العراق]].]]
كان هرمز قد كتب إلى كسرى بأمر خالد، فأمده كسرى بجيش بقيادة «قارن»، ولكن هرمز استخف بجيش المسلمين فسارع إليهم قبل وصول قارن، فنُكب ونُكب جيشه، وهرب فلول المنهزمين فالتقوا بجيش قارن، وعسكروا بمكان يسمى المذار، وكان خالد قد بعث [[المثنى بن حارثة الشيباني|المثنى بن حارثة]] وأخاه المعني في آثار الفرس ففتحا بعض الحصون، وعلما بمجيء جيش الفرس فأبلغا خالداً الخبر، فسار خالد حتى التقى بهم في المذار فاقتتلوا، وخرج قائدهم قارن ودعا إلى البراز، فبرز إليه خالد ولكن سبقه إليه معقل بن الأعمش بن النباش فقَتل قارن، وكان قارن وضع على ميمنته «قباذ» وعلى ميسرته «أنوشجان» وهما من القواد الذين حضروا اللقاء الأول وفرُّوا من المعركة، فأما قباذ فقتله [[عدي بن حاتم الطائي]]، وأما أنوشجان فقتله [[عاصم بن عمرو التميمي]]، واشتد القتال بين الفريقين، ولكن الفرس انهزموا بعد مقتل قادتهم، وقُتل منهم ثلاثون ألفاً، ولجأ بقيتهم إلى السفن فهربوا عليها، وأقام خالد بالمذار.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 168</ref><ref>التاريخ الإسلامي، 9/ 134</ref> وصل نبأ نكبة الفرس في المذار إلى كسرى، فبعث «الأندرزغر» على رأس جيش عظيم، وأردفه بجيش آخر عليه «بهمن جاذويه»، وتحرك «الأندرزغر» حتى انتهى إلى الولجة، وخرج «بهمن جاذويه» يريد أن يحشر جيش المسلمين بينه وبين «الأندرزغر»، وتجمعت القوة الفارسية في الولجة، ولما بلغ خالداً وهو بالثني قرب [[البصرة]] تجمعُ الفرس ونزولُهم الولجة، رأى أن من الأفضل للمسلمين أن يهاجموا هذه الحشود الكبيرة من ثلاث جهات حتى يفرقوا جموعهم ويفاجئوهم، ولكي يؤمِّن خطوطه الخلفية أمر سويد بن مقرن بلزوم الحفير، وتحرك بجيشه حتى وصل الولجة، فبعث بفرقتين لمهاجمة حشود الفرس من الخلف والجانبين، وبدأت المعركة واشتد القتال بين الفريقين، وشدد خالد بهجومه من المقدمة، وفي الوقت المناسب انقض الكمينان على مؤخرة جيش العدو فحلت به الهزيمة المنكرة، وفر «الأندرزغر» مع عدد من رجاله ولكنهم ماتوا عطشاً.<ref>[[الكامل في التاريخ]]، [[ابن الأثير الجزري]]، 2/ 52</ref><ref>أبو بكر الصديق، خالد الجنابي، ص48</ref>

=== فتح أليس وأمغيشيا والحيرة ===
{{مفصلة|معركة أليس|معركة الحيرة}}
انضم بعض [[مسيحيون عرب|نصارى العرب]] وعليهم عبد الأسود العجلي إلى الفرس وعليهم «جابان»، فلما بلغ خالداً تجمعُ نصارى العرب وعرب الضاحية من أهل [[الحيرة]] سار إليهم، ولا علم له بانضمام الفرس لجموع العرب، فلما أقبلت جنود المسلمين طلب جابان من جنده مهاجمتهم، فأظهروا عدم الاكتراث بخالد والتهاون بأمره وتداعوا إلى الطعام، إلا أن خالداً قاتلهم أشد القتال، وقد زاد في شدة الفرس ومن معهم ما يتوقعون من لحاق «بهمن جاذويه» بهم في مدد كبير، وصبر المسلمون على هذا القتال العنيف، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 173</ref> وبعد أن فرغ خالد من أليس نهض حتى أتى منطقة تسمى أمغيشيا، وقد جلا عنها أهلُها وتفرقوا في السواد، فأمر بهدمها، وأصاب المسلمون بها ما لم يصيبوا مثله، فقد بلغ سهم الفارس ألفاً وخمسمائة درهم سوى أنفال أهل البلاء، ولما وصلت أخماس الغنائم وأخبار النصر إلى أبي بكر وما صنعه خالد والمسلمون قال: «يا معشر قريش، عدا أسدُكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد؟».<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 175</ref>

وعلم [[ساتراب|مرزبان]] [[الحيرة]] بما صنع خالد بأمغيشيا فأيقن أنه آتيه، فاستعد لذلك وأرسل جيشاً بقيادة ابنه ثم خرج في إثره، وأمر ابنه بسد [[الفرات]] ليعطل سفن المسلمين، وفوجئ المسلمون بذلك واغتموا له، ونهض خالد في خيل يقصد ابن المرزبان، فلقي خيلاً من خيله ففاجأهم فأنامهم بالمقر، ثم نهض قبل أن تصل أخباره إلى المرزبان حتى لقي جنداً لابنه على فم الفرات فقاتلهم وهزمهم، وسد الأنهار وسلك الماءُ سبيله، ثم طلب خالد عسكره واتجه إلى الحيرة، وعلم المرزبان بموت ابنه فهاله الأمر فعبر الفرات هارباً من غير قتال، فعسكر خالد مكانه وأهل الحيرة متحصنون، وأدخل خالد الخيل من عسكره، وخطط لمحاصرة قصور الحيرة، فأرسل [[ضرار بن الأزور]] الأسدي لمحاصرة القصر الأبيض، وأرسل ضرار بن الخطاب لمحاصرة قصر العدسيين، وأرسل [[المثنى بن حارثة الشيباني|المثنى بن حارثة]] الشيباني لمحاصرة قصر ابن بقيلة، وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم إلى الإسلام، فإن أجابوا قبلوا منهم وإن أبوا أجلوهم يوماً، وأمرهم أن لا يمكنوا عدواً منهم بل عليهم أن يناجزوهم ولا يمنعوا المسلمين من قتال عدوهم ففعلوا، واختار القوم المنابذة، وعمدوا لرمي المسلمين بالحصى عن جانب والضرب عن جانب، فرشقهم المسلمون بالنبل، وشنوا غاراتهم، وفتحوا الدور والديارات، فنادى أهل القصور: «يا معشر العرب قبلنا واحدة من ثلاث فكفوا عنا»، وخرج رؤساء القصور فقابلهم خالد، كل أهل قصر على حدة، وتصالحوا مع خالد على [[جزية|الجزية]]، وصالحوه على مائة وتسعين ألفاً، وبعث خالد بالفتح والهدايا إلى أبي بكر، فقبل الهدايا وعدها لأهل الحيرة من الجزية تعففاً عما لم يأذن به الشرع.<ref>تاريخ الدعوة إلى الإسلام، ص348</ref>

=== فتح الأنبار وعين التمر ===
{{مفصلة|معركة الأنبار|معركة عين التمر}}
استخلف خالد على الحيرة [[القعقاع بن عمرو التميمي]]، واتجه بتعبئة لإغاثة القائد [[عياض بن غنم]]، فوصل خالد إلى [[محافظة الأنبار|الأنبار]]، فوجد القوم قد تحصنوا وخندقوا على أنفسهم وأشرفوا على أعلى الحصون،<ref name="abc15">تاريخ الدعوة إلى الإسلام، ص350</ref> فضرب المسلمون عليهم الحصار، وأمر خالد جنوده أن يصوبوا إلى عيون أهل الأنبار، فلما نشب القتال أصابوا في أول رمية ألف عين من عيونهم، ولذلك سميت هذه الوقعة «ذات العيون».<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 353</ref> واخترق خالد الخندق الذي حول [[محافظة الأنبار|الأنبار]] بفطنة وذكاء، حيث عمد إلى الضعاف من [[جمل|الإبل]] بجيشه فنحرها، وملأ الخندق في أضيق نقطة فيها بجثث الإبل، واقتحم المسلمون الخندق وجسرُهم جثث الإبل، وصاروا مع عدوهم داخل الخندق، فالتجأ العدو إلى الحصن،<ref name="abc15"/> واضطر «شيراز» قائد جند الفرس إلى قبول الصلح بشروط خالد، على أن يخرج من الأنبار في عدد من الفرسان يحرسونه، فقبل خالد منه ذلك بشرط ألا يأخذ معه من المتاع أو من الأموال شيئاً.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 191</ref>

واستخلف خالد [[الزبرقان بن بدر]] على [[محافظة الأنبار|الأنبار]] وسار إلى [[عين تمر|عين التمر]]، فوجد عقة بن أبي عقة في جمع عظيم من قبائل النمر و[[تغلب]] و[[إياد (قبيلة)|إياد]] ومن حالفهم، ومعهم من الفرس «مهران» بقواته،<ref name="abc16">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 354</ref> وطلب عقة من مهران أن يتركه لقتال خالد فقال مهران له: «دونكم وإياهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم». وسار خالد فتلقاه عقة، فلما تواجهوا قال خالد لمجنبته: «احفظوا مكانكم فإني حامل»، وأمر حماته أن يكونوا من ورائه، وحمل على عقة وهو يسوّي الصفوف فاحتضنه وأسره، وانهزم جيش عقة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر. وقصد خالد حصن [[عين تمر|عين التمر]]، فلما بلغ «مهران» هزيمةُ عقة وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فلول نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحاً فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، فاضطر أهل الحصن أن ينزلوا على حكم خالد، فأمر بضرب عنق عقة ومن كان أُسر معه والذين نزلوا على حكمه أجمعين. ثم أرسل أبو بكر [[الوليد بن عقبة]] إلى عياض مدداً له وهو يحاصر [[محافظة دومة الجندل|دومة الجندل]]، فلما قدم عليه وجده في ناحية من العراق يحاصر قوماً، وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو محصور أيضاً، فقال عياض للوليد: «إن بعض الرأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه؟»، فقال له الوليد: «اكتب إلى خالد يمدك بجيش من عنده»، فكتب إليه يستمده، فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به، فكتب خالد إليه: «من خالد إلى عياض، إياك أريد، البث قليلاً تأتك الحلائب، يحملن آساداً عليها القشائب، كتائب تتبعها كتائب».<ref name="abc16"/>

=== فتح دومة الجندل ===
{{مفصلة|معركة دومة الجندل|معركة الزميل}}
رحل خالد بجنده من [[عين تمر|عين التمر]] بعد أن خلف عليها عويم بن الكاهل الأسلمي، ووصلت أنباؤه إلى أهل [[محافظة دومة الجندل|دومة الجندل]]، فاستنجدوا بحلفائهم من قبائل بهراء و[[بنو كلب|كلب]] و[[غساسنة|غسان]] و[[تنوخيون|تنوخ]]،<ref name="abc16"/> وكان أمر أهل دومة الجندل إلى زعيمين هما: [[أكيدر بن عبد الملك]] والجودي بن ربيعة، فاختلفا،<ref name="abc17">[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 6/ 355</ref><ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 195</ref> وخرج أكيدر مفارقاً قومه، وبلغ خالداً خبرُه فأرسل إليه [[عاصم بن عمرو التميمي|عاصم بن عمرو]] معارضاً له فأخذه، فأمر خالد بقتله.<ref>التاريخ الإسلامي، 9/ 163</ref> ونزل خالد على [[محافظة دومة الجندل|دومة الجندل]]، وجعل أهلَها وحلفاءَهم بين فكي كماشة ذراعُها الأولى عسكرُه والثانيةُ عسكرُ [[عياض بن غنم]]،<ref>خالد بن الوليد، صادق إبراهيم عرجون، الدار السعودية، 1407هـ-1987م، ص231</ref> وتقدم الجودي بن ربيعة بجنوده نحو خالد، وتقدم ابن الحدرجان وابن الأيهم بجنودهما ناحية عياض، ودارت المعركة، وأنزل خالد الهزيمة بالجودي وأتباعه، وانتزع عياض النصر من ابن الحدرجان ومن معه بصعوبة، وحاولت فلول المنهزمين الاحتماء بالحصن، ولكنه كان قد عج بمن فيه فأغلقوه عليهم وتركوا أصحابهم حوله في العراء، ولم يلبث خالد أن هاجم من بداخل الحصن بعد أن اقتلع بابه فقتل منهم جموعاً كثيرة.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 196</ref><ref>أبو بكر الصديق، خالد الجنابي، ص54</ref>

ثم أمر خالد [[الأقرع بن حابس]] بالرجوع إلى [[محافظة الأنبار|الأنبار]] وأقام بدومة الجندل، فظن الفرس وعرب المنطقة ذلك فرصة لهم، فخرج «زرمهر» من [[بغداد]] ومعه «روزبة» يريدان [[محافظة الأنبار|الأنبار]]، وتواعدا في الحصيد والخنافس، فوصل خبرهم [[الزبرقان بن بدر]] التميمي وهو على الأنبار، فاستمد [[القعقاع بن عمرو التميمي|القعقاع بن عمرو]] خليفة خالد على الحيرة، فأمده بأعبد بن فدكي السعدي وأمره بالحصيد، و[[عروة البارقي|بعروة بن الجعد البارقي]] وأمره بالخنافس. وعندما علم خالد بتحرك بعض القبائل ورغبتهم بالانضمام إلى «روزبة» في الحصيد، جعل القعقاعَ أميراً على المسلمين في الحصيد بعد أن ترك مكانَه [[عياض بن غنم]] على الحيرة، فلما علم «روزبة» بتوجه القعقاع إليه استمد «زرمهر» فانضم إليه، والتقى المسلمون بجموع الفرس، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة من بينهم «زرمهر» و«روزبة»، وغنموا غنائم كثيرة.<ref name="abc17"/> وبعد أن وصلت أخبار المسلمين في الحصيد إلى خالد، واعد قادة جيوشه في ليلة وساعة يجتمعون فيها عند المصيخ قرب [[حوران]]، فلما توافوا في موعدهم بيتوا بعض القبائل ومن آوى إليهم من ثلاثة أوجه، فأوقع بهم خسائر كبيرة،<ref>أبو بكر الصديق، خالد الجنابي، نزار الحديثي، ص55</ref> ثم علم خالد بتحشد بعض القبائل في «الثني» قرب [[ديار بكر]] استعداداً لقتال المسلمين، فباغتهم في «الثني» من عدة اتجاهات فشتت جموعهم، وكذلك هاجم المتحشدين في «الزميل» فأوقع بهم خسائر هائلة.<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 199-200</ref>

=== معركة الفراض ===
{{مفصلة|معركة الفراض}}
بعد أن بسط خالد راية الإسلام على العراق واستسلمت له قبائل العرب، قصد منطقة الفراض، وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، حتى يحفظ ظهره ويأمن من أن تكون وراءه عورة عند اجتيازه أرض السواد إلى بلاد فارس، فلما اجتمع المسلمون بالفراض غضب [[الإمبراطورية البيزنطية|الروم]] وهاجوا واستعانوا بمن يليهم من مسالح الفرس، فلبس الفرس سراعاً لأنهم كانوا حانقين على المسلمين، كما استمدوا العرب من [[تغلب]] و[[إياد (قبيلة)|إياد]] و[[النمر بن قاسط]] فأمدوهم، فاجتمعت جيوش الفرس والروم والعرب على المسلمين في تلك الموقعة، فلما بلغوا الفرات قالوا للمسلمين: «إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم»، فقال خالد: «بل اعبروا إلينا»، قالوا: «فتنحوا حتى نعبر»، فقال خالد: «لا نفعل ولكن اعبروا أسفل منا»، وذلك للنصف من [[ذو القعدة|ذي القعدة]] سنة [[12 هـ|12هـ]]، فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: «احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم، والله لينصرن ولنخذلن»، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا اقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً، ثم انتصر المسلمون، وقال خالد للمسلمين: «ألحوا عليهم ولا ترفهوا عنهم»، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوه، وقُتل من أعداء المسلمين عشرات الألوف، وأقام خالد في الفراض عشرة أيام، ثم أمر بالرجوع إلى [[الحيرة]].<ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 201</ref>

وتعد هذه المعركة خاتمة المعارك التي خاضها خالد بن الوليد في العراق،<ref>التاريخ الإسلامي، 9/ 173</ref> وانكسرت شوكة الفرس بعد هذه المعركة، ولم تقم لهم قوة حربية يخشاها الإسلام بعد هذه الموقعة.<ref>خالد بن الوليد، ص36</ref>

== فتوحات الشام في عهد أبي بكر ==
{{مفصلة|فتح الشام}}
كان اهتمام المسلمين [[بلاد الشام|بالشام]] منذ عهد النبي محمد، فقد كتب إلى [[هرقل]] عظيم الروم وغيره من أمراء الشام كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام، كما أرسل جيشاً إلى مؤتة في الشام فكانت [[غزوة مؤتة|معركة مؤتة]]، ثم قاد [[غزوة تبوك]] بنفسه. ولما تولى أبو بكر الخلافة، استمر على المنهج الذي وضعه النبي محمد، فأصر بعد وفاة النبي على إنفاذ جيش [[أسامة بن زيد]]، ثم أرسل [[خالد بن سعيد|خالد بن سعيد بن العاص]] بجيش لفتح الشام.<ref name="abc18">سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص336</ref>

=== جيش خالد بن سعيد بن العاص ===
بعث أبو بكر [[خالد بن سعيد|خالد بن سعيد بن العاص]] إلى مشارف الشام، وأمره أن يكون ردءاً للمسلمين بتيماء، وهي بلدة في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى، وأمره ألا يفارقها إلا بأمره، ولا يقاتل إلا من قاتله، فبلغ خبرَه [[هرقل]] ملكُ الروم، فجهز جيشاً من العرب التابعين للروم من قبائل بهراء وسليح و[[بنو كلب|كلب]] و[[بنو لخم|لخم]] و[[جذام (قبيلة)|جذام]] و[[غساسنة|غسان]]، فسار إليهم خالد بن سعيد فلقيهم على منازلهم فافترقوا، فأمره أبو بكر بالإقدام والزحف على الروم قبل تنظيم صفوفهم، ونصحه أن يحافظ على خط رجعته وألا يتوغل كثيراً في بلاد العدو،<ref name="abc18"/> فتقدم خالد حتى بلغ [[القسطل (فلسطين)|القسطل]] في طريق [[البحر الميت]]، فهزم جيشاً من الروم على الشاطئ الشرقي للبحر، ثم تابع مسيرته، فجمع الروم قوات تزيد على ما جمعوا في تيماء، فكتب خالد إلى الخليفة يستمده ليتابع تقدمه، فبعث إليه [[عكرمة بن أبي جهل]] بجيش البدال و[[الوليد بن عقبة]] بجموع أخرى، فلما وصلت هذه القوات إلى خالد بن سعيد أمر بالهجوم على الروم، وأخذ طريقه إلى [[معركة شقحب|مرج الصفر]] (شرقي [[بحيرة طبريا|بحيرة طبرية]])، وانحدر القائد الرومي [[ماهان]] بجيشه يستدرج جيوش المسلمين التي وصلت إلى مرج الصفر، فأوقعوا بالمسلمين الهزيمة، وصادف ماهان سعيد بن خالد بن سعيد في كتيبة من العسكر فقتلهم وقتل سعيداً في مقدمتهم، وبلغ خالد مقتل ابنه ورأى نفسه قد أحيط بالروم، فخرج هارباً في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل، ونجح عكرمة في سحب بقية الجيش إلى حدود الشام.<ref>أبو بكر الصديق، نزار الحديثي، خالد الجنابي، ص58</ref> عند ذلك، أمر أبو بكر المسلمين بالنفير إلى الجهاد، وأمر [[بلال بن رباح|بلالاً بن رباح]] فنادى في الناس: «أن انفروا إلى جهاد عدوكم الروم بالشام»،<ref>تاريخ دمشق لابن عساكر، 2/ 63-65</ref> وكتب إلى أهل [[اليمن]] يدعوهم إلى الجهاد، فانساح أهل اليمن من جميع أرجائها بأعداد هائلة، كلهم خرجوا طواعية غير مكرهين.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص341-342</ref>

=== إرسال الجيوش الإسلامية إلى الشام ===
بعد أن دعا أبو بكر الناس إلى الجهاد، عقد الألوية لأربعة جيوش أرسلها لفتح الشام، وأمر كل أمير أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر، وهذه الجيوش هي:
[[ملف:Mohammad adil-Muslims Invasion of Syria.ar.png|تصغير|250بك|يسار|خريطة توضح خط سير الجيوش الإٍسلامية الفاتحة للشام.]]
* جيش [[يزيد بن أبي سفيان]]: وهو أول الجيوش التي تقدمت إلى [[بلاد الشام]]، وكانت مهمته الوصول إلى [[دمشق]] وفتحها ومساعدة الجيوش الأربعة عند الضرورة، وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف، ثم عززه الخليفة بالإمدادات حتى صار معه بحدود سبعة آلاف رجل.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص343-344</ref>
* جيش [[شرحبيل بن حسنة]]: حدد أبو بكر لمسير شرحبيل بن حسنة ثلاثة أيام بعد مسير يزيد بن أبي سفيان، وكان جيش شرحبيل ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، وأمره أن يسير إلى [[تبوك]] و[[البلقاء (محافظة)|البلقاء]] ثم [[بصرى]]، وهي آخر مرحلة، فتقدم شرحبيل نحو [[البلقاء (محافظة)|البلقاء]] حيث لم يلق مقاومة تُذكر، وكان يسير على الجناح الأيسر لجيش [[أبو عبيدة بن الجراح|أبي عبيدة بن الجراح]]، والجناح الأيمن لجيش [[عمرو بن العاص]] في [[فلسطين]]، فأوغل في البلقاء حتى بلغ بصرى، فأخذ يحاصرها، فلم يوفق في فتحها لأنها كانت من المراكز الحصينة.<ref>أبو بكر الصديق، نزار الحديثي، ص62</ref>
* جيش [[أبو عبيدة بن الجراح|أبي عبيدة بن الجراح]]: وكان يتراوح ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف مجاهد، وهدف ذلك الجيش [[حمص]]. سار أبو عبيدة من المدينة ماراً بوادي القرى إلى [[الجابية]]،<ref>[[الكامل في التاريخ]]، [[ابن الأثير الجزري]]، 2/ 66</ref> وكان هذا الجيش الجناح الأيسر لجيش يزيد، والجناح الأيمن لجيش شرحبيل، وكان في صحبة أبي عبيدة فارس من فرسان العرب المشهورين هو [[قيس بن المكشوح المرادي|قيس بن هبيرة بن مسعود المرادي]]، فأوصى به أبو بكر أبا عبيدة قبل سفره.<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص349</ref>
* جيش [[عمرو بن العاص]]: وجهه أبو بكر إلى [[فلسطين]]، وكان تعداده يتراوح من ستة آلاف إلى سبعة آلاف مجاهد، فسلكت طريقاً لساحل [[البحر الأحمر]] حتى [[وادي عربة]] في [[البحر الميت]]، ونظم عمرو بن العاص قوة استطلاع مؤلفةً من ألف مجاهد يقودها [[عبد الله بن عمر بن الخطاب]]، ودفعها باتجاه محور تقدم الروم، فاصطدمت هذه القوة بقوة للروم، ولكنها انتصرت عليهم، وعادت ببعض الأسرى فاستنطقهم عمرو بن العاص، وعلم منهم أن جيش العدو بقيادة «رويس» يحاول مباغتة المسلمين بالقيام بالهجوم، فنظم عمرو قواته، وشن الروم هجومهم، واستطاع المسلمون صده ونجحوا في رد قوات الروم، وبعد ذلك شنوا هجومهم المضادَّ ودمروا قوة العدو وأرغموهم على الفرار وترك ميدان المعركة، وتابع الفرسان المطاردة، وانتهت بسقوط ألوف القتلى من الروم.<ref>العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين، الرائد نهاد عباس شهاب الجبوري، دار الحرية، بغداد، ص143</ref>

لاقت الجيوش الإسلامية صعوبة في مواجهة جيوش [[الإمبراطورية الرومانية]] لقوتها وكثرة عددها، وقد كان للروم في الشام جيشان كبيران: أحدهما في [[فلسطين]] والآخر في [[أنطاكية (مدينة تاريخية)|أنطاكية]]، وعندما شهد قائد الروم هرقل توغل الجيوش الإسلامية، أصدر أوامره لقواته بالتوجه لتدمير الجيوش الإسلامية الأربعة كل على حدة. فراسل قادةُ المسلمين أبا بكر يخبرونه بأمر الروم، فشرع بإمدادهم بالرجال والسلاح والخيول وما يحتاجونه، فأرسل [[هاشم بن عتبة|هاشم بن عتبة بن أبي وقاص]] ومعه ألف مقاتل إلى أبي عبيدة،<ref>تاريخ فتوح الشام، لأبي زكريا يزيد بن محمد الأزدي، تحقيق عبد المنعم عبد الله عامر، مؤسسة القاهرة، 1970م، ص33-35</ref> وأرسل سعيد بن عامر بن حذيم ومعه سبعمائة رجل إلى يزيد بن أبي سفيان.<ref>فتوح الشام للأزدي، ص35-38</ref> وقرر قادة المسلمين الانسحاب من جميع الأراضي التي فتحوها والتجمع في مكان واحد ليتمكنوا من إحباط خطة الروم وإجبارهم على خوض معركة فاصلة تخوضها كل الجيوش الإسلامية، فاتفقوا أن يكون التجمع باليرموك،<ref name="abc19">العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين، ص148</ref> وأن يتم الانسحاب مع تجنب الاشتباك مع العدو، فانسحب أبو عبيدة من [[حمص]]، وانسحب شرحبيل بن حسنة من [[الأردن]]، وانسحب يزيد بن أبي سفيان من [[دمشق]]، وأخذ عمرو بن العاص في الانسحاب تدريجياً من [[فلسطين]].<ref name="abc19"/>

وقرر أبو بكر أن ينقل خالد بن الوليد بجيشه إلى الشام وأن يتولى قيادة الجيوش بها، لأن الأمر بالشام يحتاج إلى قائد صاحب قدرة عسكرية فائقة، وصاحب تجربة طويلة في المعارك،<ref>تاريخ الدعوة إلى الإسلام، ص359-360</ref> فحشد خالد جنوده وانطلق ليعبر إلى الشام عبر صحاري رهيبة، وبعد خمسة أيام من الترحال وصل جيش خالد إلى الشام، ففتح منطقة «أدك» صلحاً، ثم نزل «تدمر» فصالح أهلها، ثم أتى «القريتين» فقاتله أهلها فظفر بهم، ثم قصد «حوارين» وصار إلى موضع يعرف بالثنية، فنشر رايته وهي [[راية العقاب]]، فسمي ذلك الموضع بثنية العقاب،<ref>أبو بكر الصديق، نزار الحديثي، خالد الجنابي، ص68</ref> ثم سار حتى وصل إلى قناة [[بصرى]]، فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه، ثم سار خالد وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن العاص وقد قصده الروم، فكانت [[معركة أجنادين]].<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 7/ 6-7</ref>

=== معركة أجنادين ===
{{مفصلة|معركة أجنادين}}
كان عمرو بن العاص ينسحب بمحاذاة ضفة [[نهر الأردن]] لكي يلتقي بجيوش المسلمين الأخرى، فقرر خالد بن الوليد أن يسرع وينضم إلى جيش عمرو بن العاص، ويخوض وإياه معركة فاصلة فيقضي على قوة الروم الكبيرة، فيتعزز الموقف العسكري للجيش الإسلامي، ويصون خط رجعته، ويحمي جناحه الأيسر، ويثبت أقدام المسلمين في فلسطين، فانحدر من [[اليرموك (إربد)|اليرموك]] إلى سهل [[فلسطين]] بعدما أصدر أمره إلى عمرو بن العاص بأن ينسحب متدرجاً جيش الروم حتى يصل جيش خالد فيطبقان عليه، فارتد عمرو بن العاص إلى [[معركة أجنادين|أجنادين]]، وعندما وصلت قوات خالد أصبح جيش المسلمين بحدود ثلاثين ألف مقاتل، وكان وصول خالد في الوقت المناسب، فما أن اصطدمت قوات عمرو بن العاص بالروم حتى انقض خالد بقواته الرئيسة، وجرت معركة عنيفة، وكان لمهارة القائدين خالد وعمرو العسكرية دور كبير في تحقيق النصر الحاسم، حيث وُجِّهت قوة اقتحامية اخترقت صفوف العدو حتى وصلت إلى قائد الروم فقتلوه، وبمقتل القائد انهارت مقاومة الروم وهربوا في اتجاهات مختلفة.<ref>أبو بكر الصديق، نزار الحديثي، ص70</ref>

=== معركة اليرموك ===
{{مفصلة|معركة اليرموك}}[[ملف:Battlefield of yarmouk-mohammad adil.jpg|تصغير|275بك|يسار|الأرض التي دارت عليها معركة اليرموك شمال [[الأردن]].]]
بعد انتصار المسلمين في أجنادين اجتمعوا في اليرموك، وتحركت جيوش الروم بقيادة «تيدور» ونزلت في منزل واسع الطعن واسع المطرد ضيق المهرب، وكان عدد المسلمين أربعين ألف مقاتل أو خمسة وأربعين ألفاً يقودهم خالد بن الوليد، وأما عدد الروم فيُقدَّر بمائتين وأربعين ألفاً بقيادة «تيدور»، وقسم خالد جيشه، فجعل على فرقة القلب [[أبو عبيدة بن الجراح|أبا عبيدة بن الجراح]] ومعه [[عكرمة بن أبي جهل]] و[[القعقاع بن عمرو التميمي|القعقاع بن عمرو]]، وعلى فرقة الميمنة [[عمرو بن العاص]] ومعه [[شرحبيل بن حسنة]]، وعلى فرقة الميسرة [[يزيد بن أبي سفيان]].<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 7/ 8</ref> ونزلت الرومُ الواقوصة قريباً من اليرموك، وصار الوادي خندقاً عليهم، وبدأ القتال وحميت الحرب، وتقدمت صفوف الروم فحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين فانكشف قلب الجيش الإسلامي من ناحية الميمنة، واستطاع الروم إحداث ثغرة في صفوف المسلمين والتسلل إلى مؤخرتهم، فثبت المسلمون حتى صدوا الروم، ثم ركبهم الروم فزال المسلمون من الميمنة إلى القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت سور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، ثم تنادوا فتراجعوا حتى نهنهوا مَن أمامهم من الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس.<ref>فتوح الشام للأزدي، ص222</ref> ثم حملت ميمنة الروم على ميسرة المسلمين حملة شديدة، فانكشف قلب المسلمين من ناحية الميسرة وركب الروم أكتاف من انهزم من المسلمين، وتبعوهم حتى دخلوا معسكر المسلمين، فاستقبلتهم نساء المسلمين بالحجارة وأعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم ويقلن لهم: «أين عز الإسلام والأمهات والأزواج؟ أين تفرون وتدعوننا للعلوج؟»، فإذا زجرنهم خجل أحدهم من نفسه ورجع إلى القتال، وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً. وحاولت ميسرة الروم مرة أخرى شن الهجوم على ميمنة المسلمين، فشدوا على [[عمرو بن العاص]] وجنده في محاولة اختراق الصفوف لكي يطوِّقوهم، وقاتل عمرو وجنده عن مواضعهم، إلا أن الروم تمكنوا من دخول معسكرهم، ونزلت المسلمات من التل وأخذن يضربن وجوه الرجال المراجعين، وبذلك ارتدت إلى المسلمين عزائمهم، ودخلوا للقتال مرة أخرى، وحمل المسلمون على الروم من جديد حتى أزاحوهم عن المواضع التي كسبوها.<ref>العمليات التعرضية والدفاعية، ص176</ref>

وحمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب، فقُتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف، فما وصل إليهم حتى انقض جميعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فانكشفوا، وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم.<ref>فتوح البلدان للأزدي، ص171</ref> وقامت ميمنة المسلمين بإغلاق المنافذ والثغرات في وجوه الروم، وحصروا بين وادي اليرموك و[[نهر الزرقاء]]، واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الروم عن مشاتهم، فحملوا على الروم وركبوا أكتافهم حتى أرهقوهم، وبذلك أراد فرسانُ الروم مخرجاً لهم للفرار منه، فأمر خالد عمرو بن العاص بفسح المجال لهم ففعل ذلك وهرب فرسان الروم، وبذلك تحرك مشاة الروم دون غطاء من خيالتهم، فجاء المشاة إلى الخنادق وهم مقيدون بالسلاسل، وجاءهم المسلمون إلى خندقهم في ظلال الليل، وأخذ معظم مشاة الروم ينهارون بالوادي، فإذا منهم شخص قُتل سقط معه جميعُ الذين كانوا مقيدين معه، وقَتل منهم المسلمون في هذه المرحلة خلقاً كثيراً قُدِّر عددهم بمائة وعشرين ألفاً، والناجون منهم قد انسحب قسم منهم إلى فحل، والقسم الآخر إلى دمشق داخل بلاد الشام.<ref>العمليات التعرضية والدفاعية، ص175</ref> وقُتل أحد قادة الروم «تذارق»، وكان له ثلاثون سرادقاً وثلاثون رواقاً من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حاز المسلمون ما كان هنالك من الغنائم،<ref>ترتيب وتهذيب البداية والنهاية، خلافة أبي بكر الصديق، د.محمد بن صامل السلمي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1418هـ-1997م، ص173</ref> وكان عددُ قتلى المسلمين ثلاثةَ آلاف منهم: [[عكرمة بن أبي جهل]]، وابنه عمرو، و[[سلمة بن هشام]]، وعمرو بن سعيد، و[[أبان بن سعيد بن العاص|أبان بن سعيد]].<ref name="abc20">العمليات التعرضية والدفاعية، ص179</ref> وكان عدد قتلى الروم مائة وعشرين ألفاً، منهم ثمانون ألفاً مقيدون بالسلاسل وأربعون ألفاً مطلقون سقطوا جميعهم في الوادي.<ref name="abc20"/>

== وفاته ==
في شهر [[جمادى الآخرة]] سنة [[13 هـ|13هـ]]، مرض الخليفة أبو بكر واشتد به المرض،<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 7/ 18</ref><ref>[[تاريخ الطبري|تاريخ الأمم والملوك]]، [[محمد بن جرير الطبري]]، 4/ 238</ref> فلما ثقل واستبان له من نفسه، جمع الناس إليه فقال: {{اقتباس مضمن|إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي}}،<ref>التاريخ الإسلامي، 9/ 258</ref> فتشاور الصحابة، ثم رجعوا إلى أبي بكر فقالوا: «رأيُنا يا خليفة رسول الله رأيُك»، قال: «فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده»، ثم وقع اختيار أبي بكر بعد أن استشار بعض الصحابة على عمر بن الخطاب، ثم كتب عهداً مكتوباً يُقرأ على الناس، وكان نص العهد:
{{اقتباس خاص|بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بَدّلَ فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب: {{اقتباس مضمن|وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}}.<ref>سورة الشعراء، الآية: 227</ref><ref>تاريخ الإسلام للذهبي، عهد الخلفاء الراشدين، دار الكتاب العربي، 1407هـ، ج3 ص116-117</ref>}}

وقد روت [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]] خبر وفاة أبيها أبي بكر فقالت: «أول ما بُدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل وكان يوماً بارداً، فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه»،<ref>أصحاب الرسول، محمود المصري، 1/ 104</ref> وقالت [[عائشة بنت أبي بكر|السيدة عائشة]]: قال أبو بكر: {{اقتباس مضمن|انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي}}، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح (البعير الذي يُستقى عليه) كان يسقي بستاناً له، فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر، وقال: {{اقتباس مضمن|رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعباً شديداً}}.<ref>صفة الصفوة، 1/ 265</ref>
[[ملف:Mrs Aisha room.jpg|تصغير|يسار|200بك|شباك الحجرة النبوية في [[المسجد النبوي]] حيث دُفن النبي محمد وأبو بكر وعمر.]]
[[ملف:Hujra 3.JPG|تصغير|200بك|يمين|واجهة قبور النبي محمد وأبي بكر وعمر داخل المسجد النبوي.]]
واستمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يوماً، حتى مات يوم الاثنين ليلة الثلاثاء [[22 جمادى الآخرة]] سنة [[13 هـ|13هـ]]، قالت السيدة عائشة: إن أبا بكر قال لها: {{اقتباس مضمن|في أي يوم مات رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}؟}}، قالت: «في يوم الاثنين»، قال: {{اقتباس مضمن|إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، ففيم كفنتموه؟}}، قالت: «في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة»، فقال أبو بكر: {{اقتباس مضمن|انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين}}،<ref>أصحاب الرسول، 1/ 106</ref> فقيل له: «قد رَزَقَ الله وأحسن، نكفنك في جديد»، قال: {{اقتباس مضمن|إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى}}.<ref>التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، الخلفاء الراشدون، ص104</ref> وقد أوصى أن تغسله زوجه [[أسماء بنت عميس]]، وأن يدفن بجانب النبي محمد، وكان آخرَ ما تكلم به أبو بكر قولَ الله تعالى: {{اقتباس مضمن|توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}}.<ref>سورة يوسف، الآية: 101</ref><ref>الشيخان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب برواية البلاذري في أنساب الأشراف، تحقيق إحسان صدقي العمد، ص69</ref> وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، استوفى سن النبي محمد، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس،<ref>الطبقات لابن سعد، 3/ 203-204، وإسناده صحيح</ref> ودفن جانب النبي محمد، وقد جعل رأسه عند كتفي النبي،<ref>تاريخ الإسلام للذهبي، عهد الخلفاء الراشدين، ص120</ref> وصلى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن، وألصق اللحد بقبر النبي محمد.<ref>أصحاب رسول الله، 1/ 106</ref>

وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يوماً أكثر باكياً وباكية من ذلك المساء، وأقبل علي بن أبي طالب مسرعاً باكياً مسترجعاً، ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: {{اقتباس مضمن|رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلفَ رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} وأنيسه، ومستراحه وثقته، وموضع سره ومشاورته}}، إلى أن قال: {{اقتباس مضمن|والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد {{صلى الله عليه وسلم}}، ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك}}، فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم، وقالوا: «صدقت».<ref>التبصرة لابن الجوزي، 1/ 477-479</ref><ref>أصحاب الرسول، 1/ 108</ref>

== ألقابه ==
لُقب أبو بكر بألقاب عديدة منها:
=== الصّدّيق ===
لقَّبه به النبي محمد، وذلك أن النبي محمداً كان قد صعد [[جبل أحد]] ومعه أبو بكر و[[عمر بن الخطاب]] و[[عثمان بن عفان]]، فرجف بهم الجبل فقال النبي محمد: {{اقتباس مضمن|اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان}}،<ref>[[صحيح البخاري]]، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب فضل أبي بكر، 5/ 11</ref> وأما سبب تسميته بالصديق فهو لكثرة تصديقه للنبي محمد، قالت السيدة عائشة: لما أسري بالنبي {{صلى الله عليه وسلم}} إلى [[المسجد الأقصى]] أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال إلى أبي بكر، فقالوا: «هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى [[القدس|بيت المقدس]]»، قال: «وقد قال ذلك؟»، قالوا: «نعم»، قال: «لئن قال ذلك فقد صدق»، قالوا: «أوتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟» قال: {{اقتباس مضمن|نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة}}، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.<ref>أخرجه الحاكم، 3/ 62-63، وصححه وأقره الذهبي</ref>

=== العتيق ===
لقَّبه به النبي محمد، فقد قال له: {{اقتباس مضمن|أنت عتيق الله من النار}}، فسمي عتيقاً،<ref>الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، 15/ 280، إسناده صحيح</ref> وقالت السيدة عائشة: {{اقتباس مضمن|دخل أبو بكر الصديق على رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}، فقال له رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|أبشر، فأنت عتيق الله من النار}}}}،<ref>رواه الترمذي في المناقب، رقم: 3679، وصححه الألباني في السلسلة 1574</ref> وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرةً لهذا اللقب، فقد قيل: «إنما سمي عتيقًا لجمال وجهه»،<ref>المعجم الكبير للطبراني، 1/ 52</ref> وقيل: «لأنه كان قديمًا في الخير»،<ref name="abc21">[[الإصابة في تمييز الصحابة]]، [[ابن حجر العسقلاني]]، 1/ 146</ref> وقيل: «سمي عتيقًا لعتاقة وجهه»،<ref name="abc21"/><ref>المعجم الكبير، 1/ 53</ref> وقيل: إن أمَّ أبي بكر كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة وقالت: «اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي».<ref>الكني والأسماء للدولابي، 1/ 6</ref>

=== الصاحب ===
لُقب به في [[القرآن|القرآن الكريم]]، وذلك في قول [[الله (إسلام)|الله تعالى]]: {{قرآن|التوبة|40|لا تخريج=1}}،<ref>سورة التوبة، آية: 40</ref> وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود في الآية هو أبو بكر،<ref>تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء، يسري محمد هاني، 39</ref> وقال الإمام [[ابن حجر العسقلاني]] في تفسير هذه الآية: «فإن المراد بصاحبه هنا أبو بكر بلا منازع».<ref>[[الإصابة في تمييز الصحابة]]، [[ابن حجر العسقلاني]]، 4/ 148</ref>

=== الأتقى ===
لُقب به في [[القرآن|القرآن الكريم]]، وذلك في قول [[الله (إسلام)|الله تعالى]]: {{قرآن|الليل|17|لا تخريج=1}}.<ref>سورة الليل، آية: 17</ref> وسبب ذلك أن أبا بكر عندما كان يشتري العبيدَ المسلمين ويعتقهم، قال له أبوه [[أبو قحافة]]: «يا بني، إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذا فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك؟»، فقال أبو بكر: «يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل»، فنزلت فيه آيات منها: {{قرآن|الليل|17|إلى آية=21|لا تخريج=1}}.<ref>سورة الليل، الآيات 17-21</ref><ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص42</ref>

=== الأوّاه ===
لُقب أبو بكر بالأواه، وهو لقب يدل على الخشية والوجل من [[الله (إسلام)|الله تعالى]]،<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، 20</ref> قال [[إبراهيم بن يزيد النخعي|إبراهيم النخعي]]: «كان أبو بكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته».<ref>الطبقات الكبرى، [[محمد بن سعد البغدادي|ابن سعد البغدادي]]، 3/ 171</ref>

== عائلة أبي بكر ==
{{شجرة عائلة أبو بكر}}
[[ملف:ذرية سيدنا أبو بكر.png|تصغير|600بك|مركز|<div style="text-align: center;">زوجات أبي بكر وذريته.</div>]]

== زوجاته وذريته ==
=== زوجاته ===
تزوج أبو بكر من أربع نسوة، أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وهن على التوالي:<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص21-22</ref>
# [[قتيلة بنت عبد العزى|قتيلة بنت عبد العزى بن سعد بن جابر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي]]، وهي أم عبد الله وأسماء.
# [[أم رومان الكنانية|أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة الكنانية]]، وهي أم عائشة وعبد الرحمن، توفيت في ذي الحجة سنة 4هـ أو 5هـ أو 6هـ.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص320</ref>
# [[أسماء بنت عميس|أسماء بنت عميس بن معد بن الحارث بن تيم الشهرانية الخثعمية]]، وهي أم محمد، كانت زوج جعفر بن أبي طالب، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر، ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص12</ref>
# [[حبيبة بنت خارجة|حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجية الأنصارية]]، وقيل: مليكة بنت خارجة، وهي أم أم كلثوم.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص61</ref>

=== ذريته ===
لأبي بكر ستة أولاد، ثلاثة ذكور وثلاث إناث وهم:<ref>سيرة أبي بكر الصديق، علي الصلابي، ص22-24</ref>
# [[عبد الرحمن بن أبي بكر]]، أمه أم رومان، وهو شقيق عائشة، توفي سنة 53هـ أو 55هـ أو 56هـ.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج3 ص462</ref>
# [[عبد الله بن أبي بكر]]، أمه قتيلة بنت عبد العزى، وهو شقيق أسماء، وهو الذي كان يأتي النبيَّ وأباه أبا بكر بالطعام وبأخبار قريش إذ هما في الغار كل ليلة، توفي أول خلافة أبي بكر في شوال سنة 11هـ.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج5 ص97</ref>
# [[محمد بن أبي بكر]]، أمه أسماء بنت عميس، وهو أخو عبد الله بن جعفر لأمه، وأخو يحيى بن علي لأمه.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج3 ص300</ref>
# [[أسماء بنت أبي بكر]]، أمها قتيلة بنت عبد العزى، وهي زوج الزبير بن العوام وأم عبد الله بن الزبير، لقبت بذات النطاقين.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص7</ref>
# [[عائشة بنت أبي بكر]]، أمها أم رومان، وهي زوج النبي محمد وأشهر نسائه، لقبت بالصديقة بنت الصديق وأم المؤمنين، وهي أحب الناس إلى النبي محمد، توفيت سنة 57هـ أو 58هـ ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص186</ref>
# [[أم كلثوم بنت أبي بكر]]، أمها حبيبة بنت خارجة، وقد ولدت بعد وفاة النبي محمد.<ref>أسد الغابة، ابن الأثير، ج7 ص373</ref>

== كتب ودراسات عنه ==
* أبو بكر حواري محمد، [[نظمي لوقا]]، دار الهلال، القاهرة، 1971،
* سيرة العتيق، موسى بن راشد العازمي، دار الصميعي للنشر والتوزيع.<ref>{{استشهاد ويب
| مسار = https://pbs.twimg.com/media/Dtv8Q8AXQAYDDCP.jpg
| موقع = pbs.twimg.com
| تاريخ الوصول = 2018-12-07
| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20200109181858/https://pbs.twimg.com/media/Dtv8Q8AXQAYDDCP.jpg | تاريخ أرشيف = 9 يناير 2020 }}</ref><ref>{{استشهاد ويب
| مسار = https://shamela.ws/index.php/author/2905
| عنوان = موسى بن راشد العازمي • الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة
| موقع = shamela.ws
| تاريخ الوصول = 2018-12-07
| مسار أرشيف = https://web.archive.org/web/20181023235556/http://shamela.ws:80/index.php/author/2905 | تاريخ أرشيف = 23 أكتوبر 2018 }}</ref>

== الآراء والمواقف حوله ==
=== نظرة أهل السنة والجماعة ===

يُعدّ أبو بكر أحد أكثر الشخصيات تبجيلاً عند [[أهل السنة والجماعة]]، فهو عندهم خيرُ الناس بعد الأنبياء والرسل، وذلك نقلاً عن [[علي بن أبي طالب]]، فعن [[محمد بن الحنفية]] (وهو محمد بن علي بن أبي طالب) أنه قال:
{{اقتباس|قلت لأبي: "أي الناس خير بعد رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}؟"، قال: "أبو بكر"، قلت: "ثم من؟"، قال: "ثم عمر"، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: "ثم أنت؟"، قال: "ما أنا إلا رجل من المسلمين".<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3395</ref><ref>[[سنن أبي داود]]، رقم: 4013</ref><ref>[[المعجم الأوسط]]، [[الطبراني]]، رقم: 822</ref>}}

ويعتبر أهلُ السنة أبا بكر أول من أسلم من الرجال الأحرار، وأول مسلم أوذي في الله بعد النبي محمد،<ref>أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، محمد بن عبد الرحمن العاصمي الحنبلي، ص18-20</ref> وأول من دافع عن النبي محمد، وأول من دعا إلى الإسلام من الصحابة، وأول من بذل ماله لنصرة الإسلام،<ref>أبو بكر الصديق، محمد بن عبد الرحمن العاصمي الحنبلي، ص23-25</ref> وهو عندهم أتقى الأمة بالكتاب والسنة، وأشجع الناس بعد النبي محمد، وأحب الخلق إلى النبي بعد السيدة عائشة، وأرجح الأمة إيماناً، وأكثر الصحابة زهداً،<ref>أبو بكر الصديق، محمد بن عبد الرحمن العاصمي الحنبلي، ص37-49</ref> وقد وردت أحاديث وآثار عديدة تبين فضل أبي بكر ومكانته، وتدل على أنه أحق الصحابة بالخلافة، ومنها:
* عن عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} في مرضه: {{اقتباس مضمن|ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر}} - [[حديث صحيح]].<ref>[[صحيح مسلم]]، رقم: 2387</ref>
* عن [[عبد الله بن عباس|ابن عباس]]، عن النبي أنه قال: {{اقتباس مضمن|'''لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي'''}} - [[حديث صحيح]].<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3656</ref>
* عن [[عمرو بن العاص]] أن النبي محمداً بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتاه فقال: «أي الناس أحب إليك؟»، قال: {{اقتباس مضمن|عائشة}}، فقلت: «من الرجال؟»، فقال: {{اقتباس مضمن|أبوها}}، قلت: «ثم من؟»، قال: {{اقتباس مضمن|ثم عمر بن الخطاب}} فعد رجالاً - [[حديث صحيح]].<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3662</ref>
* عن محمد بن [[جبير بن مطعم]] عن أبيه، قال: «أتت امرأة النبي {{صلى الله عليه وسلم}}، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: «أرأيت إن جئت ولم أجدك؟»، كأنها تقول: الموت، قال {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|إن لم تجديني فأتي أبا بكر}}» - [[حديث صحيح]].<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3659</ref><ref>[[صحيح مسلم]]، رقم: 2386</ref>
* عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|من أصبح منكم اليوم صائماً؟}}، قال أبو بكر: أنا، قال: {{اقتباس مضمن|فمن تبع منكم اليوم جنازة؟}}، قال أبو بكر: أنا، قال: {{اقتباس مضمن|فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟}}، قال أبو بكر: أنا، قال: {{اقتباس مضمن|فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟}}، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}}: {{اقتباس مضمن|ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة}} - [[حديث صحيح]].<ref>[[صحيح مسلم]]، رقم: 1028</ref>
* عن [[عبد الله بن عمر بن الخطاب|ابن عمر]] أنه قال: {{اقتباس مضمن|كنا نخير بين الناس في زمن النبي {{صلى الله عليه وسلم}}، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم}}.<ref>[[صحيح البخاري]]، رقم: 3655</ref>
* قَالَ [[محمد|رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]]: «''' إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلِي نَبِيٌّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ سَبْعَةَ رُفَقَاءَ نُجَبَاءَ وُزَرَاءَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: [[حمزة بن عبد المطلب|حَمْزَةُ]]، وَ[[جعفر بن أبي طالب|جَعْفَرٌ]]، وَ[[علي بن أبي طالب|عَلِيٌّ]]، وَ[[الحسن بن علي|حَسَنٌ]]، وَ[[الحسين بن علي|حُسَيْنٌ]]، وَأَبُو بَكْرٍ، وَ[[عمر بن الخطاب|عُمَرُ]]، وَ[[المقداد بن عمرو|الْمِقْدَادُ]]، وَ[[عبد الله بن مسعود|عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ]]، وَ[[أبو ذر الغفاري|أَبُو ذَرٍّ]]، وَ[[حذيفة بن اليمان|حُذَيْفَةُ]]، وَ[[سلمان الفارسي|سَلْمَانُ]]، وَ[[عمار بن ياسر|عَمَّارٌ]]، وَ[[بلال بن رباح|بِلَالٌ]] '''».<ref>[[مسند أحمد|مسند الإمام أحمد بن حنبل]] رقم [[الحديث النبوي|الحديث]]: 1219 (حديث مرفوع) حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا فِطْرٌ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ نَافِعٍ النَّوَّاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُلَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلِي نَبِيٌّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ سَبْعَةَ رُفَقَاءَ نُجَبَاءَ وُزَرَاءَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: [[حمزة بن عبد المطلب|حَمْزَةُ]]، وَ[[جعفر بن أبي طالب|جَعْفَرٌ]]، وَ[[علي بن أبي طالب|عَلِيٌّ]]، وَ[[الحسن بن علي|حَسَنٌ]]، وَ[[الحسين بن علي|حُسَيْنٌ]]، وَأَبُو بَكْرٍ، وَ[[عمر بن الخطاب|عُمَرُ]]، وَ[[المقداد بن عمرو|الْمِقْدَادُ]]، وَ[[عبد الله بن مسعود|عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ]]، وَ[[أبو ذر الغفاري|أَبُو ذَرٍّ]]، وَ[[حذيفة بن اليمان|حُذَيْفَةُ]]، وَ[[سلمان الفارسي|سَلْمَانُ]]، وَ[[عمار بن ياسر|عَمَّارٌ]]، وَ[[بلال بن رباح|بِلَالٌ]] ".</ref>

=== نظرة الشيعة ===
يؤمن [[الشيعة]] [[شيعة اثنا عشرية|الإثنا عشرية]] أن [[خلافة إسلامية|الخلافة]] أو [[إمامة|الإمامة]] لا تجوز إلا [[أهل البيت|لأهل البيت]]، وأن [[علي بن أبي طالب]] كان أحق بالخلافة من أبي بكر، ولكن أبا بكر غصبها من علي بن أبي طالب غصباً، وبالغ بعضُ متشددي الشيعة حتى زعموا أن أبا بكر لم يدخل الإسلام إلا طمعاً في الحكم والسلطة،<ref>الصديق بين السنة والشيعة، أحمد كمال شعت، نقلاً عن كتاب "حملة حيدرى" لبازل إيراني</ref> ويرى الشيعة أن بيعة أبي بكر لم تكن بالنص من النبي محمد، وهم يتفقون في ذلك مع [[أهل السنة والجماعة|أهل السنة]]، فقد قال [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]: {{اقتباس مضمن|إن رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من الناس، لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من [[رافضة|الرافضة]]}}.<ref>[[البداية والنهاية]]، [[ابن كثير الدمشقي|ابن كثير]]، 5/ 219</ref> ولكن [[شيعة اثنا عشرية|الشيعة الإثنا عشرية]] يختلفون مع أهل السنة في أن بيعة أبي بكر لم تكن بالشورى بين المسلمين، ولم تكن بإجماع المسلمين، وإنما كانت «فلتة» كما وصفها علماؤهم.<ref>[http://www.shiaweb.org/v2/news/article_48.html شبكة الشيعة العالمية، ما هو المصحح لخلافة أبي بكر] {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20170720204644/http://www.shiaweb.org/v2/news/article_48.html |date=20 يوليو 2017}}</ref> وقد استعاروا هذا التعبير من كلمة الخليفة عمر بن الخطاب عن بيعة أبي بكر حيث قال: {{اقتباس مضمن| فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت فلتة، ألا وإنها كانت كذلك، ألا وإن الله عز وجل وقى شرها ...}}.<ref>مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج 1، ص 55؛ تحت عنوان: حديث السقيفة.</ref>

وأما [[زيدية|الشيعة الزيدية]] فهم كإمامهم وصاحب مذهبهم [[زيد بن علي|زيد بن علي بن الحسين]] يرون صحة إمامة أبي بكر و[[عمر بن الخطاب|عمر]] و[[عثمان بن عفان|عثمان]]، ولم يقل أحدٌ منهم بتكفير أحد من [[الصحابة]]، ومن مذهبهم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ومعظم الزيدية المعاصرين يُقرُّون خلافة أبي بكر وعمر، ولا يلعنونهما كما تفعل بعض فرق الشيعة الأخرى، بل [[رضي الله عنه|يترضون عنهما]].<ref>[http://www.saaid.net/feraq/mthahb/4.htm الزيدية، إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي] {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20170719173800/http://www.saaid.net/feraq/mthahb/4.htm |date=19 يوليو 2017}}</ref>

=== نظرة الغرب ===
يقول المؤرخ والكاتب الأمريكي [[واشنطن إيرفينج]] في كتابه «محمد وخلفاؤه» عن أبي بكر:
{{اقتباس خاص|لقد كان رجلاً حُكمه عظيم، يقظاً حذراً، إدارياً بارعاً، أهدافه ومقاصده صادقة وغير أنانية، وموجهة نحو مصلحة القضية وليس نحو مصلحته الشخصية، وخلال فترة حكمه لم يخن شيئاً من أمور الدنيا الخسيسة، وكان لا يبالي بالثراء والبذخ والرفاهية، ولم يَقبل أي أجر مقابل خدماته، إلا مبلغاً زهيداً كافياً ليعيش حياة عربية من أبسط أنواع الحياة، حيث كانت حاشيته تتكون من جمل وعبد أسود، وأما الدخل الفائض الذي كان يدخل خزينته فقد كان يوزعه كل يوم جمعة، جزء منه يمنحه مكافأةً وتقديراً، والباقي يمنحه للفقراء، وكان دائماً على استعداد بأن يساعد المفجوعين والمكروبين من ماله الخاص.<ref>Mahomet and his successors, Washington Irving ص21-22</ref>}}

وقد ورد في [[موسوعة بريتانيكا|الموسوعة البريطانية "بريتانيكا"]] ترجمة موسَّعة لأبي بكر، خلاصتها:
{{اقتباس خاص|أبو بكر، يسمى أيضاً: "الصديق"، هو الصاحب الأقرب للنبي محمد ومستشاره، وهو الذي خلف النبي بوظائفه السياسية والإدارية، وبالتالي هو من أنشأ نظام الخلافة. يُزعم أن أبا بكر هو أول ذكر اعتنق الإسلام، ولكنَّ كثيراً من المؤرخين المسلمين يشكون في وجهة النظر هذه. برز أبو بكر في المجتمع المسلم الأول بسبب زواج محمد من ابنته عائشة، ثم بسبب اختيار محمد له ليكون رفيقه في الهجرة إلى المدينة المنورة سنة 622م. في المدينة المنورة، كان أبو بكر المستشار الرئيسي لمحمد (622م-632م)، ومن أبرز وظائفه آنذاك: إمارة الحج إلى مكة المكرمة سنة 631م، وإمامة الناس في الصلاة في المدينة المنورة أثناء مرض محمد. بعد وفاة محمد (8 يونيو 632م)، استطاع المسلمون في المدينة حل أزمة الخلافة باختيار أبي بكر خليفةً للنبي محمد. وخلال حكمه (632م-634م)، تمكن من قمع الانتفاضات القبلية السياسية والدينية المعروفة باسم "الردة"، وبالتالي إخضاع الجزيرة العربية تحت الحكم الإسلامي. وبعد ذلك، شرع بالفتوحات الإسلامية في العراق وسوريا.<ref>[https://www.britannica.com/biography/Abu-Bakr موسوعة بريتانيكا] {{Webarchive|url=https://web.archive.org/web/20150429212900/http://www.britannica.com/EBchecked/topic/2153/Abu-Bakr |date=29 أبريل 2015}}</ref>}}

== الملاحظات ==
{{ملاحظات}}

== المصادر ==
{{مراجع}}

== وصلات خارجية ==
{{روابط شقيقة}}
* [http://madeena.org/أبو-بكر-الصديق/ أبو بكر الصدّيق من موقع المدينة المنورة.]
* [http://rasoulallah.net/index.php/ar/articles/article/10720 أبو بكر الصديق نسبه وحياته من موقع 'رسول الله'.]
* [http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/126.htm سيرة أبي بكر الصديق، من موقع صيد الفوائد.]
* [http://islamstory.com/ar/أبو-بكر-الصديق مجموعة مقالات عن أبي بكر الصديق، من موقع قصة الإسلام.]
* [https://web.archive.org/web/20130318211753/http://www.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa نبذة عن شخصية الخليفة أبي بكر الصديق، من موقع إسلام ويب.]
* [http://www.islamhouse.com/p/6311 فضل الصحابة - أبو بكر الصديق، من موقع إسلام هاوس.]
* [http://www.sunna.info/Lessons/islam_631.html أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، من موقع أهل السنة والجماعة.]
* [http://www.elahmad.com/sahaba/index.php?page=abu_bakr خليفة رسول الله أبو بكر الصديق.]
{{بداية صندوق}}
{{S-hou|رأس [[بنو تيم|بني تيم]]||أكتوبر 573||22 أغسطس 634|[[قريش]]}}
{{S-rel|su}}
{{تعاقب-لقب جديد|منصب مُستحدث}}
{{تعاقب-لقب|title=[[خلافة إسلامية|خليفة رسول الله]]<br /><small>[[الخلفاء الراشدون|أول الخلفاء الراشدين]]</small>|years=8 يونيو 632{{Spaced ndash}}22 أغسطس 634}}
{{صندوق تعاقب/تبعه|after=[[عمر بن الخطاب]]}}
{{نهاية صندوق}}
{{شريط سفلي محمد}}
{{العشرة المبشرون بالجنة}}
{{شجرة عائلة العشرة المبشرين بالجنة}}
{{السابقون الأولون}}
{{صحابة}}
{{صحابة شهدوا غزوة أحد}}
{{صحابة شهدوا غزوة بدر}}
{{صحابة شهدوا غزوة الخندق}}
{{الخلفاء الراشدون}}
{{الخلفاء المسلمون}}
{{غزوات ومعارك القرن الأول الهجري}}
{{شخصيات وأسماء مذكورة في القرآن}}

{{مجددون}}
{{فقهاء الصحابة}}
{{ضبط استنادي|}}
{{معرفات الأصنوفة}}
{{شريط بوابات|أعلام|الإسلام|التاريخ الإسلامي|الحديث النبوي|الخلافة الراشدة|العرب|صحابة|محمد}}
{{شريط محتوى متميز|مختارة|النسخة=11157946 |تاريخ=26 يونيو 2013}}
{{لا لربط البوابات المعادل}}

[[تصنيف:أبو بكر الصديق| ]]
[[تصنيف:الخلفاء الراشدون]]
[[تصنيف:العشرة المبشرون بالجنة|أبو بكر]]
[[تصنيف:أشخاص اعتنقوا الإسلام]]
[[تصنيف:أشخاص من شبه الجزيرة العربية]]
[[تصنيف:أشخاص من مكة]]
[[تصنيف:خلفاء القرن 7]]
[[تصنيف:شعراء حجازيون في القرن 6]]
[[تصنيف:شعراء حجازيون في القرن 7]]
[[تصنيف:صحابة]]
[[تصنيف:صحابة شهدوا بيعة الرضوان]]
[[تصنيف:صحابة شهدوا غزوة الخندق]]
[[تصنيف:صحابة شهدوا غزوة أحد]]
[[تصنيف:صحابة شهدوا غزوة بدر]]
[[تصنيف:صحابة شهدوا غزوة تبوك]]
[[تصنيف:صحابة شهدوا غزوة خيبر]]
[[تصنيف:عائلة أبي بكر الصديق]]
[[تصنيف:محدثو الصحابة]]
[[تصنيف:مسلمون عرب]]
[[تصنيف:مفسرون في القرن 1 هـ]]
[[تصنيف:ملكيون في آسيا في القرن 7]]
[[تصنيف:مواليد 49 ق هـ]]
[[تصنيف:مواليد 50 ق هـ]]
[[تصنيف:مواليد 573]]
[[تصنيف:مواليد في مكة]]
[[تصنيف:وفيات 13 هـ]]
[[تصنيف:وفيات 634]]
[[تصنيف:وفيات في المدينة المنورة]]