محمد المهتدي بالله

من أرابيكا، الموسوعة الحرة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أميرُ المُؤْمِنين
مُحَمَّد المُهْتَدي بِالله
مُحَمَّد بنُ هارُون بنُ مُحَمَّد بنُ هارُون بنُ مُحَمَّد بنُ عبدُ الله بنُ مُحَمَّد بنُ عَلِيُّ بنُ عَبدُ الله بنُ العَبَّاس الهاشِميّ القُرَشيّ العَدنانيّ
دَرهَم فَضّي ضُرب في عَهد الخَليفة المُهْتَدي بِالله خِلال سَنة حُكمِه

معلومات شخصية
الميلاد 218 هـ / 833 م
القاطُول، سامرَّاء، الخِلافَة العبَّاسيَّة
الوفاة 18 رَجَب 256 هـ
(25 يُوليو 870 م) (37 عاماً)
سامَرَّاء، الخِلافَة العبَّاسيَّة
الكنية أبو عبد الله
أبو إسْحاق
اللقب المُهْتَدي
الخليفة الزَّاهِد
سادِس الخُلَفاء الرَّاشِدين
العرق عربي
الديانة مُسْلِمٌ سُنّيٌ
الأب هارُون الواثِق بِالله
الأم قُرب الرُّوميَّة
منصب
الخليفةُ العَبَّاسيُّ الرَّابِع عَشَر
الحياة العملية
معلومات عامة
الفترة 29 رَجَب 255 - 14 رَجَب 256 هـ
11 يُوليو 869 - 17 يُوليو 870 م
(إحدَى عَشَر شَهْراً وواحِد وعُشْرُون يَوماً)
مُحَمَّد المُعْتَز بالله
أحْمَد المُعْتَمِد على الله
السلالة عَبَّاسِيُون


أمِيرُ اَلْمُؤْمِنِين وَخَلِيفَةُ المُسْلِمِين الزَّاهِد والتَّقيّ العابِد أَبُو عَبدِ الله مُحَمَّد المُهْتَدي بِاللَّه بْن هَارُون الواثِق بْن مُحمَّد المُعْتَصِم بن هارُون الرَّشيد بن مُحَمَّد المِهْديّ العبَّاسيَّ الهاشميِّ اَلقُرشي (218 - الثَّامِن عَشَر من رَجَب 256 هـ / 833 - الواحِد والعُشْرُون مِن يُونيو 870 م)[1]، المعرُوف اختصارًا بإسم المُهْتَدي أو المُهْتَدي بالله، هو الخليفةُ الرَّابِع عَشَر مِن خُلَفاء بَني العبَّاس، حَكَم دَوْلة الخِلافَة العَبَّاسيَّة في المَراحل الأخيرة مِن فَوْضَى سامرَّاء، وذلك منذ السَّابِع والعُشْرُون مِن رَجَب 255 حتى الرَّابِع عَشَر مِن رَجَب 256 هـ / 11 يوليو 869 - 17 يونيو 870 م.

بُويِعَ المُهْتَدي للخِلافَة في فَترة فَوْضَى سامَرَّاء، والتي شهدت تحكُّم الجنرالات الأتراك للخِلافَة العبَّاسيَّة، حيث كانت في مراحل ضعف شديد سبَّب خُروج وِلايات عن سُلطة الخُلَفاء، وباتوا يخلعوُنهم، ليُبايع بعد أن تم إجبار مُحَمَّد المُعْتَز بالله على التَّنازُل عن الخِلافة ومن ثُم قُتل، وكان المُهْتَدي رافضًا لذلك، إلا أنه اضطُّر على مِضض أن يقبل بتولّي الخِلافَة.

حاول المُهْتَدي أن يُوقع بين الجنرالات الأتراك الذين خلعوا وقتلوا أربعة خُلفاء سابِقاً، لإعادة هيبة الخِلافة واستعادتها، إلا أنَّهُ تم خَلعُه مِن قبل الأتْراك بعد أقل من سنة مِن حُكمه، ثُمَّ قُتِل بعد أيَّام من التعذيب، وبُويع أحمد المُعْتَمِد على الله خليفةً مِن بعده.

نشأته

نسبه

هو مُحَمَّد المُهْتَدي بن هارُون الواثِق بن مُحَمَّد المُعْتَصِم بن هارُون الرَّشيد بن مُحَمَّد المِهديّ بن عبد الله اَلمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عليّ بن عَبدِ الله بن العبَّاس بن عبد المُطلب بن هاشِم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب بن مُرة بن كَعب بن لُؤي بن غالِب بن فَهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خُزَيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مَضَر بن نِزار بن مُعد بن عدنان.

أما والدتُه فهي أُم وَلَد رُوميَّة، اسمُها قُرب[2][3]، وقيل وَردة.[4]

وُلِد مُحَمَّد المُهْتَدي بِالله في القاطُول مِن نَواحي سامَرَّاء، وذلك عام 218 هـ / 833 م، في خِلافَة جدِّه المُعْتَصِم بِالله.[4]

خلافته

الخلفية

لا يُعرف الكثير عن حياة مُحَمَّد بن الواثِق بالله قبيل توليه الخِلافَة، إلا أنه عاصر فَوْضى سَامَرَّاء، والتي استأثر بِها الجَنَرالات الأتْراك بتعيين وخلْع الخُلَفاء، وتسببوا في تضعضع للخِلافَة العبَّاسيَّة، وخرجت مناطق عديدة من التَّبعية المُباشرة لسُلطة الخَليفة في بَغْدَاد، وحتى تولّي مُحَمَّد بن الواثِق بالله، فقد تأثر أربعة خُلفاء إمَّا بالخَلْع وإما تم قتلِهُم، اِبتداءً بالخليفة جَعْفَر المُتوكِّل، وحتى المُعْتَز بِالله، فلم تكُن الأمُور تُنذر باستقرار الأحوال.

وحينما عَزِمَ الأتْراك على خَلْع الخليفة السَّابق، وهو مُحَمَّد المُعْتَز بِالله، بسبب عدم تمكُّنه من دفع أرزاقِهِم، ولأن بيت المال كان فارغاً، اتَّفق الأتْراك مع المَغارِبَة والفراغِنة على خَلْعِه، فساروا إليه، وكان على رأس المُتآمرين إلى دار الخَليفة صالِح بن وصيف التُّركي، و مُحَمَّد بن بغا ومعهم بابَكْيال، وكانوا مُدججين بالسُيوف، فوقفوا على بابِه، وبعثوا إليه أن يخرُج إليهم، فتعذَّر بشُرب دواء، وبتَعب يجِده، فإن كان أمراً كبيراً فسمح بإدخال بعضهم، وهو يعتقد أن الأمور طبيعية، فدخلوا إليه بالقوَّة، وجرُّوه من أقدامِه إلى باب الحِجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصُه، وأقاموه في الشَّمس، وكان بعضهُم يضربُه وهو يحاول الاتَّقاء بيده، ثم أدخلوه حُجرة، وأحضروا ابن أبي الشَّوارب، وجماعة ليشهدوهم على خلعِه، وشهدوا على صالح بن وَصيِف أنَّ للمُعْتَز ووالدتهُ وأُخته الأمان، إلا أنه لم يكن أماناً فعلياً كما يبدو لاحقاً.[5]

إقناع المُهتدي

وفي نفس الفترة التي تم بِها خلعُ مُحَمَّد المُعْتَز بِالله، كان مُحَمَّد بن الواثِق بالله، مِنفياً من الخليفة المُعْتَز إلى بَغْدَاد، فاستُدعي بين يومٍ وليلة إلى سامَرَّاء، ودخل إلى قَصْر الجَوْسَق، وعُرض عليهِ الخِلافَة، إلَّا أنه رفض ولم يقبل ببيعة أحد إليه، وقال: «لا أفعل حتى أسمع بأذني خلع المُعتز نفسُه فالمثل السائر: لا يجْتمع فَحلان في شُول، ولا سيفان في غُمد»[3]، فجيء بالمُعْتَز إليه، وكان قميصَهُ مُدنَّساً، وعلى رأسِهِ مَنديل، فلما رآه مُحَمَّد بن الواثِق، قام إليه، وعانقهُ، بالرُّغم مِن أنه نفاه سابقاً، فجلسا على سرير الخِلافَة، فقال لهُ مُحَمَّد: «يا أخي ما هذا الأمر ؟» فرد عليه المُعْتَز: «أمرٌ لا أطيقُه، ولا أقوم به، ولا أصلِحُ له»، وأخبرهُ مُحَمَّد أنه مُستعد أن يتوسَّط لهُ، ويُصلح الحال بينهُ وبين الأتْراك، فقال المُعْتَز: «لا حاجة لي فيها، ولا يُرضوا بي»، فأحلَّهُ المُعْتَز مِن بيْعَتِه، وعاد إلى محْبَسِه.[2] وقيل أنَّهُ بعد أن سلَّم عليه بالخِلافة، وجلس بين يديّ المُعْتَز، فقيل لأبو عَبد الله مُحَمَّد بن الواثِق: «اِرتَفِع»، قال: «لا أرتفع إلا أن يرفعني الله بخلافَتِه»، فالتفَتَ إلى المُعْتَز وقال لهُ: «يا أميرُ المُؤمِنين، خلعت أمر البريَّة عن عُنُقك طوعاً ورغبة، وكُل من كانت لهُ في عُنُقِه بيعة فهو بريء منها ؟»، فجاوبهُ المُعْتَز مِن الخوف: «نعم!»، فقال: «خار الله لنا ولك يا أبا عبد الله»، ثُم ارتفع حينئذ إلى صدر المَجْلِس، وبايعهُ النَّاس.[3]

قام الأتْراك بعد ذلك، بمنع المُعْتَز بِالله مِن الطَّعام والشَّراب ثلاثة أيَّام، ثم أدخلوه سرداباً، وجصّصوا عليه فمات عطِشاً، وأشهدوا عليه بَني هاشِم والقادة، ودفنوه مع المُنْتَصِر بِالله. وكانت خِلافتُه أربَع سَنَوات وستَّة شُهور، وكان عمرُه أربع وعَشْرُون عاماً، وذلك حَصَل بعد أن بايَع المُهْتَدي بِالله.[5]

بيعته للخلافة

أشهد المُعْتَز على نفسِه بأنه عاجز عن القيام بأمر الخِلافَة، وأنَّهُ يرغب بتولّي مُحَمَّد بن الواثِق بِالله لمنصب الخَليفة، ثُم مد يدُه، وكان أوَّل المُبايعين إليه، وذلك في يوم الأربعاء، في التَّاسِع والعُشْرُون مِن رَجَب 255 هـ / الواحِد والعُشْرُون مِن يُوليو 869 م، ولُقِّب بالمُهْتَدي بِالله، ثُم بايعهُ الخاصَّة دوناً عن العامَّة، ولكِن، وبسبب عدم معرفة أهل بَغْدَاد بالأمر، حدث شَغَباً كبيراً في بَغْدَاد وهاجَ النَّاس على نائبها سُليمان بن عَبدُ الله بنُ طاهِر، ودعوا لمُبايعة أبي أحمَد بن المُتَوكِّل على الله، أخٌ للمُعْتَز، ووقع بين الناس قتلاً وغرقاً للكثير، بسبب عدم علمِهم بما جرى في سامَرَّاء، وبعد أن جاؤهم المَال، وفُرَّق بينهُم[6]، علِموا بأنَّ المُهْتَدي قد بُويع خليفةً، فبايعهُ العامَّة في السَّابِع مِن شَعْبان / الرَّابِع والعُشْرُون مِن يُوليو، وهدأ النَّاس، وتبدأ خِلافة مُحَمَّد المُهْتدي بالله.[7]

إصلاحات المُهتدي

كان الخليفة المهْتدي بِاللَّه رَجُلا تقيًّا، وشُجَاعاً، وسِياسِيًّا، وحازمًا، ومُحبًّا لِلْعدْل والرَّعِيَّة مُتقيِّدًا بِسيرة الخَليفةُ الأُمَويّ عُمَر بْن عَبْد اَلعزِيز فِي العدالةِ والْحُكْم والتقشُّف، فقد أمَرَ بأن يتم نفي المُغنّين، والعازِفين من العاصِمة العَبَّاسيَّة سامَرَّاء وألحقها بإبطال الملاهي، كما أمَرَ بقتل السِّباع، والنُّمور التي كانت في دار السُّلْطان، ووجَّهَ بقتل الكِلاب المُعدَّة للصيد، وردَّ المَظالِم إلى أهلِها، ونادى بأن يُؤمر بالمَعْرُوف ويُنْهَى عَن المُنْكَر، وجلس لِلعامَّة.[8]

تعديات صالح بن وصيف

كان صالِح بنُ وَصِيف التُّركي، يقوم بسلسلة من الإجراءات التي لم يكُن للخليفة المُهْتَدي أيّ استطاعة على مَنعِها أو المُوافَقَة عليها، ومن ذلك، أنَّهُ وفي يوم الخميس، في السَّابِع والعُشْرُون مِن رَمَضان 255 هـ / الحادي عَشَر مِن سَبْتَمْبَر 869 م، اتَّهم صالِح الوَزير أحْمَد بنُ إسرائيِل الأنْبَاريّ، وأبي نُوح عيِسى بن إبراهيم، والذي كان نصرانياً، واعتَنَق الإسلام، وكان كاتِب قَبِيحة جارية المُتَوكِّل، بأنَّهُما خانوا الأمانة، وكانوا يحرِصُون على دوام الفِتَن، والسَّعي في شِقاق عَصا المُسْلِمين، فأذاقهُم العَذاب[9]، وضربهُما حوالي خُمْسُمائة سُوط، بعد استِخلاص أموالهِما، ثُم طيف بِهِما على بَغْلين مُنكَّسين، فلقيا المَوْت وهُم على هذا الوَضْع، كما أمر بحبس الوزير الحَسَن بن مُخلَّد، وحينما بلَغَ ذلك الخليفة المُهْتَدي، قال: «أمَا عُقوبة إلَّا السُوط والقَتْل ؟ أما يكفي الحَبْس ؟ إنَّا لله وإنَّا إليهِ راجِعُون!» وكرَّر ذلك مِراراً.[6]

مجيء موسى بن بغا

كان القائد التُّركي مُوسى بنُ بُغا الكَبير أميراً على الرَّيّ، وقائداً للجيش الذي يتولَّى مُحاربة الحَسَن بنُ زَيْد العَلَويّ أمير طَبَرسْتان الثَّائر، فلمَّا بَلَغهُ خَبَر ما قام به صالِح بنُ وَصِيف من خلع وقَتل للخليفة المُعْتَز، ثُم مُبايعة الخليفة المُهْتَدي، ترك الثُّغر، وأقبل مِن سامَرَّاء على رأس جيش، وحينما وُرد ذلك الخبر للخليفة المُهْتَدي، بَعَث إليه كُتُباً كثيرة، طالباً مِنهُ البقاء على الثُّغر، فلم يفعل، فأرسل إليه رُسُل من بَنِي هاشِم، فلم يطِع، وكان صالِح خائفاً من عودة مُوسى، فكان يُعظِّم انصِرافهُ عن الثُّغر، وينسبهُ بذلك إلى المُعصية والخِلاف عن أمر الخليفة.[10] وقيل في رِوايةٍ أُخرى، أن الخليفةُ المُهْتَدي استَشْعَر كميَّة التدخُّلات والتعدَّيات التي يقوم بها صالِح بنُ وَصيف، ومُحَمَّد بن بُغا وغيرِهم من الأتْراك، فطَلَب إستدعاء مُوسَى بن بُغا إلى حَضْرَتِه، وذلك كي يتقوَّى بِه على مَن عندُهُ من الأتْراك، ولِتَجْتَمِع كلمةُ الخِلافَة، فاعتذر مُوسى عن اسْتِدعائه في هذا الوقت، وتحجَّج بالجِهاد في الثُّغور، ويبدو أنَّهُ أجَّل قُدومِه، وكان طلب استدعاؤه في أواخر سنة 255 هـ / أواخر 869 م.[8]

وفي صبيحة يوم الإثنين، الثَّاني عَشَر مِن مُحَرَّم 256 هـ / الرَّابِع والعُشْرُون مِن دِيسَمْبَر 869 م، جاء مُوسَى بنُ بَغا الكَبير على رأس جيشٍ هائل، ودخل مدينةُ سامَرَّاء، حيث كان صالح بن وصيف قد اختفى، وقَصَد مُوسى دار الخِلافَة، حيثُ يُقيم بِها الخليفةُ المُهْتَدي بِالله، والذي كان جالساً للعامَّة لكشفِ مظالِمَهُم، فاستأذن الدُّخول على الخَليفة مع بعض قادَتِه، ومرَّت ساعة، حتى تأخَّر الإذن عنهُم، فظنُّوا في أنْفُسِهِم، أنَّ الخليفة إنما طلبَهُ خديعةً مِنه، كي يُسلِّط عليهُم صالِح التُّركيّ، فدخلوا عليهِ هَجْماً، وجعلوا يُحادِثُونهم باللُّغة التُّركيَّة، ثُمَّ عزِموا، فأقاموا الخَليفة مِن مَجْلَسِه، ونَهَبوا كُل ما وجدوه في المَكان، ثُم أخذُوه قِسراً إلى داراً أُخرى، وبات الخليفة يقول لمُوسى بن بُغا: «ما تُريد ؟ ويحَك! اتِّق الله وخِفه فإنك ترتَكِب أمراً عظيماً»[10]، فردَّ عليهِ مُوسى: «لا بأس عليك، احلِف لي أنَّك لا تُريد لي خِلاف ما أظْهَرت»[11]، فحلَفَ لهُ المُهْتَدي، فطابت أنْفُسَهُم، وبايَعُوه بيعةً ثانية، مُشافِهة، وأخذوا عليه العُهُود والمَواثِيق، بأن لا يُمالئ أو يُؤيَّد صالحاً عليهِم، واتَّفقوا جميعَهُم على ذلِك، ويبدو أن الثِّقة في هذه الفَوْضى، وتسارُع الأحداث، صَعْبَة على الجَميع.[11] وحينما أرسلوا إلى صالِح التُّركيّ باستدعائه، ليحْضُر عِندهم، ويُطالبوه بدِماء الكتَّاب والأموال التي كانت للمُعْتَز، فوعدَهُم بذلك، وحينما أسدَل الليل، رأى أنَّ أصحابُه قد تفرّقوا عَنه، ولم يبقَ إلَّا القليل مِنهم، فآثر الهُروب والاخْتِفاء، ولم يزل مُختفياً حتى أواخر صَفَر / أوائل فَبْرايِر.[12]

مؤامرة رجال موسى بن بغا

في يوم الأربِعاء، السَّابِع والعِشْرُون مِن مُحَرَّم 256 هـ / الثَّامِن مِن يَنايِر 870 م، جاءت إمرأة تحملُ كِتاباً، ودفعتهُ إلى كافُور الخادِم المُوكَّل بالحَرَم، وقالت لهُ إنَّ فيهِ نصيحة، وأنَّهُم إن شاؤوا العُثور عليها يستطيعون إيجادها في المكان الذي وصفت لهُ إيَّاه، فأوصل الكِتاب إلى الخَليفة المُهْتَدي، وحينما تم طلبِها في ذلك المَكان، لم يُعرف لها مكان، ولم يُعرف لها خَبَر، وكان الكِتاب حسبما تعرَّف عليه الحُضور أنَّهُ كُتِب بِخَط صالِح بنُ وَصِيف، وكان يتواجد في حَضْرَة الخَليفة، الوزير سُلَيْمان بنُ وَهَب، ومُوسى بن بُغا، ومُفْلِح الخادِم، وبايكباك، وياغور، وبكالبا، وغيرهُم من رُؤوس التُّرك، فأمر الخليفة أن يُقرأ أمامِهِم، فإذا صالِح يذكُر فيه أنه مُختفي في سامَرَّاء، وذلك حرصاً على الموالي، وخوفاً من إيقاع حرب بين القَوم، وذكَر أن أخبار الكُتَّاب الذين جلدهم وقتلهم مُوجود عند الحَسَن بن مُخلَّد، وأنَّهُ أسير في سُجونِهم، وأنَّ أخبار قَبيحة جارية المُتَوكِّل موجودة عند أبي صالح بن يزداد، وصالح العطَّار.[13]

فلمَّا فرغ سُلَيْمان بنُ وَهَب مِن قِراءة الكِتاب، حثَّ الخليفة المُهْتَدي على الصُّلح، والهُدْنة، والاتِّفاق، ويُذكرهم بقُبح الفِرقَة والتباغُض، وبسبب كلامِه، ظنَّ بعض رِجال مُوسى بن بُغا، أن الخليفة يعلم بمكان صالحاً، وأنَّهُ يُفضِّلهُ عليهم، وكان بينهُم كلاماً كثير ومُناظرات طويلة، وكان ذلك عِند دار مُوسى، فقال بعضهُم البَعْض: «اِخلعوا هذا الرَّجُل» أيَّ الخليفة المُهْتَدي، فقال أحدُهُم: «أتقتلون رجلاً صوَّاماً قوَّاماً لا يشْرَب النَّبيذ ولا يأتي الفَواحِش ؟ والله إن هذا ليس كغيرِهِ مِن الخُلَفاء، ولا يُطاوِعَكُم النَّاسُ عليه»، فبلغَ الخَبَر الخليفةُ المُهْتَدي، فخَرَج إلى النَّاس في قاعَتِه وهُو مُتَقلِّداً سيفاً، وكان قد تطيَّب ولبس ثياباً نظيفة، وجَلَس على سَرير الخِلافَة، واستدعى مُوسى بن بُغا وأصحابُه، فرفضوا في البداية، إلا أنَّهُم لم يجدوا بداً من الأمر[11]، وقال لهُم الخَليفة:

إِنَّه قد بَلغَنِي مَا أَنتُم عليْه مِن أَمرِي، ولسْتُ كمن تقدمني مِثْل أَحمَد بْن مُحمَّد المسْتعين ولَا مثل اِبْن قَبِيحَة، وَاَللَّه مَا خَرجَت إِليْكم إِلَّا وَأنَا مُتَحنط، وقد أُوصِيت إِلى أَخِي بِولديْ، وَهذَا سَيفِي، وَاَللَّه لِأضْرِبن بِهِ مَا اِسْتمْسك قَائِمة بِيَدي، وَاَللَّه لِأن سقط مِن شَعْرِي شَعرَة لِيهْلِكن أو لِيذْهَبْن بِهَا أكْثرَكم، أمَا دِين ؟ أمَا حَيَاء ؟ أُمًّا رِعَة ؟ كم يَكُون هذَا الخلَاف على الخُلَفاء والْإقْدام والْجُرأة على اَللَّه ؟ سَوَاء عليْكم مِن قَصْد الإبْقاء عليْكم، ومن كان إِذَا بَلغَه مَثل هذَا عَنكُم دعَا بِأرْطَال الشَّرَاب، فَشَربهَا سُرورًا بِمكْروهكم، وَحُبا لِبواركم، خَبرُوني عَنكُم، هل تعْلمون أَنَّه وصل إِلى مِن دُنْياكم هَذِه شَيْء، أُمًّا إِنَّك تَعلَّم يَا بايْكباك أنَّ بَعْض المتَّصلين بِك، أَيسَر مِن جَماعَة إِخوَتي وَولَدِي ؟ وَإِن أَحبَبت أن تَعرِف ذَلِك، فانْظر هل ترى فِي منازلهم فرْشًا أو وَصائِف، أو خدمًا، أو جِواري، أَولُهم ضَيَاع، أو غَلَّات ؟ سَوأَة لَكم! ثُمَّ تقولون إِنِّي أَعلَم عِلْم صَالِح وهل صَالِح إِلَّا رَجُل مِن الموالي ؟ وكواحد مِنْكم، فكيْف الإقامة معهُ إِذا ساء رأْيكم فِيه، فَإِن آثرْتم الصُّلْح كان ذَلِك مَا أَهوَى لِجمْعِكم، وَإِن أبيْتم إِلَّا الإقامة على مَا أَنتُم عليْه، فَشأنِكم، فاطْلبوا صالحًا ثُمَّ أبْلغوا شِفَاء أَنفسِكم وَأمَّا أنَا فمًا أَعلَم عِلْمه.[12]

وبَعْد خِطابه، قالوا: «فاحلف لنا على ذلك»، قال: «أما اليَمين فإني أبذلها لكم، ولكني أؤُخرها حتى تكون بحضرة الهاشِميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غداً إذا صليت الجُمُعة»، فهدأت أنفسُهُم قليلاً، وقد صلَّى المُهْتَدي بالنَّاس وانصرفوا هادئين دون أثر حول الأمر.[14]

مناصرة أهل بغداد للمُهتدي

في يَوْم السَّبْت، الثَّلاثين مِن مُحَرَّم 256 هـ / الحَادي عَشَر مِن يَنايِر 870 م، راجَ عِند العامَّة مِن النَّاس، أن التُّرك أوشكوا على خَلْع الخَليفة المُهْتَدي، ويفتكُوا بِه، وأنَّهُم أرهقوه في مطالِبهُم، وكَتبوا الرَّقاع أو الرَّسائل، وألقوها في المَسْجَد والطُرُقات، وذَكَر المُؤرِّخ الطَّبَريّ رُقعة، كان نصُّها:

بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم، يا معشَر المُسلمين، ادعوا الله لخليفَتُكُم العَدِل الرَّضي المُضاهي لعُمر بن الخَطَّاب، أن ينصرهُ على عدوِّه، ويكفيه مُؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسُه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مُخلَّد، رحم الله من أخلص النيَّة ودعا وصلَّى على مُحَمَّد صلَّ الله عليه وسلَّم.[14]

وفي يوم الأرْبِعاء، الرَّابِع مِن صَفَر / الخامِس عَشَر مِن يَناير، تحرَّك المُناصرين للخليفة المُهْتَدي مِن عامَّة النَّاس، وتحديداً من مَنطَقتي الكَرَخ والدُّور، وبعثوا برسالة إلى الخليفة أن يُرسِل إليهم بعض إخوته ليحمِّلوه رِسالة، فوجَّه إليهم أخاه أبا القاسِم عَبدُ الله بن هارُون الواثِق، فذكروا لهُ أنَّهُم سامِعون مُطيعون لأمير المُؤمِنين، وأنَّهُم بلغَهُم أنَّ مُوسى بن بُغا وأصحابُه، يُريدون خلعِه، وأنَّهُم -أي المُناصِرين- سيُقدِّمون دِماؤُهم دُون ذلك[14]، كما شكوا تأخُّر أرزاقِهِم، وزيادة الضَّرائب والرُّسوم، فكتبوا كِتاباً مُوجَّهاً للخليفة، وكان الكاتِبُ هو مُحَمَّد بن ثُقَيْف الأسْوَد، وكان يبلغُ عدد المُناصِرين مائة وخَمسُون فارِساً، وخُمْسُمائة رجُل، ووجهوه إلى عبد الله بن هارُون، فحملهُ إلى أخيه الخليفةُ المُهْتَدي، فقرأهُ، ثُم كَتَب جَوابُهُ بخَطِّه، وخَتَمَهُ بِخَتْمِه، فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليا وحافظا، فهمت كتابكم وسرني ما ذكرتم من طاعتكم، وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم، فأما ما ذكرتم من خالاتكم وحاجتكم فعزيز على ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بأن لا آكل ولا أطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا يسع شئ دونه، ولا ألبس أحدا من ولدى إلا ما ستر العورة، ولا والله حاطكم الله ما صار إليَّ منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمى إلا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد، ويرد كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم، وأما ما ذكرتم مما بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهلُ ذلك، وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة، فجزاكم الله عن أنفسكم، وعهودكم، وأمانتكم خيراً، وليس الأمر كما بلغكم، فعلى ذلك فليكن عملكم إن شاء الله، وأما ما ذكرتم من الاقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله، والسلام عليكم، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظاً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيراً.[14]

فلما فُرغ مِن قِراءة الكِتاب، وقال النَّاس ما قالوا، فأشار أبو القاسِم عَبدُ الله بن الواثِق، أن اكتبُوا كِتاباً إلى الخليفة، فكتبوا إليه، أن تعُود أمور السياسة والخِلافَة إلى أمير المُؤمِنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه مُعترض، وأن يُعيد الضرائب والرسوم التي كانت تُؤخذ في عهد المُسْتَعين بِالله، وغيره من المَطالِب، مثل مُحاسبة مُوسى بن بُغا، وصالح بن وصيف عمَّا لديهِم من أموال[15]، وذكروا أنهم سيبقون عِند باب أمير المُؤمِنين، حتى يقضي حوائجُهُم، وتعهَّدوا بأنه لو تعرَّض للخليفة أحداً ما، سيأخذون برأسِه، وإن سقط شعرة من رأس الخليفة، سيقتلون مُوسى بن بُغا وبايكباك ومُفلح وغيرهم.[16]

وقد أمر الخَليفة المُهْتَدي بإجابة مطالبِهم، وسيَّرها مع أخيه أبي القاسم، كما كَتَب لهُم مُوسى بن بُغا وأن صالِح بن وصيف لهُ الأمان بظهُورِه، وذكَّر أنهُ أخوه وابن عمَّه، فلما قرأ وُجهاء بَغْدَاد كتاب الخَليفة ومُوسى بن بُغا، أكدوا أنهم سيبدون رأيهم في اليوم التالي.[15]

وفي اليوم التالي، أيّ في الخامِس مِن صَفَر 256 هـ / السَّادِس عَشَر مِن يَنايِر 870 م، خرج مُوسى بن بُغا مِن دار الخليفة، ومعهُ حوالي ألف وخُمْسُمائة رجُل، فوقف على طريقهم، وأتاهم أخو الخَليفة أبي القاسِم، فلم يعقَل مِنهم جواباً شافياً، وأخذ النَّاس يقولون ما يختلفُ بهِ غيرَهُم، فلمَّا طال الكلام، غادر أبو القاسِم، واجتاز بموسى بن بُغا بين جيشِه، فانصرف معه.[15] ثُم أمر المُهْتَدي بِالله مُحَمَّد بن بُغا أن يسير إليهم مع أخيه أبي القاسِم، فسار في خُمْسُمائة فارِس، وتقدم مع أبي القاسم ووعدوهم عن المُهْتَدي بأن أعطوهم توقيعاً فيهِ أمان لصالِح بنُ وَصِيف، إلا أن وجوه بَغْدَاد طلبوا أن يكُون مُوسى في مَرتبة بُغا الكَبير، وأن يكون مَنزِلة صالِح في مَرتبة أبيه وَصِيف، ويُوضع لهُم العَطاء، ثم اختلفوا، فرضيت جَماعة، ورفَضَتهُ جَماعة.[17]

مقتل صالح بن وصيف

وفي اليوم الآخر، أيّ في السَّادِس مِن صَفَر 256 هـ / السَّابِع عَشَر مِن يَنايِر 870 م، ركَبَ بنُو وَصِيف التُّركي، ونادوا بإشهار السُّيوف، فنهبوا دوابَّ العامَّة مِن النَّاس، وتحصَّنوا في مدينة سامرَّاء، واحتجزوا بأبي القاسم أخو الخليفة، فبلغ ذلك الخليفة المُهْتَدي، فقال لمُوسى: «يطلبون صالحاً مِني كأني أنا أخفيتُه! إن كان عِندهم فينبغي لهُم أن يظهَروُه»، ثُمَّ تحرَّك مُوسى بن بُغا مع قُوَّادِه، على رأس أربَعةِ آلاف فارِس، وعسكروا، وتفرَّق الأتراك ومَن معهُم، ولم يكُن لأهل الكَرَخ، ولا لأهل الدُّور حَركَة في هذا اليوم، وجدَّ مُوسى في طلب صالِح، واتَّهموا جماعة بإخفائه، فلم يكُن عِندهم، ويُروى أن غُلاماً دخل داراً وطلب ماء ليشربُه، فسمع قائلاً يقول: «أيُّها الأمير تنحّ، فإن غُلاماً يطلُب ماء»، فتوجَّه نحو عياراً فأخبرهُ بذلك، فأخذ معهُ ثلاثة أشخاص وجاؤوا إلى صالِح بنُ وصيف، وكان بيدهِ مِرآة ومِشط، وهو يُسرّح لحيَتُه، فأخذ صالحاً وهو يتضرَّع إليه، فقال لهُ: «لا يُمكنني تركك، ولكني أمر بك على ديار أهلك وقُوَّادِك وأصحابك، فإن اعترضك مِنهم اثنان أطلقتُك»، فأخرجهُ حافياً ليس على رأسِهِ شيء، والعامَّة تمشي مِن خلفِه وتراه، راكباً على بَرَذُون، فأتوا به إلى قصْر الجَوْسَق، فضربهُ بعض أصحاب مُوسى بن بُغا على عاتِقِه، ثُم قتلوه وحزُّوا رأسُه، وتركو جُثمانُه، وأدخلوه إلى دار الخَليفة المُهْتَدي، فقالوا لهُ في ذلك ما قالوا، فقال: «واروه»، فحُمل رأسُه، وطيف به على قناة، ونادى المُنادي: «هذا جزاء من قتل مولاه -أيّ المُعْتَز بالله-».[18]

خلعه ومقتله

تحرك المهتدي للقضاء على الأتراك

بسبب نفاد خزينة الدَّولة نتيجة الصّراعات الداخليَّة وعزل وقتل الخُلفاء السَّابِقين على يد الأتراك، هاجوا العَسكَر التُّرك في الكَرَخ والدُّور، حيث تحرَّكوا في الأوَّل مِن رَجَب 256 هـ / الثَّامِن مِن يُونيو 870 م، طلباً لأرزاقِهِم ومعاشاتِهم، فوجَّه الخليفة المُهْتَدي أخاهُ أبو القاسم ومعهُ القائد التُّركي كيغْلَغ وغيرهما، ففاوضُوهم وهدأوهم، إلا أن هُنالك خَبَر بَلَغ مُحَمَّد بنُ بُغا أن المُهْتَدي قال للأتراك أنَّ الأموال مُوجودة عِند مُحَمَّد بن بُغا وأخيه مُوسى، فهرب إلى أخيه مُوسى، فكتب المُهْتَدي إليه أربعة كُتُب مُعطياً إيَّاه الأمان، فرجع مع أخيه حبشون بن بُغا، فحبسهُما الخليفة المُهْتَدي، ومعهما كَيْغَلغ، لفسادِهِما، وطالبَهُم بالأموال، فقُبض مِن وكيلِه خَمسةَ عشر ألف دِينار، وقُتِل في الثَّالِث مِن رَجَب 256 هـ / العاشِر مِن يُونيو 870 م[19]، وكَتَب المُهْتَدي إلى مُوسَى بن بُغا حين حَبَس أخاه، أن يُسلم العسكر إلى القائد بابَكْيال، ويرجع إليه مِن مُحاربة الخارجيّ مُساوِر الشَّاري، وأرسل كِتاباً إلى بابَكْيال يُطالبِهُ فيه بقتل مُوسى بن بُغا ومعهُ مُفلِح، ولكنَّ بابَكْيال، وهو تُركي، سار إلى مُوسى، فقرأ عليهِ كِتاب المُهْتَدي، وقال: «لستُ أفرح بهذا، فإنه تدبير علينا جميعنا -أي الأتراك- فما ترى ؟»، فقال لهُ مُوسى: «أرى أن تسير إلى سامَرَّاء، وتُخبرهُ أنك في طاعتِه ونصُرَتِه عليّ وعلى مُفلح، فهو يطمئنُّ إليك، ثُمَّ تدبَّر في قَتلِه»[19]، ويقول المُؤرِّخ اِبن كَثير أن المُهْتَدي أراد بذلك أن يُخالف بين الأتراك وإضْعاف شَوكَتِهم.[20]

تدارك المهتدي لخيانة بابكيال

في يوم الجُمْعة، الثَّاني عَشَر مِن رَجَب 256 هـ / التَّاسِع عَشَر مِن يُونيو 870 م، أقبَلَ بابَكْيال ومعهُ مِن القُوَّاد التُرك ياركُوج، وأسارتكين، وسِيما الطَّويل، وغيرهِم، إلى مدينة سامَرَّاء، فدخلوا دار الخِلافَة، ولم يكونوا على عِلم بما سيجري، وكان في الدّار الأمراء والسَّادة من بَني هاشِم، فأمر الخليفة المُهْتَدي باعتِقال بابَكْيال، لكونِه لم يقتُل مُوسى ومعهُ مُفلحاً[21]، وتركَ البقيَّة يخرجون آمِنين، فاجتمعوا وقالوا: «لِمَ حُبس قائدنا ؟ ولِمَ قُتل أبو نَصْر -أي مُحَمَّد بن بُغا- ؟».[19][20] وقرروا أن يُحيطوا بقَصْر الجَوسَق[21]، وكان صالِح بنُ عليّ بن يعقُوب بن المَنْصُور العَبَّاسي حاضراً عِند الخليفة المُهْتَدي حينذاك، وكان قد شاوَرهُ في أمرِهم، فقال لهُ صالِح بنُ عليّ: «إنَّهُ لم يَبلغُ أحدٌ من آبائكَ ما بلغتَهُ مِن الشَّجاعة، وقد كان أبُو مُسْلِم أعظمُ شأناً عِند أهلِ خُراسان مِن هذا عِند أصحابِه، وقد كان فيهُم مَن يعبدُه، فما كان إلا أن طُرح رأسُه حتى سكتوا، فلو فعلتَ مِثل ذلك سكتوا»، فما كان مِن المُهْتَدي أن أمر بضرب عُنق بابَكْيال[20]، وكان بابَكْيال قد نَهَب وأفسَد في الرَّعية خِلال فترة نُفوذه، وشكا النَّاس إلى الخَليفة أمرُه، فوجَّههُ بالكفّ عن ذلك، فلم يقبل، ويُروى أن الخليفة المُهْتَدي قال على لِسانِه: «أريد قلع هؤلاء الأتراك وتطهير الدُنيا مِنهُم» في إشارة إلى تعاظُم نُفوذِهم وفسَادِهم مُنذ أيَّام المُعْتَصِم بِالله وحتَّى تسبَّبُهم في فَوْضَى سامَرَّاء.[22]

المعركة بين المهتدي والأتراك

في يوم السَّبت، الثَّالِث عَشَر مِن رَجَب / العُشْرُون مِن يُونيو، أيّ في اليوم التالي من اعتقال وقَتْل بابَكْيال، جهَّز المُهْتَدي بِالله جمعاً مِن المَغارِبة، والأتراك، والفراغِنة، وقادَهُم بِنفسِه، فوضعَ في المَيمنة مَسْرُور البَلَخي، وفي المَيسرة ياركُوج، ووقف في القلب مع أسارتكين وطبايغوا، وهُم كانوا يُدينون بالولاء لبابَكْيال، وكان جَمَع الأتراك يُطالب بإخراج بابَكْيال مِن أمام قَصْر الجَوْسَق[23]، وأمر الخليفة المُهْتَدي بإلقاء رأسِهِ إليهم مِن خلال عَتَّاب بنُ عتَّاب، فرمى رأسُه إليهم، فجاشوا، وكرهوا عَتَّاب، وقتلُوه، وحصلت خيانة كَبيرة نتيجة خطأ المُهْتَدي اعتقادُه أنهم سيُطيعونه، فقد عطفت المَيْمَنة بقيادة مَسْرُور البَلَخي وميسَرتِه بقيادة ياركُوج بمن فيها من الأتراك، وانقلبوا على الخَليفة واتجهوا للقِتال مع بقيَّة إخوانهم الأتراك[20]، وفي اليوم التَّالي، أي يوم الأحد، اقتتل الأتراك وكان عددهم قد وصل عشرةِ آلاف[23]، ضد المَغارِبة، والفراغِنة قِتالاً شديداً، وقُتل جماعة من الفريقين، حتَّى قُتل من الأتراك نحو أربعة آلاف.[20][24] إلا أن قُوات الخليفة المُهْتَدي انهَزَمت، وكان الخَليفة ما يزالُ حاملاً للسيف، والمُصحف في عُنُقه، مع صالِح بنُ علي العبَّاسي، وكان يركُض في شارعٍ عام مِن سامَرَّاء ويُنادي: «يا مَعشر المُسلِمين! أنا أميرُ المُؤمِنين، قاتِلوا عن خليفَتكُم»، فلم يُجبه أحد من العامَّة، فسار إلى باب السَّجن، فأطلق من فيه وهو يظنُّ أنهم سيُعينونه، فهربوا ولم يُعنهُ أحد.[19]

القبض على المهتدي وقتله

بعد انهِزام قُوات المُهْتَدي، واستنجاده قيام النَّاس معه فكان مخذولاً ولم يُجبه أحد، سار المُهْتَدي إلى دار صاحب الشُرطة أحمَد بن جَميل، فدخلها وكان الأتراك يُلاحِقونه، فوضع سِلاحُه، ولبس زياً أبيضاً، وكان يعلوا داراً وينزل أخرى، وكان أحمد بن خاقان التُّركي يمضي على رأس ثلاثينَ فارِساً، يسأل عن المُهْتَدي، حتى علِم بأنه في دار ابن جَميل، وكان المُهْتَدي قد بادر في صُعود الحائط ليلُوذ بالدار الأخرى، لكنَّهُ رُمي بسَهْم، وبُعج بالسَّيف، ثم حمله ابن خاقان على دابَّة، وجاء بِهِ إلى قَصْر الجَوْسَق، فجعل الأتراك يضربونه، ويُشتمونه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع، وأقرَّ لهُم أو جعلوه يُقر لهم بسُتمائة ألف كان قد أودعه بالقُوَّة، وأمرُوه أن يخلع نفسُه من الخِلافَة على غِرار سَلَفِه المُعْتَز، لكنَّهُ رَفَض، واستسلم للقتل، فقاموا بدوس خُصيتيه، وضربُوه بقوَّة، وخلعوا أصابع يديه وقدميه مِن كَعبيه، حتَّى قُتِل من أثر التعذيب الذي تعرَّض له[25]، وكان قد قُتل في يَوم الخَميس، الثَّامِن عَشَر مِن رَجَب 256 هـ / الخامِس والعُشْرُون مِن يُونيو 870 م، وأشهدوا على موتِه أنَّهُ سَليم ليس بهِ أثر، وصلَّى عليهِ جَعْفَر بن عبد الواحِد[20]، ثُمَّ دُفن في مقبرة المُنْتَصِر.[19]

سياسته الداخلية

الوزارة

بعد استِلام الخليفة المُهْتَدي بالله للخِلافة، أقر جَعْفَر بن مُحَمَّد الإسكافي على الوِزارة، حيث عُين وزيراً في فترة خِلافة المُعْتَز بِالله، ورُغم أنَّهُ كان قليل العِلم والأدب، إلا أنَّهُ كان يستميل النَّاس بالهدايا والعطايا، فاستمر على وِزارته أشهُر قليلة، ثُمَّ عزلهُ الخليفة، وعيَّن بدلاً منه، أبو صالِح جَعْفَر بنُ أحمد بنُ عمَّار، ثم آخِرهُم سُليمان بن وَهَب، وكان أحد العُقلاء، من ذوي الرأي، وهو سليل عائلة عملت في بِلاط الخِلافة منذ العَهْد الأُمَويّ المُبكر حتَّى زمَن أبيه وَهَب والذي كان في خِدمة جَعْفَر البَرمَكي، وكان سُليمان كاتباً للخليفة عَبدُ الله المأمُون حينما كان في الرَّابِعةَ عَشَر مِن عُمرِه حتى وفاتِه، فاستمرَّ على وِزارتِه، حتى خُلع الخليفة المُهْتَدي.[26]

إشرافه على الدواوين

كان الخليفة المُهْتَدي بالله يُشرف بنفسِه على الحُكم في أمور النَّاس، واتُّفق أنه سمع يوماً، وهو بأعلى قَصْر الجَوْسَق يُشرف على رُؤية النَّاس وهُم لا يرونُه، أن رجلاً قال لرجُل: «نصبت ميزاب سطحِك في مُلكي ؟ بيني وبينك أمير المؤمنين!»، فسجد وبَكَى، ثُم رَفَع رأسُه وقال: «الحَمدُ لله الذي أراني الدُّنيا هكذا، وهذا والله قد طيَّب عليّ المَوت»، وكان ذلك دلالة من دلالات على أنَّهُ كان يحكُم بالعَدل ويُعرف بِه، ولا يرضى بالظَّلم.[3]

وقال نَفْطُويه: «حدثني بعض الهاشِميين، أنهُ وجد للمُهْتَدي سفط فيهِ جبة صُوف، وكساء كان يلبِسهُ بالليل ويُصلي فيه، وكان قد اطَّرح الملاهي وحرَّم الغِناء، وحسَم أصحاب السُلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلسُ بنفسه، ويُجلسُ الكُتَّاب بين يديه، فيعملون الحساب، وكان لا يخل بالجلوس الاثنين والخَميس، وضرب جماعة من الرؤساء، ونفى جَعْفَر بنُ مَحمُود إلى بَغْدَاد، وكره مكانُه، لأنه نُسب عِنده إلى الرَّفض».[4]

ومِما يُروى مِن عدلِه، فقد تظلَّم رجُلاً من الرُّملة في فِلَسْطين إلى أمير المُؤمِنين المُهْتَدي مِن عامل المدينة، فأمر بإنصافِه وكتب لهُ كِتاب إليه، فأخذهُ المُهْتَدي ووقَّع أسطُراً بخطّه وختمِه بيده، وسلَّمُه إلى الرَّجُل وهو يدعو له، وحينما رأى هذا الرجُل من المجلس أشياء لم يَعهْدها، وشاهد رحمة المُهْتَدي وبُرُّه بالرَّعية وتولية أمورهم بِنفسِه، سَقَط مُغشيَّاً عليه، فنهض المُهْتَدي يُعاينهُ بِنفسِه، فلما أفاق، قال لهُ: «ما شأنك ؟ أبقيت لك حاجة ؟» فردَّ الرَّجُل: «لا والله، ولكني ما رجوتُ أن أعيش حتى أرى هذا العدل»، قال لهُ المُهْتَدي: «كم لزمك -أي كم تكلَّفت- مُنذُ خرجت من بلدك ؟» فقال: «أنفقت عشرين ديناراً»، فقال المُهْتَدي: «إنا لله! كان الواجِب علينا أن نُنْصِفك، وأنت في بلدك ولا نحوجك إلى تعب وكُلفة، وإذ لم يتَّفق ذلك، فهذه خمسون دينار مِن بيت مال المُسلِمين، فإني لا أملك مالاً، فخُذها لنفَقَتِك، قادماً، وراجعاً، واجعلنا في حل من تَعَبِك وتأخُّر حقَّك»، فبكَى الرَّجُل حتى غُشي عليه ثانيةً وأجهش بعض الحاضرين بالبُكاء، وبَهَت آخرُون من المَوقِف[10]، فأنشد أحدُ الحاضِرين شِعراً نسبهُ الأعْشَى:

حكَّمْتُموه فقَضَى بَينَكُم
أبلَجُ مِثل القَمَر الزَّاهِر
لا يَقبِلُ الرَّشْوة في حُكمِه
ولا يُبالي غُبن الخاسِر

فردَّ المُهْتَدي عليه: «أما أنت، فأحسن الله جَزاءَك، وأما أنا فما رُويت هذا الشِّعر ولا سَمِعتُ بِه، ولكني أذكُر قول الله عزَّ وجل: ونضعُ المَوازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلِمُ نفسٌ شيئاً، وإن كان مِثقال حبَّة من خَردَل أتينا بها وكفى بنا حاسبين»، فما بقي مِن المجلس إلا استغرَق في الدُّعاء والبُكاء، ودعوا لهُ بطُول العُمر ونَفاذ الأمر.[3]

حياته الشخصية

صفتهُ الخلقيَّة

كان واسِع الجُبهة، أسمراً، رقيقاً، أشْهَل، جَهْم الوَجه، حسِن العَينين، عريض البَطن، عريض المَنكبين، قصيراً، طويل اللَّحية وحسِنة المَنظر.[20][25]

أخلاقُه

كان الخليفة المُهْتَدي بِالله زاهِداً، صوَّاماً قواماً، لم تُعرف لهُ زَلَّة، مُتعبداً، وحسِن الخُلُق، عفيف النَّفس[25]، وقيل أن المُهْتَدي كان قد بدأ الصَّوم مُنذ أن ولي الخِلافَة، حتَّى استُشهِد، وكان يُحب الاقتداء وسلك طريق الخليفة الأموي الزَّاهِد عُمر بن عبد العَزيز في أيَّام خِلافَتِه.[20] وكان سَهل المَعشر، كريم الطَّبع، يُخاطب أصحاب الحوائج بِنفْسِه، وكان يلبِس الصُّوف الخَشِن تحت ثيابِه على جِلدِه، وكان يقول: «لو لم يكُن الزُّهد في الدُّنيا والإيثار لِما عِند الله من طبعي، لتكلَّفتُه وتصنَّعتُه، فإن منصبي يقتضيه، فإني خليفةُ الله في أرضِه، والقائم مقام رَسولِه، النَّائب عنهُ في أمَّتِه، وإني لأستحي أن يكون لبني مُروان عُمر بن عَبد العزيز، وليس لبني العَبَّاس مثلِه، وهُم آل الرَّسولِ صلَّ الله عليه وسلَّم، وبهِ ألزم وإليه أقرب».[3]

دينُه

كان المُهْتَدي بِالله من صالح بَنِي العَبَّاس، يُحب العدل، وينبُذ الظُّلم، وقد بنى قبَّة لها أربعة أبواب، وسمَّاها قبة المظالم، وجلس فيها للعام والخاص للمظالم، يأمر بالمعرُوف، وينهى عن المُنكر، وحرَّم الشَّراب، ونهى عن القيان، وكان يحضُر كُل جُمْعة إلى المَسجد الجامِع، فيُؤم بالنَّاس، إلا أن الدَّولة كانت في مرحلة لا يُمكن إصلاحها مِثل الخَليفة المُهْتَدي في صلاحِه، وكثرة عِبادَتِه.[27]

روايته للحديث

روى المُهْتَدي بالله حديثاً واحِداً، حدَّث عن عليّ بن أبي هاشم بن طبراخ، عن مُحَمَّد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى، عن داوُد بنُ علي عن أبيه، عن عبدُ الله بن العَبَّاس قال: «قال العباس: يا رسُول الله ما لنا في هذا الأمر؟ قال: لي النّبُوَّة، ولكُم الخِلافَة، بِكُم يُفتح هذا الأمر، وبِكُم يُختَم، وقال للعبَّاس: مَن أحبَّك نالتهُ شفاعتي، ومن أبغَضَك لا نالتهُ شفاعتي»، ضعَّفهُ الوادِعيّ.[20][وب 1]

ميراثُه

كان الخليفة المُهْتَدي بالله من أروع خُلفاء بَني العَبَّاس، وحاز على محبَّة كُل من عاصرُه من العُلماء والأُدباء، فلم يُقال عنه إلا المديح والثَّناء سواءٍ لشخصِه، أو لحُكمِه وشجاعته في مُواجهة النُّفوذ التُّركي الذي استولى على الخِلافَة العَبَّاسِيَّة، فعاصر فترة عصيبة جدًا على البِلاد، عُرفت آنذاك بفَتْرة سَامَرَّاء، ولم يكُن مُتوقع منه فعل الكثير في وضعٍ استفحَل في شؤون الخِلافَة، وعجِز بعض أسلافِه من الخُلفاء عن مُواجهته بعدما جَلب المُعْتَصِم بالله الأتراك كي يكوُّنوا جبهة واسِعة في الجيش العَبَّاسِيّ الإسلامِيّ، وقد قال عنهُ بعض العُلماء ما يُوضح عمَّا كان بِه المُهْتَدي بالله:

  • المُؤرِّخ والإمام الخَطيبُ البَغْدَاديّ: «كان المُهْتَدي بِالله مِن أحسن الخُلَفاء مَذهباً، وأجمَلهُم طريقةً، وأظهَرَهُم وَرَعاً، وأكثَرُهُم عِبادةً».[20]
  • المُؤرّخ والإمام جَلالُ الدّين السُّيوطِيّ: «وكان المُهْتَدي .. ورِعاً، مُتعبِّداً، عادلاً، قوياً في أمر الله، بطلاً شُجاعاً، لكنَّهُ لم يجد ناصِراً ولا مُعيناً».[4]

مراجع

فهرس المنشورات

فهرس الوب

  1. ^ "الدرر السنية". dorar.net. مؤرشف من الأصل في 2023-04-01. اطلع عليه بتاريخ 2023-11-15.

معلومات المنشورات كاملة

الكتب مرتبة حسب تاريخ النشر

قبلــه:
مُحَمَّد المُعْتَز بِالله
الخِلافَة العَبَّاسِيَّة
869 – 870
بعــده:
أحمَد المُعْتَمِد على الله